أعرب المفكر العربي، الدكتور عزمي بشارة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عن تعويله على نضج الشعوب العربية التي تتظاهر اليوم في الجزائر والسودان مثلاً، أو التي ستتحرك مستقبلاً في دول أخرى سُحقت فيها محاولات التغيير الديمقراطي المدني، وعلى تعلم المعارضات العربية من أخطائها وعلى إدراك الحراك الشعبي ضرورة تنظيم قواه وموافقته على الدخول في مفاوضات ومساومات مع النخب الحاكمة، بهدف تحقيق خطوات جدية في التغيير الديمقراطي في بلدانها، في إطار ما سمّاه "الموجة الجديدة" للربيع العربي أو "المرحلة نفسها مع تفاوت في الصعود والهبوط" في دينامياته.
وعرّج بشارة، في حوار يُعرض على ثلاث حلقات مع "التلفزيون العربي"، على أحداث الجزائر والسودان وسورية ومصر، واعتبر أن الجزائر مرشحة لتغيير ديمقراطي انتقالي جدي في حال أدركت القوى الشعبية والأحزاب المعارضة كيفية إدارة "الصراع" السلمي مع السلطة تكتيكياً واستراتيجياً.
كذلك رأى أن السودان لا يزال في بداية طريق التغيير الذي يصعب أن يحصل اليوم من دون توحد أكبر للقوى المعارضة، نظراً إلى أن أزمة ثقة المواطنين لا تزال كبيرة بالنظام وبنواياه واستعداده للحوار والشروع في تغيير ديمقراطي حقيقي.
أما في سورية، فاختصر الوضع الحالي بالقول إن رئيس النظام بشار الأسد "هُزم شرّ هزيمة، وهَزَم شرّ هزيمة" في آن معاً، مشيراً إلى أن "الشعب السوري لم يتحرر، لكن الإنسان السوري تحرر بالفعل". أما في الملف المصري، فبدا بشارة جازماً باستحالة بقاء الوضع القمعي على ما هو عليه اليوم، شرط تعلم المعارضة من أخطائها واتفاقها على جدول أعمال سياسي جديد.
الجزائر قادرة موضوعياً على النجاح
ولفت بشارة إلى أن الجزائر اليوم دخلت مرحلة أخذ ورد حول شكل الحوار بين السلطة وكل من المعارضة والحراك الشعبي، وتفاوض حول حدود التنازل بعد تحقق اعتراف السلطة بوجود أزمة حقيقية وبعد إقرار الحكم بوجود الطرف الآخر (الحراك والمعارضة). ووفق كلام بشارة، فإن الجيل الذي نراه في الحراك الجزائري اليوم "هو جيل جديد مختلف عن جيل الثورة الذي التف حول جبهة التحرير ببعض إنجازاتها التي لا يجدر إنكارها، ثم جيل العشرية السوداء بطرفيه الإسلامي والعسكري، واليوم هناك جيل ثالث رافض للعنف وقد استخرج استنتاجات إيجابية من العشرية السوداء".
وأشار بشارة إلى أنه لولا الحراك الجزائري اليوم "لكانت ديناميات التحول داخل الجزائر بقيت محصورة على صعيد النخب، وهو أمر يحصل بالفعل منذ عقدين تقريباً". واعتبر أن الجزائر حققت بالفعل بعض الخطوات إلى الأمام في العقدين الماضيين، "واليوم نرى بعض نتائج هذه الخطوات في عدم قمع التظاهرات مثلاً" على حد تعبيره. وخلص بشارة إلى أن الحراك الشعبي اليوم في الجزائر "جعل أن التغيير لم يعد متوقفاً على الصراعات داخل النظام وتياراته بين الحزب ورجال الأعمال والجيش، بالتالي فإن الحراك فرض الشعب طرفاً رئيسياً" في ديناميات التحول.
ورداً على سؤال حول خطوة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سحب ترشحه والإعلان عن مجموعة إجراءات "إصلاحية" مستقبلية، قال بشارة إن التحولات الديمقراطية في العالم "تحصل غالباً بإصلاحات تنتج عن انقسام داخل النظام الحاكم وتواكبها خطوات شعبية تحول تلك الإصلاحات الصورية إلى حقيقية، وعندها تنشأ ديناميكية لا يمكن إنهاؤها إلا بالتفاهم بين أطراف رئيسية من النخبة الحاكمة والحراك الجماهيري، وعندها يصبح ممكناً تقاسم السلطة أو التناوب عليها".
