ومن الواضح أنّ إعلان "قسد" المدعومة من "التحالف الدولي"، قرب الإعلان عن نهاية تنظيم "داعش" في شرقي سورية، كان متسرعاً، حيث لا يزال التنظيم يملك أوراق قوة يمكن أن تطيل أمد المعركة بعض الشيء، خصوصاً أنّ الغموض لا يزال يلفّ مصير قادة التنظيم، وفي مقدمتهم متزعمه أبو بكر البغدادي، الذي لا توجد معلومات مؤكدة عن مكانه.
في غضون ذلك، يبرز تساؤل حول ما إذا كانت "قسد"، ومن خلفها "التحالف الدولي"، يتعمّدان تأخير إعلان الحسم، بانتظار البتّ بعدد من القضايا التي يستدعيها قرب نهاية التنظيم في منطقة شرقي نهر الفرات السورية، لعل أهمها مصير آلاف المسلحين المتطرفين الذين استسلموا، في ظلّ رفض دولهم استلامهم.
وكانت قيادة "قسد" قد تحدثت في بداية مارس الحالي عن قرب حسم المعارك مع تنظيم "داعش" في بلدة الباغوز في ريف دير الزور الشرقي، متوقعةً القضاء على التنظيم خلال أقل من أسبوع. ولكن قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جوزيف فوتيل، قال يوم الجمعة الماضي، إنّ "هزيمة داعش ما زالت بعيدة". وأشار الجنرال الأميركي إلى أنّ "داعش لا يزال لديه قادة ومقاتلون وموارد، لذلك فإنّ الضغط العسكري المتواصل يعدّ أمراً ضرورياً من أجل ملاحقة هذا التنظيم"، لافتاً إلى أنّه سيقوم بالإعلان عن هزيمة التنظيم فقط إذا تأكّد من أنه "لم يعد يشكّل تهديداً، وليس لديه القدرة على التخطيط أو شنّ هجمات ضدّ الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها".
ويكاد يتحوّل الوضع في الباغوز إلى "لغز"، حيث عجز "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، عن التعجيل بالحسم بعد مرور أكثر من شهر على حصار البلدة، رغم أنّ مسلحي التنظيم الذين كانت تشير التقديرات إلى أنّهم بالمئات، ينتشرون في بقعة جغرافية ضيقة لا تتعدى الـ1500 متر مربع على ضفة نهر الفرات الشمالية. ومن الواضح أنّ تنظيم "داعش" لن يستطيع تغيير موازين القوى في المنطقة، حيث فقد القدرة بشكل كبير على المناورة العسكرية، وأنّ الإعلان الأميركي عن القضاء عليه في منطقة شرقي نهر الفرات مسألة وقت لا أكثر. وفي السياق، نقلت وكالة "رويترز" عن مسلح كان في التنظيم وهو الآن محتجز لدى "قسد"، تأكيده "تزايد الفوضى بين أعضاء داعش مع اقتراب الهزيمة"، مشيراً إلى وجود نزاعات بينهم مع فرار كبار القادة من سورية. ولا يزال الغموض يحيط بمصير هؤلاء القادة، وفي مقدمتهم متزعم التنظيم أبو بكر البغدادي، الذي تؤكّد مصادر أنه لم يعد في بلدة الباغوز، واستطاع النجاة بالخروج إلى منطقة ما في محافظة الأنبار، غربي العراق.
ومن الواضح أيضاً أنّ التنظيم أعدّ عدته لخوض صراع طويل الأمد في الباغوز، من خلال أنفاق حفرها على مدى الأعوام الفائتة، إضافة إلى حقول ألغام سوّر بها البلدة، وتبدو مهمة "قسد" بالتعامل معها صعبة. وتسعى هذه القوات إلى إنهاك فلول التنظيم بحصار طويل يدفعهم إلى الاستسلام لها، بدل المغامرة بحياة مسلحيها في معركة استنزاف ربما تؤدي إلى مقتل المئات منهم، خصوصاً أنّ من بقي من مسلحي "داعش" داخل الباغوز، وجلهم من الأجانب، وفق مصادر مطلعة، يبدو أنهم يستعدون للمعركة حتى الرمق الأخير، لا سيما أنهم فشلوا في شقّ ممر نجاة لهم إلى العراق، أو إلى بادية دير الزور مترامية الأطراف، جنوب نهر الفرات.
