الصراعات على فنزويلا: صدام بأبعاد داخلية وخارجية

15 اغسطس 2019
فشل غوايدو في إطاحة مادورو (فيديريكو بارّا/فرانس برس)
+ الخط -
لا تزال أجراس الخطر تدق خوفاً من انهيار الأوضاع في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، فعدم التمكن من تحويل الوعود البراقة إلى واقع يلمسه الفقراء يظلّ أحد أهم أسباب الصدام بين جماهير اكتشفت مع الوقت أن وجه اليسار حين يحكم لا يشبه كثيراً الوجه الذي عرفوه وسمعوا عنه في أدبيات الثورة. وعلى الرغم من التراجع النسبي لتصدّر فنزويلا عناوين الصحف هذه الأيام، إلا أن التصعيد لا يزال سيد الموقف، إذ يتجه الرئيس نيكولاس مادورو لتوجيه ضربة جديدة لرئيس البرلمان المعارض خوان غوايدو عبر حلّ البرلمان الذي تقوده المعارضة، والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة، في تصعيد واضح من السلطات. وهو ما يعتقد غوايدو بأنه سيعمّق الخلاف، وقد يتسبب في إغلاق قنوات الحوار خصوصاً إذا قام نظام كاراكاس بسجن أو محاكمة البرلمانيين المحسوبين على المعارضة. يحدث ذلك في وقت يؤكد فيه صندوق النقد الدولي أن اقتصاد البلد العضو في منظمة "أوبك" سينكمش بنسبة 35 في المائة في العام الحالي، على الرغم من أن الحكومة تمكنت من خفض التضخم الهائل، نسبياً، من خلال تشديد الاحتياطيات الإلزامية لدى المصارف وخفض الائتمان المتاح للشركات.

مع العلم أن فنزويلا انطبعت بصراعٍ ناعمٍ بين منطق المؤسسات الدولية وسياسات السوق الذي يمثله غوايدو من جهة، ومنطق الفرادة في الحكم والسير على خط الانعزال الاشتراكي الذي يمثله مادورو من جهة أخرى. لكن هذا الوضع انفجر في الأزمة الأخيرة في يناير/كانون الثاني الماضي، لتشهد فنزويلا أزمة رئاسية عندما شككت الجمعية الوطنية (البرلمان) في نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو/أيار 2018 التي فاز بها مادورو. وأعلن غوايدو نفسه "رئيساً بالنيابة"، وفقاً لبنود الدستور الفنزويلي لعام 1999، ما أدى إلى مواجهات دامية وضعت البلاد على شفا الهاوية.

وفي ظل اختفاء أصوات شخصيات كاريزماتية كان يقتات على خطاباتها يسار أميركا اللاتينية مثل الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز الذي توفي في مارس/آذار 2013، ولويس إيناسيو لولا دا سيلفا المسجون في البرازيل، والزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، يبدو الحفاظ على بريق اليسار أمراً صعباً في مواجهة دعاية ليبرالية تعتمد على موارد قوة اقتصاد السوق الرأسمالي.

وعلى الرغم من أن تجربة حكم أحزاب اليسار في بعض دول أميركا توصف بـ"المعقولة" كما هو حال تجربة تشيلي بزعامة ميشيل باشليه ممثلة تيار اليسار الوسط، وديلما روسيف في البرازيل، إلا أن الحفاظ على الملامح البراقة لهذه التجارب، ظلّ دوماً معركة يستعصي على اليسار الانتصار فيها في الكثير من المحطات، فقد خرجت باشليه من سدة الحكم في تشيلي وانتهى المطاف برئيسة البرازيل القوية ديلما روسيف في السجن بتهم الفساد واستغلال النفوذ. وتحت وطأة المتغيرات تشهد أميركا اللاتينية ما يمكن وصفه بـ"أميركا اللاتينية الجديدة" على غرار خطط الشرق الأوسط الجديد، لتتهاوى القلاع اليسارية في المنطقة كما تتهاوى أحجار الدومينو.

إنه "موسم الهجرة" إلى اليمين، إذ يبدو أن الزمن يدور والمنطقة التي شكّلت جنّة لأفكار اليسار أواخر القرن الماضي، تتجه إلى الخيار المعاكس مع بداية القرن الحالي، فالجيل الثاني من قادة اليسار الذين لم يطلقوا رصاصة من أجل الكفاح، يبدو أنهم سيكونون لقمة سائغة لسياسات السوق العالمية التي تلتهم المساحة تلو المساحة في ظلّ عولمة تتسع رقعتها مع مرور الوقت. وبمنطق "دول أميركا اللاتينية بعيدة من الرب قريبة من أميركا" الذي روّج له دكتاتور المكسيك السابق بورفيريو دياث (1884 – 1911) يمكن اختصار الكثير من محطات الحذر بين الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية التي ظلّت تصنّف كحديقة أميركا الخلفية، وبُعدها الاستراتيجي الذي سعت وتسعى إلى التحكم في مجريات الأحداث داخله، تحسباً لانعكاس أي تحوّل غير مرغوب في هذه الدول إلى تهديد فعلي للأمن القومي الأميركي.