واستنتج بشارة أن الجزائر حالياً "قادرة موضوعياً على النجاح في مثل هذا السيناريو" الذي يفترض بالضرورة التفاهم مع الجيش، بحسب رأيه. حتى أن بشارة اعتبر أن الرغبة في هذا السيناريو "ربما تكون موجودة داخل بعض أطراف السلطة، لأسباب مختلفة، ذلك أنه ليس دائماً الوعي لدى النظام بالإصلاح هو ما يؤدي إلى انتقال ديمقراطي، ويكفي إدراك بعض النخب الحاكمة أن الأمور يصعب أن تستمر على حالها"، لكي يُفتح بابٌ لتتجاوب مع الحراك الشعبي.
لكن بشارة حذّر، في لقائه مع "التلفزيون العربي" من أن امتحان الحراك الجزائري تحدده قدرته على "إنتاج قيادته وعدم نبذ قيادات المعارضة وأن تتأقلم القيادات الجديدة التي ينتجها الحراك مع قيادات هذه المعارضة" كي لا تتكرر ما سماها أخطاء حصلت بالفعل في بلدان عربية أخرى شهدت موجات من الربيع العربي مثل مصر وسورية مثلاً. من هنا، جزم بأن الحركات التغييرية "تحتاج لتنظيم وللقبول بالدخول في مفاوضات ومساومات لا تنفي الحراك لأن النضال الشعبي يستمر في موازاة المفاوضات والحوار".
وعن التدخل الخارجي في الشأن الجزائري، اعتبر بشارة أن "للجزائريين كل الحق في الحذر الشديد من التدخلات الخارجية"، ووجد أن "أفضل ما يمكن أن يفعله (الرئيس الفرنسي) إيمانويل ماكرون حيال الجزائر هو أن يصمت"، ذلك أن سجلّه في حقوق الإنسان والعالم الثالث غير نظيف نهائياً على حد تعبيره. وبحسب تقديره، فإن مصلحة فرنسا والغرب عموماً لا مكان للإيديولوجيا فيها، "بالتالي فإن مصلحة فرنسا في الجزائر يحددها ما يضمن استقرار مصالحها"، ليخلص إلى أن فرنسا "لا تستطيع أن تعارض أي تغيير ديمقراطي إذا كان مستقراً، وهذا تحدي الجزائريين أن يحافظوا على الاستقرار".
السودان: آن أوان التغيير
أما عن الحراك السوداني، فاعتبر بشارة أنه "آن أوان التغيير والتحول في السودان" رغم تقديره بأن الظروف تبدو أكثر صعوبة وتعقيداً في هذا البلد مما هو عليه الحال في الجزائر مثلاً. وأشار إلى أن المشكلة الأكبر أمام احتمالات التحول الديمقراطي في السودان، تكمن في أزمة انعدام الثقة بالنظام الذي "لم يقم بأي خطوة توحي بأنه راغب في التغيير الحقيقي" برأي المفكر العربي.
وفي هذا السياق، قال بشارة إن حالة الطوارئ المعلنة من قبل السلطة في الخرطوم، "ليست علامة جيدة، كذلك إطلاق النار على المتظاهرين، والاعتقالات وتشديد قوة الجيش داخل النظام على حساب الحزب الحاكم". لكنه عاد واستدرك بأن "دور الجيش مهم والتحاور معه في حدود دوره ووظيفته مهم لترسيخ الديمقراطية وبنائها"، مع تشديده على أنه "لا يمكن قيام نظام مدني ديمقراطي إلا إذا كان الجيش حامياً للحدود وللديمقراطية وليس حاكماً".
وعن الحلول المحتملة للوضع السوداني، قال بشارة إن "الانتخابات وحدها ربما لا تحل كل المشكلة، وربما يبدأ الحل بحكومة تجمع السلطة والمعارضة، وبتحديد (الرئيس) عمر البشير موعد مغادرة الحكم وبتأليف حكومة تكنوقراط وبضمانات يقدمها الجيش للانتقال الديمقراطي". وتابع أنه إذا كانت هناك نية دولية في المساعدة بإحداث تحول ديمقراطي في السودان، "فمهمتها (القوى الدولية الرئيسية) تقديم ضمانات للبشير بعدم محاكمته مثلاً، خصوصاً أن المجتمع الدولي يعترف به عملياً ويتعامل معه كسلطة شرعية.
وعلى غرار تقييمه للحالة الجزائرية، شدد بشارة على أن "هناك حالات تضطر معها لتقديم تنازلات وإحداث مساومات مع السلطة، وهذا النوع من المساومات يجب أن تقبلها حركات جماهيرية منظمة ودول فاعلة في الملف، وهذا يسري على السودان لأن هذا البلد مهيّأ لقبول تلك القاعدة بطبقته الوسطى وطلابه وأحزاب المعارضة العريقة وبعض تيارات الحزب الحاكم والنخبة الحاكمة". وختم كلامه عن السودان بالقول إنه يصعب عليه تصور أن البشير لا يدرك أن أوان التغيير قد آن بالفعل.
