"السترات الصفراء" في جولتها الـ13: عنف الشرطة يتواصل

09 فبراير 2019
متظاهرون يواجههم عناصر الشرطة في باريس (توماس سامسون/فرانس برس)
+ الخط -

دخلت احتجاجات "السترات الصفراء"، اليوم السبت، جولتها الثالثة عشرة، على وقْع مواصلة الشرطة وقوى الأمن اللجوء إلى استخدام العنف لقمع المتظاهرين، ووسط توتر سياسي غير مسبوق بين الحكومة الفرنسية ونظيرتها الإيطالية، أدى إلى سحب فرنسا سفيرها في روما للتشاور.

وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية، بعد الساعة السابعة مساء، أن تظاهرات اليوم شهدت خروج 51 ألف و400 شخص متظاهر في عموم فرنسا، من بينهم 4 آلاف شخص في باريس، فيما تحدثت مصادر السترات الصفراء عن خروج 110 آلاف متظاهر في عموم فرنسا، إلى حدود السادسة مساء، كما أن عدد الموقوفين على هامش حراك اليوم في باريس كان 36 شخصًا، وضع 21 منهم تحت الاعتقال الاحتياطي.

وكل تظاهرة تحمل نصيبها من العنف المتبادل من بعض المتظاهرين ومن بعض أفراد قوى الأمن، وأيضا من التخريب والحرق، ومن بينها تحطيم واجهة مقر مداومة النائبة عن حزب "الجمهوريون" في "شالون-إن-شامباني"، كما ألقي مقذوف على مركز شرطة في مدينة لوريان، من دون التسبب بإصابة أحد. ومن جهة أخرى جرح متظاهر في مدينة نانت، في رجله، بقاذف رصاصة الدفاع.

ولكن باريس، وكعادتها شهدت أعنف المواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن، أمام مجلس النواب وأيضا في ساحة "شان دو مارس"، حيث انتهت كبرى التظاهرات الباريسية المرخصة.
وقد حطم بعض المتظاهرين واجهة متجر "ديور"، كما ألحقت أضرار بوكالتين مصرفيتين في شارع رين، في الحي اللاتيني، وبوكالة مصرفية تابعة لـ"شركة عامة" في جادة مونبارناس.

وما أغضب وزير الداخلية هو إحراق بعض المتظاهرين سيارة تابعة للشرطة المنخرطة في خطة "فيجي بيرات"، لمواجهة الاعتداءات الإرهابية. وعبر كريستوف كاستانير عن الشعور بـ"الغضب والتقزز"، واعتبر هذا العمل "غير مسؤول"، وتوعد باعتقال منفذي الاعتداء ومحاكمتهم.

وإذا كان كل يوم سبت يكشف حصيلته المأساوية، فإن هذا اليوم شهد تعرض "مُصوّر سترات صفراء" لقنبلة ألقتها الشرطة لتفريق متظاهرين بالقرب من مجلس النواب، لفك الحصار من حولهم، وحين حاول تفادي ارتطامها بساقه انفجرت على يده، فأفقَدَته كلَّ أصابعه. وكان المنظر مأساويًا، كما وصفه متظاهر، يحمل اسم كوبرريان روايي، كان يصوّر المشهد.

ولم يقتصر التوتر والمواجهات بين المتظاهرين وقوى الأمن على مدينة باريس، وحدها، فقد عرفت ليون مواجهات، أوقفت على إثرها قوى الأمن نحو عشرين شخصا. كما واصلت قوى الأمن استخدام "أسلحتها الدفاعية" المثيرة للجدل، في كثير من المدن، ومن بينها مدينة لوريان، بعد إحراق متظاهرين للقمامة ومهاجمة الشرطة.

