حركة "النهضة" تواجه تحالف خصومها: الفوز أو المعارضة

03 سبتمبر 2019
الغنوشي: بحثنا عن مرشح ديمقراطي، ولم نجد سوى استئصاليين(Getty)
+ الخط -
تكتسب الشهادة التي قدمها رئيس حركة "النهضة" التونسية راشد الغنوشي أمام كوادر الحركة في 31 أغسطس/ آب الماضي، أهمية خاصة ضمن السياق السياسي الراهن في هذا البلد. قال الغنوشي إن الحركة "لم تكن ترغب في تقديم مرشح من داخلها للانتخابات الرئاسية، لكنها دُفعت لذلك"، وإنها "لم تكن ترغب في حيازة السلطات الثلاث بيديها"، وكانت "تعوّل على توزيع السلطات، وتفاوضت طويلاً مع ثلة من المرشحين حول تحالف معلن، لكنها وجدت منهم صدّاً وإقصاء". ووفق تعبيره، فقد "استاءت الحركة من إعلان هؤلاء المرشحين عن نيّتهم إقصاء النهضة على الرغم من سعيهم لكسب دعمها". على هذا الأساس، قدّم رئيس حركة "النهضة" تقريره إلى أعضاء مجلس شورتها، معلناً رفض المرشحين الرئاسيين لشروط الحركة الخاصة بالتحالف المعلن، ما دفع بأعضاء الشورى نحو التصويت لصالح تقديم مرشح من داخل الحركة، وكان "أفضل خيار" هو عبد الفتاح مورو، بحسب قوله.

بناء على ذلك، أبدى الغنوشي استنكاره بالقول "إننا بحثنا عن مرشح أمين وديمقراطي، ولم نجد سوى استئصاليين يعلنون أنهم ضد النهضة". وتساءل: "أهؤلاء نرشحهم أو ندعم ترشحهم؟ قطعاً لا، وإذا فعلنا، فهي خيانة لتونس"، ليختم شهادته بالقول: "بيننا وبين الاستئصاليين الصندوق".

وتفسر هذه الشهادة تبدل موقف الغنوشي في مجلس الشورى الأخير. فبعد دفاعه المستميت عن رفض المشاركة في الانتخابات الرئاسية، أبدى رئيس "النهضة" حماسة كبيرة لترشيح عبد الفتاح مورو، وذلك نتيجة رفض الأحزاب الفاعلة التحالف أو الاتفاق العلني مع الحركة حول سياسة توزيع الأدوار التي سبق أن مارستها مع أطراف عديدة طيلة السنوات الماضية. وهو ما جعل "النهضة" تتبنّى سياسة الهجوم والمغامرة، لكي تثبت حضورها، وتفك العزلة التي يريد الخصوم أن يدفعوها نحوها.


من بين الأطراف الذين تفاوضت "النهضة" معهم، رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد، الذي كان في أشد الحاجة لدعم الحركة في الانتخابات الرئاسية. وسعى إلى ذلك الغنوشي نفسه، على الرغم من وجود تيار "نهضوي" واسع رافض لاستمرار التعاون مع الشاهد وحزبه "تحيا تونس". لكن رئيس الحركة طلب مقابل هذا الدعم وضع اتفاق مسبق بين الحزبين، يتم خلاله تقاسم السلطة، بما في ذلك السعي المشترك لكي يكون راشد الغنوشي رئيساً للبرلمان. لكن الأخير فوجئ بموقف مراوغ من قبل رئيس الحكومة الذي طلب إرجاء هذه المسألة إلى ما بعد الانتخابات، مكتفياً بالتعبير عن رغبته أولاً في أن تقف "النهضة" إلى جانبه، وثانياً أن يبقى هذا الاتفاق سرياً بين الطرفين. والأهم من ذلك أن تغض "النهضة" طرفها، وأن تصم أذنيها عن الانتقادات اللاذعة التي يطلقها محسوبون على حزب الشاهد ضدها وضد رموزها.

