تعكس هذا الواقع النقاط الست التي أعلنت وزارة الخزانة الأميركية في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء "التوافق عليها بين مصر وإثيوبيا والسودان" بحضور وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، ورئيس البنك الدولي، ديفيد ملباس. فبعد 3 أيام من التفاوض السياسي والفني، تخللها لقاء لوزراء الخارجية والمياه للدول الثلاث مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واتصالات مكثفة في العواصم والقيادة السياسية بكل منها، كان الاتفاق على صياغة تلك النقاط التي ما هي إلا تكريس لحق إثيوبيا في الملء السريع والعاجل لبحيرة سد النهضة الرئيسية، استغلالاً لحقيقة أنّ التوقعات المناخية تشير إلى أنّ العامين الحالي والمقبل، على الأقل، سيشهدان فيضاناً قياسياً لروافد النيل الأزرق. فيما أُجِّل حسم المعضلة الرئيسية التي أفشلت المفاوضات الفنية السابقة، وهي طبيعة التدابير التي ستُتَّخَذ في فترات الجفاف، والآلية التي من الواجب اتباعها للتنسيق بين الدول الثلاث لمنع الإضرار الجسيم بمصالح مصر تحديداً.
وجاءت معظم النقاط التي "جرى التوافق عليها"، ومن المقرر أن تكون نواة لاتفاق شامل ومفصّل، في صورة ترديد للمواد الرئيسية في اتفاق المبادئ، الذي وقعه السيسي مع الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله ميريام ديسالين، وقوبل آنذاك برفض مصري شعبي وحكومي واسع.
فالنقطة الأولى تنصّ على ملء البحيرة الرئيسية للسدّ بطريقة "تعاونية ومتكيفة على أساس هيدرولوجيا النيل الأزرق"، وبصورة تراعي حالة السدود الأخرى على مجرى السدّ. وعلى الرغم من أنّ هذه النقطة كانت ترغب مصر في التشديد عليها للربط بين مستوى بحيرة ناصر خلف السدّ العالي بأسوان ومستوى بحيرة سدّ النهضة، إلا أنّ ترك الصياغة مفتوحة ومبهمة من دون تحديد طريقة الربط ومدى الاسترشاد بمقياس المياه في السدّ العالي، يوحي بنجاح الإثيوبيين في الرفض المطلق للاسترشاد بأي مؤشرات في دول المصب، ما قد يؤدي إلى تفريغ هذه النقطة من محتواها عملياً. فهم متمسكون بأنّ الحفاظ على منسوب المياه في بحيرة ناصر عند 165 أو 170 متراً كما تطلب مصر، قد يؤدي إلى حرمانهم إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب، وبالتالي ترى أنّ المحددات لا يمكن أن تقاس بأي مؤشر في دولة المصب.
وجاءت النقطة الثانية لتضمن حقّ إثيوبيا في الملء خلال موسم الفيضان والأمطار، أي بين يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، ويمكن أن يستمر لسبتمبر/ أيلول في ظروف معينة.
وترتبط بالنقطة الثانية النقطة الثالثة التي تضمن لإثيوبيا أيضاً الوصول بمستوى المياه في بحيرة السدّ إلى 595 متراً فوق سطح البحر، بشكل سريع، بما يساعد على التوليد المبكر للكهرباء. وهي نقطة كانت إثيوبيا حريصة عليها بالنظر لنيتها بدء التوليد في سبتمبر 2021، لكنها في المقابل لم تحدّد السبل البديلة التي على مصر والسودان اتخاذها في تلك الأشهر للحفاظ على منسوب المياه في خزاناتهما، فضلاً عن عدم وجود آلية مراقبة لصحة ودقة الإجراءات الإثيوبية.
وجاءت النقطة الرابعة استكمالاً لسلسلة الصياغات غير الحاسمة، إذ تنصّ على ملء البحيرة بعد إتمام الملء الأول والوصول إلى المنسوب المطلوب لتوليد الكهرباء، على مراحل، تبعاً لظروف هيدرولوجيا النيل الأزرق ومستوى بحيرة السدّ، وذلك للحفاظ على وتيرة وصول المياه للسودان ومصر، من دون تحديد المنسوب المقبول في البحيرة مستقبلاً، أو حتى المنسوب الذي يجب الحفاظ عليه في الخزانات الأخرى.