ولا تزال أزمة خليج الخنازير في كوبا (1961) حاضرة في أذهان الكثير من الأميركيين، بعد أن كادت مجاورتهم لثوار كوبا تقود أميركا والعالم إلى حرب نووية مع الاتحاد السوفييتي، وقد كان لحالة "كوبا المارقة" بحسب الوصف الأميركي الكثير من الأثر في فتح عيون وكالات الأمن القومي في أميركا، على ضرورة العمل على التحكم ما أمكن في بوصلة الأحداث في ساحات دول أميركا اللاتينية، ما تسبب في معركة ليّ أذرع شهدتها مختلف هذه الدول وأدت إلى انقلابات وأحداث دموية لا تزال ملامحها حاضرة في ثنايا المشهد السياسي والاجتماعي في العديد من بلدان أميركا الجنوبية.

واليوم تقف فنزويلا النفطية على شفا حفرة من النار، فخليفة تشافيز (مادورو) ليس محظوظاً مثله، مع مواجهته أزمة غذاء وهبوط العملة المحلية، التي تسبّبت في أزمة، قبل إعلان غوايدو المدعوم أميركياً أن واشنطن قد تتدخل عسكرياً، في ظلّ تنديد أوروبي بانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد. وفي المقابل، تقف كولومبيا على الحدود كخنجر مسموم لا يرحم البلد الذي يمرّ بواحدة من أكبر الأزمات في أميركا اللاتينية.

في النهاية، ولتأزيم الوضع أكثر، جمدت الولايات المتحدة جميع الممتلكات والمصالح الموجودة في الولايات المتحدة، المملوكة لحكومة فنزويلا، وأعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أنه لا يجوز نقلها أو تصديرها أو سحبها أو التعامل معها بطريقة أخرى. وكان مادورو سائق باص في شبابه، وقد خبر شوارع كاراكاس، لكنه لا يظهر إبداعاً وذكاءً في قيادة بلاده على الطرق السريعة للعولمة.

وقد طوّر أنصار غوايدو من الشباب الفنزويلي الصاعد المناهض لاشتراكية مادورو والمنسجم مع وسائل التواصل الاجتماعي، رسوم كاريكاتورية تسخر من مادورو، لم يتردد على أثرها رئيس الجمعية التأسيسية ديوسدادو كابيلو، والذي يُعتبر الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي الحاكم، من السخرية من غوايدو في تغريدة على "تويتر" قائلاً: "إذا كنت خائفاً فاشتر كلباً".

قد لا يساور الشك المتابعين لسير الأحداث في فنزويلا أن العالم أمام سيناريو حرب باردة بين روسيا وأميركا أو ما يشبه ذلك إلى حدّ كبير، فموسكو التي استثمرت ملايين الدولارات إلى جانب الصين في قطاع النفط والمعادن الفنزويلية، غير مستعدة للانسحاب ببساطة من فنزويلا، والولايات المتحدة لا تريد بدورها أن يتحول ما تعتبره "فناء أميركا الخلفي" إلى فضاء حرّ لقوى دولية تناصبها العداء في أماكن مختلفة من العالم. في غضون ذلك، أرسلت روسيا طائراتها المعروفة باسم "طيور البجع" في زيارة استعراضية إلى فنزويلا. كما تحدث مادورو عن ثقته في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعن تبادل للخبرات بين روسيا وفنزويلا، مع تحشيد أميركا ما يزيد عن 50 دولة للاعتراف بشرعية غوايدو.

وبينما تستمر الحشود المطالبة بالتغيير في فنزويلا في دول الجوار اللاتيني المدعومة أميركياً مثل كولومبيا والبرازيل، تعمل روسيا على حشد التأييد الصيني والتركي والإيراني لزيادة حجم التبادل التجاري مع فنزويلا، للحفاظ على حالة من الاستقرار المالي يسهم في تثبيت أقدام الحليف مادورو.

روسيا ومن خلفها الصين، لن تقبل بخسارة استثماراتها الاقتصادية بسهولة، والولايات المتحدة ومن معها من الحلفاء لا تريد السماح لدولة مارقة بمواصلة العناد وتهديد المصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية. وواضح أن الشدّ والجذب صبّا في صالح إسبانيا التي تعتبر مركز القرار الأوروبي في كل ما يتعلق بالعالم الناطق باللغة الاسبانية، فقد سحبت وراءها دول الاتحاد الأوروبي في دعم موقف الولايات المتحدة من جهة عبر دعم غوايدو، ومن جهة أخرى المطالبة بحكومة جديدة، ما يعني بالضرورة تنحية مادورو، لتعزز مدريد بذلك دورها الدبلوماسي كفاعل أول في قضايا أميركا اللاتينية.

وإذا لم تتوصل القوى العظمى إلى خارطة طريق ترضي جميع الأطراف، فإن الخاسر الحقيقي من حالة الاستقطاب العالمي هذه، سيظلّ الشعب الفنزويلي الذي يتحول مع الوقت إلى شعب فقير داخل دولة غنية بالموارد لكنها مهددة بالانهيار، فعناد اليسار الثوري قد لا يكفي وحده من أجل إطعام البطون الجائعة. وفيما تتابع وزارة الخارجية النرويجية وساطتها للبحث عن حل بين ممثلي الحكومة والمعارضة في فنزويلا، فإنها تصغي جيداً لوضع دول أميركا اللاتينية سقفاً، غير معلن، للاندفاع نحو العنف. وهو الأمر الذي يثير السؤال حول سقف المواجهة المسموح به في أدبيات الكواليس بين الروس والأميركيين في مساحات "الطرف الثالث". إنه أمر يصل إلى حد التدمير الشامل في بلدان عربية مثل سورية، فيما يحافظ على مستوى من المرونة في بلدان أخرى مثل فنزويلا التي لا يريد الجميع كما هو واضح أن تصل لمرحلة الانهيار الكامل.

المساهمون