وأحرق المتظاهرون سيارتين في مدينة بوردو، علما أن هذه المدينة لا تزال نشيطة في الحراك من خلال خروج خمسة آلاف متظاهر، رغم مناشدة عمدتها ألان جوبيه. ورشّت الشرطة متظاهرين في مدينة نانت بالغازات المسيلة للدموع. وفي مدينة ديجون، اجتاح متظاهرون مركزًا تجاريًا واقتحم آخرون سكك الحديد.

وتميزت مدينة تولوز، ولا تزال، بكونها القلب النابض للحراك، فقد شهدت خروج ما يقرب من سبعة آلاف متظاهر، وتشهد هذه المدينة، خلاف كثير من المدن، تلاحُم متظاهرين من مختلف تيارات اليسار، كما شهدت عدة مرات تظاهُرَ السترات الصفراء إلى جانب المدافعين عن البيئة.

وبسبب ظهور وزير الداخلية، كريستوف كاستانير، وتبوئه المشهد الإعلامي، طيلة اليوم، خلافًا لأسابيع سابقة ظل فيها صامتًا، بعد انتقادات سابقة، جدّدت حركة "فرنسا غير الخاضعة" الدعوة لاستقالته، لأنه "شخص غير ذي كفاءة"، فقد "اعترف من قبل بأنه يعرف مثيري الشغب، فلماذا لا يوقفهم؟"، كما تساءل النائب البرلماني أليكسي كوربيير، الرجل الثاني بين قياديي الحركة.

وإذا كانت المواجهات حاضرة، مثل كل سبت، ومَشاهد الحرق والتحطيم، كما مشهد سيارة الشرطة المحترقة، على كل القنوات الإعلامية، فإنّ الحكومة، في شخص وزير الداخلية، لا تزال ترفض الحديث عن إصابات بين المتظاهرين، وقد جدد كاستانير، هذا الإنكار، أثناء مداخلة له في جامعة السوربون، هذا الأسبوع، وهو ما جعل طالبا يتصدى له أمام الحضور، كاشفا عن صُوَر الضحايا، ممن فقئت أعينهم، ويتعجب من حضور هذا الوزير إلى السوربون وإنكار الحقيقة. ​

وفي كل يوم سبت يتغير برنامج التظاهرات والاحتجاجات، وتتغير أولوية الشعارات، وليس غريباً أنّ بعض شعارات هذه الجولة: "إقالة كاستانيير" (كريستوف كاستانيير وزير الداخلية)، و"إقالة الرئيس إيمانويل ماكرون"، و"إلغاء الجمهورية الخامسة"، على خلفية الانتقادات لعنف قوات الشرطة مع المتظاهرين.

وبدأت تظاهرة في العاصمة باريس، أُعلن عنها فقط صباح اليوم السبت، من "ساحة ليتوال" بجانب قوس النصر، متجهة إلى "شان دي مارس"، وقد مرّت بالقرب من وزارة الخارجية والجمعية الوطنية (البرلمان)، حيث شهدت توتراً عندما حاول بعض المتظاهرين تسلّق شبابيك المقر، وهو ما قمعته قوى الأمن، متسببة في إصابة متظاهر بجراح خطرة.

وكانت الصفحات التابعة لـ"السترات الصفراء" على موقع "فيسبوك"، قد شددت على أنّها "لن تتخلى عن أي شيء من مطالبها، حتى يتنحّى (الرئيس إيمانويل) ماكرون وتزول الجمهورية الخامسة"، وهو ما يأمل فيه بعض السياسيين، على رأسهم جان لوك ميلانشون وحركته "فرنسا غير الخاضعة".

وهتف المتظاهرون، الذين حملوا أعلاماً وطنية، شعارات "الشرطة معنا، الشرطة معنا"، وطالبوا بسجن ألكسندر بنعلا، الحارس الشخصي السابق لماكرون، بالقول: "بنعلا إلى السجن".

