كان الخميس الماضي آخر ظهور لقائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، حين جرى توسيمه بوسام برتبة صدر من مصف الاستحقاق الوطني، من قبل الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون. وعن عمر ناهز 80 عاماً (من مواليد 13 يناير 1940 بولاية باتنة شرقي الجزائر)، غادر الفريق أحمد قايد صالح الحياة عقب سكتة قلبية مفاجئة.
يمتد المسار العسكري الحافل لقايد صالح إلى أكثر من 60 سنة، بدأه في صفوف جيش التحرير خلال ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما يجعل قايد صالح من بين القيادات العسكرية الثورية، ومن خارج ما يعرف بمجموعة "ضباط فرنسا"، وهم مجموعة الضباط الذين كانوا ينتسبون إلى الجيش الفرنسي زمن ثورة التحرير قبل أن يلتحقوا في الربع ساعة الأخير بالثورة، ولعبوا دوراً مركزياً في محطات سياسية بارزة في الجزائر، أبرزها قرار الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد، ووقف المسار الانتخابي في يناير/ كانون الثاني 1992.
بعد الاستقلال مباشرة، أرسل الفريق قايد صالح ضمن الدفعة الأولى التي تكونت في الأكاديمية العسكرية "فيستريل" بموسكو في الاتحاد السوفياتي، ودفعت التطورات التي شهدتها المنطقة العربية إلى إيفاده برفقة قوات جزائرية إلى جبهة القتال في حرب يونيو/ حزيران 1967، للمشاركة في الحرب العربية الإسرائيلية، حيث ظل هناك حتى عام 1968، وشارك في حرب أكتوبر عام 1973، وحاز بسبب مساهماته تلك وسام الجيش من الشارة الثالثة، ووسام مشاركة الجيش في حروب 1967 و1973، ووسام الشجاعة ووسام الاستحقاق العسكري وكذلك وسام الشرف، إضافة إلى وسام جيش التحرير بصفته مجاهداً في زمن ثورة التحرير.
في الجزائر، تقلد الفريق قايد صالح عدداً من المناصب العسكرية، من بينها قائد كتيبة مدفعية، ثم قائد للواء، وقائد القطاع العملياتي الأوسط ببرج لطفي جنوبي الجزائر، وقائد مدرسة تكوين ضباط الاحتياط بالبليدة وسط البلاد، وتقلد أيضاً منصب قائد للقطاع العملياتي الجنوبي لتندوف جنوبي الجزائر، قبل أن يعيَّن نائباً لقائد الناحية العسكرية الخامسة التي تضم الصحراء، ثم قائداً للناحية العسكرية الثالثة، وبعدها قائداً للناحية العسكرية الثانية. وفي عام 1993، رُقِّي إلى رتبة لواء في 1993، قبل أن يعيَّن عام 1994 قائداً للقوات البرية، وفتح المنصب الأخير له الباب لاعتلاء أعلى منصب في الجيش: قائد الأركان، حيث يتولى في الغالب قائد القوات البرية هذا المنصب.
عقب الانتخابات الرئاسية المثيرة، التي شهدت منافسة بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورئيس حكومته آنذاك علي بن فليس، إذ كان الأخير مدعوماً من قائد أركان الجيش حينها محمد العماري، ما دفع الرئيس بوتفليقة إلى تنحية العماري، وتسمية قايد صالح رئيساً لأركان الجيش، ثم تقليده رتبة فريق سنة 2006، عُيِّن نائباً لوزير الدفاع الوطني في 2013، بعد تعرض الرئيس عبد العزيز بوتفيلقة لوعكة صحية في إبريل/ نيسان من السنة نفسها.
كان هذا القرار المزدوج، التعيين في أعلى منصب والإنقاذ من الاستبعاد والتقاعد، سبباً كافياً لبقاء الفريق قايد صالح، كأكبر سند وداعم للرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الحكم، وفي الحرب الخفية التي كان يقودها بوتفليقة ضد قائد جهاز المخابرات محمد مدين (الموقوف في السجن العسكري) وشبكته، والتي انتهت بإحالته على التقاعد عام 2015، واسترجاع الجهاز تحت وصاية الرئاسة ثم هيئة الأركان، كما وافق قبل ذلك الفريق قايد صالح على دعم ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة في الانتخابات التي جرت في إبريل/ نيسان 2014، برغم الوعكة الصحية التي ألمّت ببوتفليقة وأبعدته عن المشهد في 2013، وكان قايد صالح يردد في مجمل خطاباته أن "إنجازات الرئيس بوتفليقة لا ينكرها إلا جاحد".