وتؤكد مصادر محلية في دير الزور، أنّ لدى "داعش" أسرى من قوات "قسد"، يهدّد بقتلهم في حال شنّ هجوم واسع النطاق ينتهي بالقضاء على فلول التنظيم المتهالك، الذي بلغ ذروة اندفاعه في عامي 2014 و2015 في سورية والعراق، قبل أن يبدأ رحلة تراجع، يمكن أن تؤدي إلى اختفائه في كلا البلدين، ما خلا "خلايا نائمة" في البادية السورية، تحاول قوات النظام التعامل معها في الآونة الأخيرة، ولكنها تجد صعوبة في القضاء عليها، وفي غربي العراق، حيث يمكن أن تعكّر الأمن في المناطق التي كان التنظيم يفرض سيطرته عليها.
وفي مقابل تأخر الحسم العسكري في بلدة الباغوز، تقفز إلى الواجهة الكثير من القضايا الشائكة التي ولّدها قرب انتهاء التنظيم، والتي لا يبدو أنّ لها حلولاً ناجعة لدى المجتمع الدولي في المدى المنظور، ولا سيما تلك المتعلقة بالمئات من مسلحي التنظيم الذين استسلموا لقوات "قسد"، وكثير منهم من جنسيات أجنبية مختلفة، إضافة إلى عائلات هؤلاء المسلحين الذين يكتظّ بهم مخيم "الهول" في ريف محافظة الحسكة السورية، في ظلّ ظروف تكاد تصل إلى حدود الكارثة، وفق مصادر زارت المخيم المذكور حديثاً.
ويعترف مسؤولون أكراد سوريون بأنّ مصير هؤلاء المسلحين من أبرز التحديات التي تواجههم بعد القضاء على تنظيم "داعش" في منطقة شرقي نهر الفرات، خصوصاً أنّ الدول التي يحمل هؤلاء المسلحون جنسياتها ترفض استلامهم. وتؤكّد مصادر إعلامية أنّ نحو 19000 شخص، بينهم أكثر من 2200 من عناصر التنظيم، خرجوا من بلدة الباغوز منذ نحو شهر، إلى مناطق تحت سيطرة "قسد"، مشيرةً إلى أنّ مخيم "الهول" بات يحوي نحو 60 ألف شخص من عوائل التنظيم ومهجرين من تلك المنطقة إلى المخيم. ومن بين الخارجين مئات بين رجال ونساء، ظهروا في مقاطع مصورة على الإنترنت وهم يؤكدون مضيّهم في تبني أفكار "داعش".
من جانبه، قال الباحث السياسي المقرّب من "الإدارة الذاتية" الكردية، إدريس نعسان، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "عناصر داعش وعائلاتهم المستسلمين إلى قوات سورية الديمقراطية، يمثلون عبئاً كبيراً على المجتمع والإدارة السياسية والأمنية في شمال شرق سورية"، مضيفاً أنه "من الصعب جداً أن تتوفر الإمكانات الذاتية للتعامل مع هذا التحدي الكبير الذي يضاف إلى تركة التنظيم الفكرية في المناطق التي تحررت منه".
وأوضح نعسان أنّ "قسد" والإدارة السياسية في الإدارة الذاتية "أطلقت نداءاتها إلى المجتمع الدولي، وطالبته بضرورة القيام بواجباته تجاه تحمل مسؤوليته، إما بإعادة عناصر تنظيم داعش وعائلاتهم حسب جنسيات الدول التي التحقوا منها بالتنظيم إلى بلدانهم تلك، أو بتوفير الظروف الملائمة لمحاكمة عناصر ومقاتلي التنظيم على الأراضي السورية". وختم بالقول: "ولكن تلك النداءات لم تلقَ الاستجابة إلى الآن، والواضح أنّ المجتمع الدولي يعيش حالة إرباك تجاه سبل معالجة هذه التركة الثقيلة للتنظيم الإرهابي".