في حال قد لا يبدو مختلفاً كثيراً عن جرف الصخر، البلدة العراقية الواقعة في شمالي محافظة بابل، التي طُرد أهلها منها منذ نحو خمس سنوات، تعاني مدينة تلعفر في محافظة نينوى، شمالي العراق، من سطوة فصائل مسلحة مختلفة منذ تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش"، في أغسطس/ آب 2017، وحتى اليوم. ولا يزال سكان المدينة الأصليون ممن اضطروا للنزوح عقب احتلالها من قبل التنظيم، وخلال معارك تحريرها، ممنوعون من العودة إلى ديارهم لأسباب غالبيتها طائفية، وأخرى أمنية وخدماتية، ويقدّر عددهم بنحو ثلثي أهل المدينة ومحيطها، وهؤلاء يتألفون من العشائر الأصيلة في تلك المنطقة، ولكنهم ما زالوا في الخيام، فيما آخرون توزعوا في إقليم كردستان ومناطق محافظة نينوى.
وأكدت مصادر محلية من تلعفر، لـ"العربي الجديد"، أن "عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي يسيطران بالكامل على تلعفر، بعدما حوّلاها إلى مستوطنة تابعة لقواتهما، حتى أن أهالي القرى العربية القريبة من تلعفر، صار من المستحيل عليهم العودة إلى مناطقهم، التي تحوّلت إلى مستودعات سلاح وذخيرة ومعتقلات في حالة شبيهة بالوضع الحالي في بلدة جرف الصخر". وأضافت أن "جرف الصخر وبسبب قربها من بغداد، يتم تسليط الضوء عليها، إلا أن بُعد تلعفر وموقعها منحا أريحية للمليشيات للسيطرة عليها من دون ضغوط إعلامية أو حتى سياسية".
وبحسب أحد تلك المصادر، وهو عضو في مجلس المدينة (الحكومة المحلية)، فإن "تلعفر اليوم عبارة عن صندوق مغلق، أو معسكر ضخم للحشد الشعبي"، موضحاً أن "حكومتي بغداد ونينوى أضعف من أن تتخذا أي قرار بشأن ما يحدث في تلعفر، لأن الحكم كله بيد فصائل الحشد الشعبي. وقد أصدرت قوائم اعتقالات طاولت مئات المواطنين بادّعاءات أنهم من داعش، لمنعهم من العودة خوفاً من اعتقالهم، بينما تعرقل جهود تطهير قرى ومناطق كثيرة من الألغام حتى تبقى ذريعة بقاء أهلها خارجها موجودة، ونفذت عمليات اعتقال سابقة كانت بمثابة رسائل لمن يفكر بالعودة".
من جهته، حذر ممثل قضاء تلعفر التابع لنينوى في مجلس النواب، ثابت العباسي، من "تصاعد أعمال العنف والخطف بدوافع طائفية في تلعفر"، وذكر في بيان أخيراً، أن "15 شخصاً تم اختطافهم من تلعفر أخيراً، آخرهم رفعت محمد علي مجدل، الذي تلقى أهله اتصالات من الجهة الخاطفة بتجهيز فدية بمبلغ 250 مليون دينار (210 آلاف دولار). وبما أن أهله لا يملكون المبلغ، فقد تم اختطاف والده قبل 15 يوماً من أمام داره وتم العثور على جثته بعدها، ثم أحرقت الجثة". وحمّل العباسي "القوات الأمنية مسؤولية الحفاظ على أرواح الأبرياء، خصوصاً مع السعي بجهود حثيثة لمحاولة لمّ الشمل ورأب الصدع لإعادة النازحين إلى أماكن سكناهم في المدينة وإغلاق هذا الملف المقيت، ولكن الجهود اصطدمت مرة أخرى بعنجهية البعض ممن تخمرت الطائفية وعدم قبول الآخر في بنات أفكارهم". وحذّر أيضاً من "تنامي وتكرار هذه الجرائم الشنيعة".