مواعيد غير معلنة

ووسط حضور أمني، قوامه أربعة آلاف عنصر في باريس وحدها، عبّر وزير الداخلية كريستوف كاستانيير، عن تعبئة كبيرة لقوى الأمن، مبرراً الأمر بأنّه يتعلّق بـ"الطقس"، و"التظاهرات غير المنظمة والمُعلَنة".

واتهم كاستانيير "السترات الصفراء" بأنها "تريد الإضرار بالمؤسسات"، مضيفاً أن "لا أحد يريد تكرارها كل يوم سبت".

وقال إنّ "زعماء السترات الصفراء الرئيسيين قرروا ألا يعلنوا عن هذه التظاهرات. إذن يريدون إزعاج قوى الأمن"، في إشارة إلى رفض إيريك درووي، أحد قادة الحراك الأكثر راديكالية، الإعلان عن مكان انطلاق التظاهرة، قائلاً إنّ "من يعلنون عن تظاهراتهم سئموا من انتهائها، دائماً، بالطريقة نفسها".

ولم يتخلّف عن هذه التظاهرة، جيروم رودريغيز، أحد رموزها الأكثر شعبية، رغم إصابته بمقذوف في عينه اليمنى، قبل أسبوعين، من قبل عناصر الشرطة، والذي كرّست له صحيفة "ليبراسيون" بورتريه فيه كثير من التعاطف، وكذلك فعلت مع لويس بوايار (18 سنة)، رئيس نقابة الاتحاد الوطني التلاميذي، الذي تعرّض لإصابة في رجله باتت تعيق تحركاته، وسيكون حاضراً في تظاهرات، اليوم السبت، على كرسي متحرك.

ولا يزال الرئيس ماكرون، رغم كل الانفتاح الذي عبّر عنه، يحظى بانتقادات المتظاهرين الذين يصفونه بـ"القاتل".

وعبّر متظاهرون آخرون عن شكرهم لموقع "ميديا بارت" الإخباري الذي فتح موقعه أمام جرحى تظاهرات "السترات الصفراء"، من جراء العنف البوليسي وأسلحته "الدفاعية"، كما تعرّض أخيراً لمحاولة فاشلة من الشرطة لتفتيش مقاره ومصادرة وثائق متعلقة بقضية بنعلا.

ومثل كل يوم سبت، تشهد مختلف مدن فرنسا، تظاهرات "السترات الصفراء"، مثل بوردو ومونبوليه وليل ونانت وستراسبورغ ورين وبريست ولوريان وتولوز ومارسيليا وغيرها، وقد أعلنت صفحات "فيسبوك" عن تعبئة كبيرة في هذه المدن، ودعوات إلى تنفيذ عصيان مدني.

وخلافاً لوزارة الداخلية والعديد من أعضاء الحكومة، الذين يقرأون ويحللون، في نهاية كل يوم سبت، أعداد المتظاهرين، على أمل خفوت الحراك وموته، تعلن صفحات السترات الصفراء، عن مواعيد وجولات قادمة، وبعضها يبشر بالجولة الثامنة عشرة، لـ"الغاليين المتمردين في ساحة شان-دي مارس"، في إشارة إلى وصف الرئيس ماكرون في ندوة صحافية للفرنسيين بأنهم "غاليون متمردون".

التوتر الفرنسي الإيطالي

وتأتي الجولة الـ13 لتظاهرات "السترات الصفراء"، على وقع التوتر الذي تسببت به بين الحليفين التاريخيين والعضوين المؤسسين للاتحاد الأوروبي؛ فرنسا وإيطاليا، بعدما سحبت باريس سفيرها في روما للتشاور، وقد حدثت هذه الخطوة مرتين فقط في الاتحاد، مرة عام 2016 حين سحبت اليونان سفيرها في النمسا، ومرة عام 2017 حين سحبت المجر سفيرها في هولندا.