لكن التطورات التي حصلت لاحقاً، وتعاظم المظاهرات الرافضة للانتخابات، وقرار الرئيس بوتفليقة إلغاء الانتخابات في 11 مارس/ آذار الماضي، دفعت قائد الجيش إلى بدء سباق خفي ضد مجموعة من العسكريين والسياسيين المحيطين بالسعيد بوتفليقة للسيطرة على الوضع، وتحول خطابه لاحقاً في اتجاه تشديد التدابير الأمنية والدعوة إلى الاستجابة لمطالب الشعب، خاصة بعد رصد اجتماعات تنسيق مشبوه بين السعيد بوتفليقة والقائد السابق لجهاز المخابرات محمد مدين، ووزير الدفاع السابق خالد نزار، بهدف إعلان حالة الطوارئ، وإنزال الجيش إلى الشارع، ونقل السلطة إلى هيئة رئاسية بقيادة الرئيس السابق ليامين زروال، وإقالة الفريق أحمد قايد صالح من منصبه. وفي اللحظة الأخيرة لحق قايد صالح بقرار إقالته الذي كان موجهاً إلى التلفزيون العمومي والإذاعة الحكومية، وفرض حصاراً على كل وسائل الإعلام ومنع بث أي خبر أو قرار من الرئاسة، وأعلن في خطابه الشهير في 30 مارس دعوته إلى تطبيق المادة 102 من الدستور التي تعني استقالة الرئيس بوتفليقة من منصبه.
وبعد استقالة بوتفليقة وتوقيف شقيق الرئيس والقائد السابق للمخابرات ومجموعة من القيادات العسكرية والأمنية الرفيعة وإيداعها السجن العسكري، أصر الفريق قايد صالح على تطبيق مخرجات الدستور لمعالجة الأزمة السياسية، ورفض كل مقترحات المعارضة للدخول في مرحلة انتقالية أو تعيين هيئة رئاسية، وظل يردد أن "عهد المراحل الانتقالية انتهى"، لكنه منع في المقابل أية توترات في الشارع، إذ كان قد أصدر في السابع من مارس تعليمة مشددة لكل قوات وأجهزة الأمن والجيش لمنع استعمال الرصاص أو أي مواجهة دموية للمتظاهرين، والتزم عدم سقوط قطرة دم واحدة في البلاد. لكنه دخل في صراع حاد مع الحراك الشعبي بفعل إصراره على استمرار رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح وحكومة نور الدين بدوي، وإغلاقه العاصمة الجزائرية أيام الجمعة، ورفضه رفع الراية الأمازيغية في مظاهرات الحراك، واعتقال عدد من الناشطين بسبب ذلك ولانتقادهم له وللجيش.
هيمن قايد صالح على المشهد السياسي والإعلامي منذ نهاية مارس الماضي، متحدثاً باسم السلطة، إذ كان يظهر بصفة الحاكم الفعلي للبلاد، وصدرت أبرز القرارات من مكتبه، بما فيها تحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وبرغم تقدمه في السن، إلا أنه كان يظهر كل أسبوع في زيارات طاولت كل مناطق الجزائر، وألقى خلال هذه الفترة أكثر من 53 خطاباً، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الجيش الجزائري.
وسيحسب الكثيرون مواقف قايد صالح، منذ 2004 وحتى استقالة بوتفليقة، ودعمه لنظامه وسياساته، ضده، إذ يعتبرون أن دعوة قايد صالح لمكافحة الفساد وما يصفها بـ"العصابة" التي كانت تحيط ببوتفليقة، لا تعفيه من المسؤولية السياسية، لأنه كان أحد أركان نظام بوتفليقة، وقبل ذلك مسؤوليته خلال الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد في التسعينيات. لكن ما يحسب للفريق الراحل، في المقابل، تمسكه بالدستور ورفضه السيطرة على الحكم، في وقت كان يمكنه ذلك، وفقاً لتجارب المنطقة العربية والأفريقية، كما يحسب له، برغم كل اعتراضات الحراك الشعبي، توجهاته السياسية المناوئة للهيمنة الفرنسية، وتحويله تعاملات وزارة الدفاع من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية والإنكليزية فقط، ونجاحه الكبير في مشروع تطوير الصناعات العسكرية وتسليح الجيش الجزائري، والأهم حقنه دم الجزائريين ومنعه سيلان قطرة دم واحدة خلال عشرة أشهر من الحراك الشعبي، وربما كان حسن خاتمته إنجاز الانتخابات الرئاسية في ظروف أقل توتراً وكلفة مقارنةً بالمواقف الرافضة لذلك في عدد من مناطق الجزائر.