ربما الشعب السوري لم يتحرر لكن الإنسان السوري تحرّر
في المقابل، وعن الملف السوري، اختصر بشارة المشهد بالقول إن الأسد هُزم شرّ هزيمة وهَزم شرّ هزيمة في الوقت نفسه، "ويكفي مشاهدة حجم الخراب لإدراك هذه الحقيقة" على حد تعبيره. وشرح بشارة أن الأسد هُزم "عندما واجه شعبه بالقتل وعندما تنازل عن السيادة السورية لسحق الشعب السوري، فأصبح رهينة لهذه القوى ومساوماتها (روسيا وإيران)، واليوم حزبه انتهى والجيش أصبح أقرب إلى المليشيات التي تنهب وتتقاسم البلد".
ورداً على سؤال من محاوره، وائل التميمي، حول احتمال أن يضحي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأسد في مساومات دولية ما، أجاب بشارة أن بوتين "يعتبر وجود الأسد رمزاً لإنجازه في سورية فلماذا يتخلى عنه إذا لم يكن هناك ضغط دولي عليه"؟ وفي هذا السياق، لفت بشارة إلى أن أحداً من الأطراف الدولية الرئيسية لا يضع اليوم دولياً بشار الأسد كعنصر أساسي في العلاقات مع روسيا. وفي الإطار نفسه، شدد بشارة على أن التحليل بأن الأسد انتصر "باكر جداً" بدليل الشتات السوري وحجم الدمار والعجز عن إعادة الإعمار.
واختصر الوضع بالقول إن "الشعب السوري لم يتحرر لكن الإنسان السوري تحرر"، والأدلة، بحسب بشارة، على ذلك كثيرة، منها نجاحات السوريين في الخارج اليوم، وتمكنهم من تأسيس جماعات ضغط حقيقية في الخارج ونجاحات رجال الأعمال وظهور أكاديميين وجامعيين متميزين، وظهور حالات اعتراضية حتى في الداخل السوري حتى اليوم، رغم حجم القتل والسحق الذي تعرض له الشعب السوري.
وانطلق بشارة من حادثة إعادة تماثيل آل الأسد إلى درعا ليقول إن هذا القرار "أكبر دليل على أن النظام بعيد سنوات ضوئية عن الرغبة في لمّ الشمل السوري وبناء البلد". لكنه في المقابل، أوضح أن مواضيع التطرف الديني والخطاب الطائفي والفوضى في صفوف المعارضة، "كلها مواضيع يجب إعادة النظر فيها لأن الوضع الآن لا يسمح للسوريين بفرض أنفسهم" في وجه النظام لا في الداخل ولا في الخارج.
وعن مسار جنيف وتطورات اللجنة الدستورية، قال بشارة إن كل مسار جنيف فارغ منذ بدايته "ومجرد تضييع وقت، لأن النظام لم يذهب إلى جنيف إلا لكسب الوقت، والأسد لن يقدم تنازلاً واحداً ولا أي إصلاح، ذلك أن النظام السوري يعتبر أن أي تنازل صغير يقدّمه، سيكون مدخلاً لانفلات كل السلطة من يده، وحتى ولو وضع دستورا جديدا فهو لن يطبق".
مصر: التغيير سيحصل
وفي ما يتعلق بمصر، شدد بشارة على أن "بعض المظاهر الديمقراطية التي كانت موجودة في بداية حكم (الرئيس عبد الفتاح) السيسي كونه ورث ثورة يناير و30 يونيو، تم إفراغها جميعها اليوم، إذ إن من يحكم مصر هو الجيش والأمن منذ مذبحة رابعة". لكنه اعتبر أن سورية مختلفة عن مصر، "أولاً لأن هناك مؤسسات في مصر وبنية دولة حقيقية لا يوجد فيها نخبة طائفية حاكمة أو تدعي أنها تحكم باسم الطائفة، ولأن هناك هوية مصرية متجانسة".
وختم مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حواره مع التلفزيون العربي بالقول إنه "في النهاية، سواء بالضغط الداخلي أو بالحراك الشعبي، سيحصل التغيير في مصر، لأن ورقة الاستقرار وطمأنة المواطنين إلى وجود الأمن لم تعد قادرة طويلاً على إقناع المصريين بالقبول بهذا الحجم من القمع والحكم بالحذاء العسكري، هذا من دون الكلام عن كاريكاتورية هذا النظام ومستوى ذكاء السيسي وفضيحة أن مصر العظيمة يحكمها شخص مثله".