حراك فبراير يجمع الجزائريين في الشارع: الديمقراطية قبل الخبز

29 مارس 2019
مشاركة فاعلة للمرأة في المعترك الاحتجاجي (العربي الجديد)
+ الخط -

لم يسبق لأي حراك شعبي ومحطات احتجاجية في الجزائر منذ الاستقلال، أن جمع كل الفئات الشعبية والاجتماعية والوظيفية، وكافة الأطياف السياسية على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية، في مسار احتجاجي متزامن وتحت مطلب مركزي وعناوين فرعية: رحيل النظام والانتقال نحو الديمقراطية والحريات.

فعندما بلغ اليأس السياسي بالجزائريين حده الأقصى بفعل التضييق والملاحقات والابتزاز الذي مارسته السلطة في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على مدار 20 سنة، بالتزامن مع التخويف من نماذج التغيير التي أدت إلى التمزق الداخلي في عدد من الدول العربية واستدعاء التجربة المحلية الجزائرية الدامية في تسعينيات القرن الماضي، وضاقت الخيارات أمام القوى السياسية والمدنية المعارضة، استدعت مجموعات شبابية الرغبة الكامنة في التغيير السياسي والدفع بالجزائريين للعودة السلمية إلى الشارع. كل هذا جاء بعدما نجحت نقاشات تمهيدية في تجاوز المسائل الأيديولوجية، والاستناد إلى تراكم احتجاجي سبق حراك فبراير/شباط الماضي، خصوصاً في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والصحافة، وشمل أيضاً المنتسبين سابقاً إلى المؤسسة العسكرية والأمنية، كمعطوبي الجيش والمقاومين والشرطة البلدية.

وفي الوقت الذي كانت تُحكم فيه السلطة قبضتها على الفضاءات العامة والساحات والمساجد والجامعات والبرلمان والمنتديات العامة، كانت الساحة الوحيدة المنفلتة من الرقابة هي مدرجات الملاعب التي مثلت المنابر التحريضية الرئيسية للشارع، عبر أغانٍ وهتافات سياسية كانت تتوجه بشكل مباشر إلى السلطة، خصوصاً ما يتعلق بغياب الرئيس "ووجود صورة بدلاً عنه"، مثلما تقول إحدى الأغاني السياسية، التي أنتجها مناصرو نادي اتحاد العاصمة الجزائرية. كما ظهرت أغانٍ تتهم رجالات السلطة بترويج المخدرات لتغييب الوعي السياسي، تزامناً مع تفجر قضية تهريب 701 كيلوغرام من الكوكايين، ظهر أن رجالات في مستويات عليا في مؤسسات الدولة متورطون فيها. وساعدت القراءات الخاطئة وتقدير الموقف إزاء مجمل المشهد والتفاعلات الكامنة في الشارع، الذي خلصت إليه السلطة والأجهزة الأمنية بشأن هذا التحريض الشبابي، وإصرارها على التوجه بالرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة إلى الترشح لولاية رئاسية خامسة في انفجار الشارع في 22 فبراير الماضي، بعد شعور الجزائريين بالإهانة السياسية من قبل النظام ومجموعات مقربة من الرئيس باتت تسمى "القوى غير دستورية".



وفي مارس/آذار 2014، شهدت الجزائر احتجاجات محدودة ضد ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة، قادتها حركة "بركات" (وتعني كفاية) الشبابية التي كانت تشكلت لتوها وقتها. وبرغم توفر معطيات اجتماعية وسياسية مشابهة لظروف وملابسات حراك فبراير، بما فيها عامل مرض الرئيس، فإن السلطة تمكنت سريعاً في 2014 من تجاوز هذه الاحتجاجات وإخمادها عبر ملاحقة النشطاء واعتقالهم وغلق كافة مساحات التحرك والاستخدام المفرط للقوة الأمنية. وبخلاف حراك فبراير 2019 لم يكن حراك 2014 منظماً ومنسقاً بالقدر الذي يكفي لنجاحه في إعطاب مسعى العهدة الرابعة، إضافة إلى الانشقاقات المبكرة التي شهدتها حركة "بركات" بسبب خلافات أيديولوجية بين كوادرها. كما أن حراك فبراير وفر لنفسه، بخلاف حركة "بركات" في 2014، غطاءً سياسياً عبر إشراك قوى المعارضة في الحراك دون اللافتات الحزبية في الشارع، واستدعى سريعاً الفئات العمالية والطلبة والقضاة والمحامين وغيرهم إلى الالتحاق بالمسار الاحتجاجي والتمرد على السلطة، ما زاد من عزلة السلطة وانكشاف محاولاتها لاحتواء الحراك والسيطرة عليه.