ويكشف ما حدث خلال الأسابيع الماضية أن تغيراً هاماً حصل في علاقة جميع الأطراف بحركة "النهضة"، بما في ذلك الأحزاب والفعاليات الرئيسية. فرحيل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ترك فراغاً كبيراً، وأهم المتضررين من وفاته هو الغنوشي الذي كان قد توافق مع الرئيس الراحل خلال المرحلة السابقة. ونتج عن ذلك تقديم الانتخابات الرئاسية على الانتخابات البرلمانية، ما يترتب عليه أن الفوز أو الخسارة في السباق نحو قصر قرطاج، سيترك بالضرورة تأثيره سلباً أو إيجاباً على التشريعيات. وبذلك تكون حسابات جميع المرشحين قد تغيرت، بما فيها حسابات "النهضة".

من جهة أخرى، لاحظت "النهضة" أن جميع القوى قررت أن تتجنّب الاقتراب العلني منها، وجاهرت بالسعي إلى إقصائها وتهميشها سياسياً. ورفضت تيارات سياسية عديدة أي شكل من أشكال التعاون مع الحركة، على اعتبار أن ذلك سيضر بها سياسياً ويتعارض مع مصالحها ومع "مبادئها". أما الجهات التي كانت تطمع بالاستفادة من الحركة، فقد عرضت على قيادتها صيغة نادرة ومضحكة، هي أشبه بعقد زواج عرفي، وأن يحصل بسرّية تامة.

هكذا وجدت "النهضة" نفسها تواجه الجميع، وتعمل على تعبئة صفوفها بشكل كامل. وهي حالياً لا تراهن فقط على فوز مورو بالرئاسة، وإنما تعمل على تحقيق أقصى درجات التعبئة لكي تظفر بالأغلبية البرلمانية، ما من شأنه أن يعزز حظوظها في تشكيل الحكومة المقبلة أو الحكومات التي ستليها.

وعلى الرغم من أن مورو سيستفيد من تشتت منافسيه الذين ينتمون لما يسمى بالعائلة الوسطية والحداثية، إلا أن هذا الانقسام قد يختفي أو يؤجل مؤقتاً في حال انتقل مورو إلى الجولة الثانية، ووجد منافساً له أحد أبناء هذه الأسرة السياسية. عندها سيتم اللجوء إلى ما يعرف بالتصويت المفيد، وذلك من أجل خلق تكتل واسع يقف ضد مرشح "النهضة" ومحاولة حرمانه من الحصول على منصب الرئاسة.

كما يمكن أن يمتد الحرص على إقصاء الحركة من كل المشاورات الخاصة بتشكيل الحكومة المقبلة، وذلك عن طريق تعاون بعض مكوّنات "العائلة الوسطية" من توحيد جهودها وصفوفها من أجل تشكيل حكومة من دون "النهضة". هذا السيناريو وارد، وإذا ما تم عملياً، فإنه يعني الدفع بالحركة نحو الانتقال من السلطة إلى المعارضة. عندها يخشى الكثير من قادة الحركة، وفي مقدمهم راشد الغنوشي، أن يصبح الحزب أكثر عرضة للاستهداف من قبل خصومه المتشددين، سواء أكانوا من اليسار أم يمثلون واجهات النظام القديم.

هكذا يتبيّن أن مشاركة "النهضة" في الانتخابات الرئاسية ستضعها أمام تحديات جديدة. فهي إن تمكنت من الوصول إلى قصر قرطاج، فسيعتبر ذلك نقلة ضخمة لها ولأنصارها، وسيجعل منها القوة المحورية الحاكمة في تونس خلال السنوات الخمس المقبلة. أما إذا فشلت ولم يفز مرشحها في السباق الرئاسي، فقد تجد نفسها مدفوعة للانتقال إلى صفوف المعارضة، وهو ما قد يشجع خصومها الأكثر تشدداً للعمل على التخلص منها نهائياً، وذلك على الرغم من التغييرات الديمقراطية الهامة التي حصلت في البلاد.