مكونيل رد على منتقديه في خطاب على مدى 25 دقيقة من داخل الكونغرس، واصفاً ما يحصل معه بـ"المكارثية الحديثة"، ما جعل الحملة ضده تتوسع أكثر حتى في ولايته كنتاكي. "المكارثية" تعني توجيه اتهامات لخصوم سياسيين بالتخريب أو الخيانة من دون أدلة، وهي سُمّيت بعد السيناتور الجمهوري جوزف مكارثي الذي قاد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) مرحلة الرهاب من تسلل الشيوعيين والأجانب إلى المجتمع الأميركي والحكومة الفيدرالية. سميت هذه المرحلة أيضاً بـ"الخوف الأحمر الثاني" بعد الموجة الأولى من الرهاب الأميركي من الصعود المحتمل للشيوعية بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وكانت الخشية حينها من تسلل الثورة الأناركية والتطرف السياسي إلى الحركات العمالية.
طبعاً المعادلة تغيّرت في "المكارثية الحديثة". أولاً، في القرن الماضي كان الحزب الجمهوري يقود حملة المعاداة للشيوعية والاتحاد السوفييتي، واليوم يقود الحزب الديمقراطي حملة المعاداة لروسيا و"البوتينية"، في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. مع أن شعارات ترامب تتمحور حول القومية الأميركية وأميركا أولاً، لكن صعود اليمين الأميركي جعل الحزب الجمهوري برئاسة ترامب في هدنة ضمنية مع موسكو مقابل غضب الحزب الديمقراطي، مما يعتبره تدخل بوتين لإسقاط مرشحته للرئاسة هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية عام 2016.
حملة "موسكو ميتش" أصبحت عنواناً لمعركتين: إسقاط رئاسة ترامب في صناديق الاقتراع، واستعادة سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ في انتخابات عام 2020. هذه الحملة تضع الحزب الجمهوري في موقع دفاعي بعدما كان ترامب يحذّر من الجيل اليساري الجديد في الحزب الديمقراطي بأنه يريد ترويج "الاشتراكية"، فيما وصفهم السيناتور الجمهوري ليندزي غراهام بأنهم "حفنة من الشيوعيين". ترامب أحرج بيلوسي وفرض عليها الدفاع عن واحتضان هذا الجيل الجديد من القيادات النسائية الذي يُعرف بـ"الزمرة"، وبالتالي مهّد الطريق لتعميم وصف "الاشتراكية" على مجمل الحزب الديمقراطي. لكن المعادلة انقلبت الآن أو أصبحت متوازنة مع حملة "موسكو ميتش"، لا سيما أن مكونيل رفض عام 2016 أن يُصدر باسم الجمهوريين بياناً مشتركاً مع الرئيس الأسبق باراك أوباما لإدانة التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية.
الحزب الديمقراطي في كنتاكي يستغل هذه الموجة لإسقاط مكونيل في مسقط رأسه، وبدأ بيع قمصان حمراء عليها صورة مكونيل مع قبعة روسية مكتوب عليها "قولوا لا لموسكو ميتش" ومنتجات أخرى تسخر من السيناتور الجمهوري، تمكنت من جمع حوالي نصف مليون دولار من هذه المبيعات. كما نشرت "واشنطن بوست" تحقيقاً جاء فيه أنه قبل أسابيع من وقف مكونيل عقوبات في مجلس الشيوخ في شهر يناير/كانون الثاني الماضي على شركة "روسال"، التي هي أكبر منتج روسي للألومنيوم، قامت هذه الشركة التي لديها روابط مع الكرملين باستثمار كبير في مصنع ألومنيوم جديد في منطقة فقيرة تحتاج للوظائف في ولاية مكونيل في كنتاكي. مع أن هذا التحقيق لا يشير إلى أدلة حسية، لكنه يسرد هذه المصادفة بين افتتاح المصنع وإصرار مكونيل على عرقلة مشروع القانون لفرض عقوبات على شركة "روسال"، على الرغم من انشقاق 11 جمهورياً في هذا التصويت وفرض إدارة ترامب عقوبات على هذه الشركة لـ"أنشطتها الخبيثة حول العالم". وتحدثت تقارير أخرى عن محاولة مساعدي مكونيل إقناع الكونغرس ووزارة الخزانة بتمرير الاستثمار الروسي في هذا المصنع في كنتاكي. وإذا تم فتح تحقيق في هذا الأمر، فهذا يعني أنها أزمة ستلاحق مكونيل حتى موعد انتخابات مجلس الشيوخ العام المقبل والتي تتزامن مع الانتخابات الرئاسية. الحزب الديمقراطي رشّح الجندية المتقاعدة آيمي مكغراث ضد مكونيل، لكن فرصها تبدو محدودة في ولاية جمهورية مثل كنتاكي. مكونيل قام بحساباته الانتخابية وأدرك أن تحدي ترامب مُكلف له في كنتاكي أكثر من الرضوخ لضغوط الديمقراطيين، لا سيما أن ترامب اختار أيضاً زوجة مكونيل، ايلاين شاو، لتكون وزيرة النقل في إدارته.
وهناك حتى حملات أصغر بدأت تتوسع لتطاول شخصيات جمهورية أخرى في الكونغرس، فكنية السيناتور غراهام أصبحت "لينينغراد ليندزي"، ولقب زميله السيناتور ماركو روبيو "روبلز ماركو" في إشارة إلى العملة الروسية، وهذا نفس أسلوب ترامب الذي يوزع الألقاب على خصومه السياسيين لانتقادهم وردعهم وإضعافهم. والملفت أن هذه الحملة على مكونيل لم يطلقها الحزب الديمقراطي المشتت بمعاركه الداخلية في الانتخابات التمهيدية، بل أطلقها الإعلام الليبرالي، لكن يحاول الديمقراطيون التقاط هذه الفرصة للضغط الشعبي على الجمهوريين في الكونغرس.
كتبت الصحافية في "نيويوركر" سوزان غلاسر مقالاً في "فورين أفيرز" عنوانه "بوتين العظيم: دجال روسيا الإمبريالي"، وهو مقال نموذجي عن كيف يخوض الإعلام الليبرالي الأميركي معركة شيطنة بوتين ضمن حملة إسقاط ترامب. وبغض النظر عن نوايا موسكو، هذا المناخ الليبرالي الذي يتبلور تدريجياً قد يكون نقطة تحوّل في السباق الرئاسي الأميركي، إذا تجاوز الحزب الديمقراطي تعثراته وموانعه الذاتية.