وبرغم تحسن بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، فإن الدوافع الاجتماعية المتعلقة بالمؤشرات المقلقة للبطالة، التي وصلت إلى 17 في المائة عموماً، و25 في المائة في أوساط خريجي الجامعات، وتزايد عمليات الهجرة غير الشرعية عبر البحر إلى أوروبا، بسبب ضيق الأفق الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، مقابل التزايد الفاضح للفساد المالي والسياسي، حيث تم منذ العام 1999 صرف نحو 980 مليار دولار في برامج التنمية لم يكن لها في الواقع أثر مكافئ، وتورط مؤسسات الدولة ورجالاتها في عمليات تهريب الأموال والمخدرات والاستيلاء على الأراضي بشكل إقطاعي، لا تقف وحدها وراء الدفع بالملايين من الجزائريين إلى الاحتجاج في الشارع. ويلاحظ في السياق غياب الشعارات والمطالب الاجتماعية والتنمية، وتأخرها لصالح المطلب السياسي المتعلق بالتسيير الديمقراطي للشأن العام والمقدرات المالية والاقتصادية والحريات والحق في التعبير الحر وحق التنظم والإضراب والتظاهر، والحد من تزوير الانتخابات، التي دفعت 67 في المائة من الناخبين إلى العزوف عن التصويت، ومنع تدخل الجيش والأمن الجمهوري، كموجبات رئيسية في الرقابة على مؤسسات الدولة والمال العام، إضافة إلى مطالب محاكمة رموز الفساد السياسي والمالي، وملاحقة المجموعات العائلية التي تسيطر على المقدرات المالية للبلاد.

ويمثل شباب الهامش الاجتماعي ورواد الملاعب ومجموعات "الألتراس"، التي كانت تعيش عالمها الخاص، محركاً فاعلاً في حراك فبراير، بعد الاستفاقة من فترة غيبوبة اجتماعية وإقصاء سياسي. لكن نقطة الالتقاء الرئيسية لهذه المجموعات كانت مع المجموعات الشبابية غير السلفية الناشطة في المساجد، والتي غذت مطالب التغيير، واستوعبت المطلب الديمقراطي، وهو ما يفسر خروج الحراك، في 22 فبراير، من المساجد بعد صلاة الجمعة، دون أن تكون للشعارات أية صبغة دينية، (بخلاف الصورة التي انطبعت لدى الجزائريين عن مسيرات جبهة الإنقاذ المنحلة في بداية تسعينيات القرن الماضي والتي كانت تطالب بدولة إسلامية). أكثر من ذلك تركز شعار المتظاهرين على "جزائر حرة ديمقراطية"، وهو شعار مركزي للقوى التقدمية والعلمانية في الجزائر.

لكن اللافت أن كوادر الحراك الشعبي والمجموعات التي تدير مساره، استفادت من التجارب الاحتجاجية السابقة، لكنها عملت هذه المرة على مشاركة المرأة في المعترك الاحتجاجي. فمنذ 22 فبراير كان الحضور النسائي مركزياً ومبكراً، إذ دفع الناشطون بالطالبات في الجامعات إلى المشاركة في نقل الاحتجاج من الشارع إلى الجامعة في الأسبوع الأول من الحراك، بهدف إبقاء الضغط الشعبي مركزاً على السلطة. وتعزز الحضور النسائي بشكل أكبر منذ الجمعة الثالثة للحراك الذي تزامن مع الثامن من مارس/آذار الحالي، إذ لجأ النشطاء وكوادر الحراك الشعبي إلى الدفع بأكبر قدر ممكن من النساء والعائلات للمشاركة في الحراك، لثلاثة أهداف تتصل بزيادة عدد المتظاهرين وإشراك فاعل للنساء، وتهذيب التظاهرات ومنع أية مظاهر قد تخل بسلمية الحراك، ومنع قوات الأمن وردعها عن استعمال الغازات المسيلة للدموع بسبب وجود الأطفال المرافقين للنساء والعائلات، خصوصاً أن القرار الأمني للسلطة كان يتجه نحو محاولة حسم الموقف وإحباط الحراك الشعبي في تلك المسيرات المتزامنة مع احتفالات الثامن من مارس (يوم المرأة العالمي). نجح حراك فبراير في الجزائر في تثبيت حالة المقاومة السلمية للنظام، وحقق قبل سادس جمعة، اليوم، جزءاً مهماً من مطالبه، لعل أبرزها تعطيل مشروع الولاية الخامسة لبوتفليقة والإطاحة بحكومة أحمد أويحيى وخلخلة مؤسسات النظام وأجهزته السياسية، لكن من السابق لأوانه الحكم على مآلاته في ظل انسداد باب الحوار بين الحراك والسلطة والمعارضة.

المساهمون