وأتت النقطة الخامسة لتفصح بجلاء عن تأجيل حسم النقاط الخلافية إلى مفاوضات لاحقة، سيكون أبرزها الاجتماع الذي سيعقد في واشنطن يومي 28 و29 يناير/ كانون الثاني الحالي، التي تتمثل بوضع آلية "واضحة لم تُحسَم بعد، لضمان عدم الإضرار بمصر والسودان في فترات الجفاف". ومثلها النقطة السادسة المستمدة بالأساس من اتفاق المبادئ، بزعم الاتفاق على وضع آلية تنسيق فعالة ودائمة لفضّ المنازعات.
والحصيلة أنّ اجتماعات واشنطن، التي بدأ إعلام الموالاة للسلطة في مصر يروج لها باعتبارها نجاحاً للسيسي واستغلالاً لعلاقته الطيبة بترامب، قد فشلت في حسم ثلاثة مشاكل أساسية، أُولاها استمرار عدم الاتفاق على آلية واضحة لوقاية مصر من الأضرار في فترات الجفاف بإرجائها لمفاوضات لاحقة.
والمشكلة الثانية استمرار الخلاف حول طبيعة آلية التنسيق التي كان من المقرر التوافق عليها بحلول منتصف الشهر الحالي، بحسب البيان الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، وذلك في ظلّ إصرار أديس أبابا على حقها السيادي المطلق في إدارة السدّ.
أمّا المشكلة الثالثة، فهي الفشل في الاتفاق على آلية محددة لحسم النزاعات، بما في ذلك العجز عن التوافق على تفعيل المادة العاشرة من اتفاق المبادئ، التي تنصّ على أن تتفق الدول الثلاث على تسوية النزاعات الناشئة عن خلاف في تفسير الاتفاقية، ودياً، من خلال استدعاء طرف رابع للتوفيق أو الوساطة، أو إحالة المسألة للنظر فيها من قبل رؤساء الدول أو رؤساء الحكومات.
في السياق، قالت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك توافقاً غير معلن بين الأطراف كافة على إعلان التوصّل إلى اتفاق يزعم تحقيق المكاسب للجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة التي كانت طامعة في تسجيل نقاط دبلوماسية لمصلحة إدارة ترامب وتحسين صورته الدولية.
وأضافت المصادر أنّ "كلاً من إثيوبيا والسودان رفضتا طلب مصر أن تبدأ الوساطة الأميركية رسمياً، حسب المادة 10 من اتفاق المبادئ، وألا تعود الدول الثلاث إلى طاولة المفاوضات إلا في إطار البحث عن حلّ نهائي بالوساطة الأميركية"، الأمر الذي يطرح تساؤلات جادة عن سبب تضمين مادة في اتفاق المبادئ تكاد تكون مصر الطرف الوحيد المتمسك بها، ما يعني تعطيلها عملياً.
وسبق أن قال مصدر إثيوبي تابع لـ"جبهة تحرير تجراي"، أحد مكونات التحالف الحاكم الحالي، وتجمعها علاقة متوترة سياسياً برئيس الوزراء أبي أحمد، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إنّ مسؤولين حكوميين في وزارة الطاقة ومشروع سدّ النهضة أبلغوا قيادات الجبهة بأنّ توليد الطاقة الكهربية من السدّ سيبدأ جزئياً في يوليو أو أغسطس 2021.
وقبيل انطلاق الاجتماعات الفنية الحاسمة برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي، صرّح نائب مدير مشروع السدّ، بيلاتشو كاسا، لوكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية بأن عملية الإنشاء تتقدم من دون أي تباطؤ "كما كانت من قبل"، وأنه تمّ بالفعل الانتهاء من لوح الوجه الخاص بسدّ السرج، وهو سدّ الخرسانة للوجه الصخري، الموجود على يسار السد الرئيسي، وللحفاظ على سلامة تدفق المياه، أُنجز العمل في جانب المجرى ليصبح السدّ قادراً على توفير الطاقة المطلوبة حتى 100 عام. إذ سيضم السدّ ثلاثة مجارٍ للمياه، بما في ذلك مجرى مائي في وسط السدّ الرئيسي، وممر للفتحات (قناطر) يمكن أن يسمح بأكثر من 14 مليون متر مكعب من المياه، وممر للطوارئ في الجانب الأيسر من سد السرج.
وكان السيسي قد طلب من أبي أحمد خلال زيارته لمصر في يونيو/ حزيران 2018، بصيغة متعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أنّ إثيوبيا لن تضر بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية.
وصرح السيسي مطلع عام 2018 بأنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع البشير وديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من تردي المفاوضات، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي. ثمّ اعترف الرئيس المصري خلال المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد في سبتمبر/ أيلول الماضي بصعوبة الموقف، ملقياً باللائمة على ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، بأنها أعطت إثيوبيا فرصة الإسراع في إنشاء السد.