تتعزز مؤشرات انهيار التهدئة في شمال غربي سورية التي كانت قد بدأت نهاية شهر أغسطس/آب الفائت بعد 4 أشهر من التصعيد الذي خلق أزمات إنسانية في محافظة إدلب، ما دفع الجانب الروسي إلى إعلان وقف لإطلاق النار لبلورة تفاهم جديد مع الجانب التركي، إذ من المقرر عقد قمة للثلاثي الضامن في سورية (روسيا وتركيا وإيران) بعد أيام في أنقرة. وعاد الطيران الروسي لضرب مواقع في مدن وبلدات في ريف إدلب، في مؤشر على تصعيد يسبق القمة لفرض الرؤية الروسية التي تطالب بحل "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) وفتح الطرق الدولية، في وقت يتحدّث فيه النظام عن أن وقف إطلاق النار "يلفظ أنفاسه الأخيرة".
وأفاد "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، أمس الخميس، بتجدد القصف الجوي لليوم الثالث على التوالي على مناطق في محافظة إدلب ومحيطها، إذ نفّذت طائرات حربية روسية غارات على منطقة سد الشغر بريف إدلب الغربي على بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع تركيا. كذلك قصفت قوات النظام بالرشاشات الثقيلة محيط بلدة خلصة بريف حلب الجنوبي، في استمرار لخرق الهدنة التي دخلت أمس يومها الثالث عشر على التوالي. وقصفت قوات النظام بعد منتصف ليل الأربعاء – الخميس أماكن في كل من معرة حرمة وكفرسجنة والفطيرة ومزارع أم جلال ومناطق في ريف معرة النعمان الشرقي. وطاول القصف أيضاً محور زمار وجزرايا في ريف حلب الجنوبي، بالتزامن مع تحليق طائرات الاستطلاع في أجواء الشمال الغربي من سورية لـ "مسح المنطقة وجمع أهداف"، وفق مصادر محلية.
في غضون ذلك، دفعت تركيا بتعزيزات عسكرية جديدة، بينها آليات ثقيلة، إلى قرية معرحطاط في ريف إدلب الجنوبي، التي تعدّ نقطة تجمع دبابات وعربات ثقيلة تابعة للجيش التركي. وذكرت شبكة "المحرر الإعلامية" التابعة لفصيل "فيلق الشام" التابع للمعارضة السورية، أمس، أنّ الجيش التركي أدخل تعزيزات عسكرية مؤلفة من 30 آلية، بينها آليات ثقيلة، من معبر كفرلوسين إلى تجمع قواته في قرية معرحطاط. وتحتفظ تركيا بـ 12 نقطة مراقبة عسكرية في محيط محافظة إدلب وفق تفاهمات أستانة واتفاق سوتشي. وحاولت قوات النظام دفع الجيش التركي لإخلاء هذه النقاط من خلال الاستهداف المباشر، ولكنها فشلت في ذلك.
من جهته، واصل النظام الحرب الإعلامية والنفسية ضدّ الشمال الغربي من سورية، إذ يتحدث إعلامه منذ أيام عن انهيار الهدنة، بل إنّ صحيفة "الوطن" التابعة للنظام قالت أمس الخميس إنّ "التهدئة باتت تتأرجح وعلى المحك وقد تلفظ أنفاسها الأخيرة في أي لحظة"، زاعمةً أنّ "هيئة تحرير الشام" تدفع باتجاه انهيار التهدئة كون ذلك "المخرج لمأزقها".
وذكرت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" أنّ المدنيين في شمال غربي سورية يتوقعون انهيار الهدنة في أي لحظة من طرف النظام والجانب الروسي، معتبرةً أنّ "عودة القصف الجوي مؤشّر على عودة التصعيد قبيل انعقاد القمة الثلاثية التي ستجمع رؤساء روسيا فلاديمير بوتين، وإيران حسن روحاني، وتركيا رجب طيب أردوغان، في أنقرة في 16 سبتمبر/ أيلول الحالي في إطار مسار أستانة".