وجاءت هذه الخطوة بعدما شعرت الحكومة الفرنسية بامتعاض شديد، من لقاء جرى بين رئيس حركة "خمس نجوم" الإيطالية، لويجي دي مايو، وهو الرقم الصعب الثاني في الحكومة الإيطالية، وبين أحد وجوه "السترات الصفراء" كريستوف شالينسون، المعروف بأفكاره المتشددة.

وشالينسون عضو في القائمة التي تترأسها إنغريد ليفاساسور، وتريد بعض قيادات "السترات الصفراء" تقديمها في الانتخابات الأوروبية المقبلة، في مايو/أيار المقبل، بينما ترفضها جماعات عديدة في الحراك.

وكانت الحكومة الفرنسية التي انتقدت زيارة دي مايو، على اعتبار أنّها انتهكت "الدبلوماسية الأكثر بدائية" لأنّها كانت غير معلنة، قد أكدت أنّ استدعاء سفيرها في إيطاليا "مؤقت، ولكنه يبعث بإشارة مهمة" نحو حليفها التاريخي، بعدم التدخل في الشؤون الفرنسية الداخلية.

وكما أثار هذا اللقاء حفيظة الرسميين الفرنسيين، فإنّه ساهم في بث الفرقة بين مكونات الحراك، إذ بادر مكسيم نيكول زميل شالينسون، إلى التأكيد، اليوم السبت، على أنّ "السترات الصفراء حركة غير سياسية لا قائد لها"، معلناً عن مشاركته في تظاهرة في مدينة نيس، تحت شعار: "مساندة الجرحى وعائلاتهم".

حوارات ماكرون

وتأتي هذه التطورات، فيما "الحوار الوطني الكبير" الذي أطلقه ماكرون، بهدف الخروج من هذه الأزمة غير المسبوقة، يمد رئيس الجمهورية بمهلة يحتاجها، بانتظار نتائج سيحسمها استفتاء شعبي على الأرجح، على الرغم من عدم تحمّس قطاعات عريضة من "السترات الصفراء" لهذا الحوار.

ويواصل ماكرون وصلاته الخطابية، التي تذكّر بإطلالاته خلال حملة انتخابات الرئاسة، والتي تخشى المعارضة من استغلالها في حملته للانتخابات الأوروبية المقبلة.

وقد استقبل ماكرون ممثلي كل القوى السياسية الممثلة في البرلمان، وبعض ممثلي النقابات، خاصة "سي إف دي تي" الإصلاحية، فيما رفضت باقي النقابات لقاءه، معتبرة أنّ هذه اللقاءات من طرف رئيس لم يفعل سوى إضعاف النقابات منذ وصوله إلى قصر الإيليزيه، "حملة علاقات عامة، تهدف إلى ربح الوقت".




وهكذا، لا تزال فرنسا منشطرة على نفسها، بين من يريد نتائج ملموسة لـ"الحوار الوطني الكبير"، وبين من يؤيد، وهم أغلبية، لحد الآن، حراك "السترات الصفراء"، رغم مظاهر العنف التي ترافق الاحتجاجات، معربين عن عدم ثقتهم في وعود الرئيس ماكرون، الذي يقاوم، بكل ما يستطيع، من أجل الخروج من توصيف "ملك الأثرياء" الذي ألصق به.

انعدام ثقة المتظاهرين في الرئيس، يكرّسه رفضه اللقاء بهم، إلى حد الآن، والاعتراف بجرحاهم، بل تساؤله الساخر من مطالبات الكثيرين، بمن فيهم منظمات طبية وحقوقية وإنسانية، تطالب بوقف استخدام الشرطة للسلاح "الدفاعي" المسؤول عن العديد من الإصابات بين المتظاهرين، قائلاً إنّ "هناك مطلباً بنزع قاذف رصاص الدفاع من الشرطة، بينما يأتي البعض من أجل القتل باستخدام بنادق"، علماً أنّ قوى الأمن لم تسجل، منذ بدء الحراك، أي حادثة عن متظاهر استخدم سلاحه الناري في مَواكب التظاهرات.