من جهته، قال قائمقام قضاء تلعفر، مدير ناحية زمار المجاورة، أحمد جعفر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "على الرغم من انتهاء عمليات تحرير المدينة من عصابات داعش، إلا أن الكثير من أهالي تلعفر والعياضية لم يعودوا إلى مناطقهم، لأسباب كثيرة". واعتبر أن "من بينها استقرار النازحين في المخيمات، إضافة إلى الإجراءات الأمنية التي تتعلق بقاعدة البيانات الخاصة بالنازحين، وقلة الخدمات في المدينة، بعدما دمرت الحرب الكثير من البنى اللوجستية للمدينة، وتضرر الدوائر الخدمية وغيرها من الأمور التي تعيق عودة النازحين".
وفي سؤال عما إذا كان "استقرار النازحين في المخيمات" يعني أن النازح يفضّل العيش في الخيمة على العودة لمنزله ومدينته، قال جعفر: "نعم، هم كذلك"، موضحاً أن "قرى ونواحي زمار وربيعة لم يرجع إليها أهلها الذين خرجوا منها مع اشتداد الحرب مع داعش، وازدياد أعدادهم بعد الخلافات بين البشمركة من جهة، والجيش العراقي والحشد الشعبي والشرطة الاتحادية من جهة أخرى، وتطور الخلاف إلى الاشتباك المسلح. وبعد انتهاء الخلاف وضعت كل من هذه القوات سواتر ترابية، ساهمت هي الأخرى بقطع الطرق وعدم إمكانية عودة النازحين".
ولفت جعفر إلى أن "الطرق مقطوعة تماماً أمام أهالي العياضية وربيعة وتلعفر وسنجار، ولكن قبل ستة أشهر تم فتح عدد من الطرق، ومن ثم أغلقت من جديد"، موضحاً "أننا وجهنا خطابات رسمية لرئيس إقليم كردستان السابق مسعود البارزاني من أجل فتح الطرق، ولقيادة الجيش العراقي والحكومة في بغداد، وووجهنا مناشدات ومطالبات للمنظمات الدولية والمحلية، من أجل فتح الطرق على بعض المناطق التي تعاني حالياً من الحصار". واعتبر أن "عدم عودة النازحين من المكونات العربية، السنّية والشيعية، لا علاقة له بمخططات التغيير الديمغرافي التي يروج لها بعض السياسيين، ولكن كل ما في الأمر أن الإجراءات التنسيقية بين القوات العراقية والكردية بطيئة نسبياً، ومن المفترض أن تتم عودة جميع النازحين خلال الوقت القليل المقبل".
من جهته، لفت حسين البرزنجي، وهو مسؤول عمليات "لواء الحسين" التابع لـ"الحشد الشعبي"، وهو تشكيل يضم عدة فصائل مسلحة، إلى أن "الأهالي الذين لم يرجعوا إلى تلعفر، بعد نزوحهم، لديهم حالياً أعمالهم الخاصة خارجها، وقد استقروا في مناطق، منها الموصل وإقليم كردستان، وهناك جزء منهم لم يرجعوا لأنهم يعرفون أنهم مشتبه بهم بقضايا تتعلق بالإرهاب أو الانتماء لداعش"، معتبراً في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "بعض السياسيين لديهم نَفَس مع داعش ولا يريدون للمدينة أن تستمر بالحياة وتستمتع بالتعايش السلمي، إنما يحاولون زرع بذور الكراهية ويروجون لما يُعرف بالتغيير الديمغرافي".
إلى ذلك، لفت المحلل السياسي في محافظة نينوى مؤيد الجحيشي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "عديد سكان تلعفر قبل عام 2003 كان يصل إلى 400 ألف نسمة، ولكن تم تهجير ثلثي هؤلاء السكان، وغالبيتهم من المكوّن العربي السنّي، إلى مدينة الموصل وإلى إقليم كردستان، مع العلم أن غالبيتهم كانوا يعملون في فترة (نظام صدام حسين) بجهاز الشرطة، وتم تهجيرهم بتهمة أنهم بعثيون بعد الاحتلال، ثم جرى تهجير قسم آخر تحت ذريعة الإرهاب والقاعدة ومن ثم داعش". ولفت إلى أن "ساسة عراقيين ذكّوا الفتنة الطائفية في هذه المدينة التي لم تعرف التفرقة بين أهلها من قبل"، متهماً "الفصائل المسلحة التي تسيطر على تلعفر حالياً، بالسعي إلى تغيير ديمغرافية المدينة بشكل كامل، وهي تنجح في ذلك".