ولم يحقق النظام وحلفاؤه الروس في الحملة التي بدأت أواخر إبريل/ نيسان الماضي وانتهت عملياً في 31 أغسطس/ آب، الغاية الرئيسية لها، وهي السيطرة على الطريقين الدوليين اللذين يربطان مدينة حلب، كبرى مدن الشمال، بالساحل السوري ومدينة حماة. ومن ثمّ، فإنّه من المتوقّع أن يعود النظام والروس إلى التصعيد في حال فشل القمة الثلاثية المرتقبة، في ظلّ حديث مصادر في فصائل المعارضة السورية عن قيام قوات الأسد بالحشد منذ بدء الهدنة للشروع في مرحلة ثانية من الحرب. ومن المتوقّع أن يواصل النظام تقدّمه في محور ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، إذ تعدّ مدينة معرة النعمان الهدف المعلن لقواته، لتحقيق نصر إعلامي، كون هذه المدينة تقع في عمق محافظة إدلب على الطريق الدولي الذي يربط حلب بمدينة حماة، فضلاً عن رمزيتها الثورية.
ومن المتوقّع أن تكون القمة الثلاثية الفرصة الأخيرة أمام الأتراك والروس لعدم انزلاق الشمال الغربي من سورية إلى أتون مواجهة شاملة يدفع ثمنها القاسي نحو 4 ملايين مدني يقطنون في بقعة جغرافية ضيقة، وعشرات الآلاف من الذين يفترشون الأرض في العراء من دون تدخّل من المنظمات الإنسانية الدولية للتخفيف من الكارثة.
ومن المرجح أن تصرّ روسيا على تفكيك "هيئة تحرير الشام" وفتح الطرق الدولية من أجل إرساء هدنة دائمة في شمال غربي سورية. كذلك من المرجح أن يطالب الجانب التركي بانسحاب قوات النظام من مناطق عدة في ريفي حماة وإدلب كانت سيطرت عليها في الحملة الأخيرة، في تجاوز لاتفاق سوتشي بين أنقرة وموسكو الذي وقعه الرئيسان التركي والروسي في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي. ولا يبدو أنّ إيران معنية كثيراً بالشمال الغربي من سورية، خصوصاً بعد أن أخلت قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين من سكانهما بشكل كامل العام الماضي. ولكن طهران لا تزال تدعم النظام في المنطقة من خلال قوات "حزب الله" اللبناني، ومليشيات أخرى مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، أبرزها "لواء القدس" التي تضم مسلحين فلسطينيين، ومليشيات طائفية أخرى تتمركز في ريف حلب الجنوبي.
وفي السياق، أشار القيادي في "الجيش السوري الحر"، العميد فاتح حسون، إلى أنّ الجانب الروسي "لا يلتزم بالمعاهدات والاتفاقيات والتفاهمات على جميع المستويات والمجالات"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد" أنه "من الممكن أن ينسف الروس كل ذلك لتحقيق مكسب بسيط تكتيكي". وأشار إلى أنه "لا شيء يفرض على روسيا الالتزام بالهدنة"، مؤكداً أنها "بدأت منذ أيام بتوجيه ضربات مدفعية وجوية محدودة، مع حشد قوات برية تتبع للإيرانيين وللنظام ولها على محاور عدة".
وتوقّع حسون "ألا تنفّذ عملية عسكرية قبل الاجتماع الثلاثي، الذي من الممكن أن ينتج عنه هدنة طويلة الأمد أو اشتعال المنطقة، حسب قدرة تركيا على فرض ذلك على روسيا وإيران". واستبعد القيادي في "الجيش الحرّ" تقدّم قوات النظام باتجاه مدينة معرة النعمان، كبرى مدن ريف إدلب الجنوبي حالياً، مضيفاً "ما زالت روسيا تحاول أن تخلق بالقوة المنطقة منزوعة السلاح وفق اتفاقية قمة سوتشي حول إدلب، ومعرة النعمان ليست منها". لكنه استدرك بالقول: "لا ثقة بروسيا، وممكن أن تقدم على هذه الخطوة الإجرامية بحق المدنيين من دون أن تلتفت لصراخ المجتمع الدولي ومطالباته بالتهدئة، كونها لا ترى ذلك سوى ورقة ضغط عليه".