تضارُب المصالح يُشعل حرباً باردة بين تركيا وفرنسا

01 ديسمبر 2019
وصف أردوغان ماكرون بالمبتدئ (أوريليان مونييه/Getty)
+ الخط -

ارتفعت حدة التوتر والحرب الكلامية بين باريس وأنقرة، قبل أيامٍ من انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي المرتقبة في لندن. هذا التوتر، الذي وصل إلى ذروته مع تصريحٍ ناري للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، انتقد فيه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، واصفاً إياه بـ"المبتدئ"، ما دفع باريس إلى استدعاء السفير التركي لديها للمرة الثانية خلال وقت قصير. ويعكس ما يجري اختلاف الرؤى بين البلدين حول عددٍ من القضايا الدولية، بل ينمّ عن مرارة تركية مزمنة حيال أوروبا، وتعاطٍ أوروبي سلبي طويل الأمد في المقابل مع تركيا – أردوغان، فاقمه الـ"التعاطف" الفرنسي، إذا صحّ وصفه، مع "القضية الكردية". لكنه يشير بالدرجة الأولى إلى تضارب المصالح والمواقف داخل حلف الأطلسي نفسه، واختلاط الأضداد في منظمة تحتفل بعيدها الـ70، من دون القدرة على تحديد أولوياتها وتحدياتها.

ووجّه الرئيس التركي هجوماً لاذعاً إلى نظيره الفرنسي، أول من أمس الجمعة، على خلفية انتقاد الأخير للتدخل العسكري التركي في سورية، مشيراً إلى أن ساكن الإليزيه في حالة "موت دماغي"، مستعيراً العبارة التي استخدمها ماكرون نفسه أخيراً في حديث لمجلة "إيكونوميست"، لوصف الحال التي يرى أنها تعتري حلف شمال الأطلسي، والتي أثارت ضجة وانتقادات من دول أعضاء في الحلف. وفي خطاب متلفز، قال أردوغان "أتوجه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسأكرّر ذلك له في قمة حلف الأطلسي. عليك قبل أي شيء أن تفحص موتك الدماغي أنت نفسك. لا تناسب تصريحات من هذا النوع إلا أمثالك الذين في حالة موت دماغي". وأضاف "حين يتعلق الأمر بالتباهي، أنت تتقن ذلك. لكن حين يكون المطلوب تسديد المبالغ المترتبة عليك للحلف الأطلسي، يختلف الأمر. إنك مجرّد مبتدئ". وفي ردّ فعلها على هذه التصريحات، أعلنت الحكومة الفرنسية استدعاء السفير التركي إسماعيل حقي موسى، في ثاني استدعاء له خلال شهرين. واعتبر الإليزيه أن "هذا ليس تصريحاً، بل إهانات"، في معرض وصفها تصريحات أردوغان.

ويأتي كلام الرئيس التركي رداً على انتقادات ماكرون الأخيرة للعملية العسكرية التي تنفذها أنقرة داخل الأراضي السورية ضد المسلحين الأكراد. وكان ماكرون أبدى يوم الخميس الماضي "تفهمه" لـ"المخاوف الأمنية لدى حليفتنا تركيا التي تعرَّضت لهجمات عدة على أراضيها"، لكنه اعتبر أنه "لا يمكنك من ناحية القول إننا حلفاء وطلب التضامن في هذا الصدد، ومن ناحية أخرى وضع حلفائك أمام الأمر الواقع المتمثل في عملية عسكرية تعرّض للخطر أعمال التحالف المناهض لتنظيم داعش، الذي ينتمي إليه حلف شمال الأطلسي". وردّاً على ذلك، اعتبر أردوغان نظيره الفرنسي "عديم الخبرة، ولا يعرف معنى محاربة الإرهاب. لهذا اجتاحت حركة السترات الصفراء فرنسا". ورأى أن لدى بلاده الحق بالتدخل في سورية، نظراً لوجود حدود مشتركة بين البلدين. ومتوجهاً لماكرون، قال أردوغان "ما دخلك أنت بسورية؟ لوّح بقدر ما تشاء، في نهاية المطاف ستعترف بصحة كفاحنا ضد الإرهاب".

ولم يكن هجوم الجمعة الأول الذي تشنّه أنقرة على ماكرون رداً على انتقاده لها. ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شبّهه وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو بـ"ديك يصيح"، بعدما انتقد الرئيس الفرنسي سجل أنقرة على صعيد حقوق الإنسان في خطاب أمام مجلس أوروبا. واعتبر الباحث لدى المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والاستراتيجية، ديدييه بيليون، في حديث لوكالة "فرانس برس"، أن تدهور العلاقات بين فرنسا وتركيا بات "تقريباً بدرجة الخطورة نفسها التي سجلت في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي"، الذي كان أثار حفيظة تركيا عبر معارضته طموحاتها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.




"الانضمام" وسورية
ولا يُخفي المسؤولون الأتراك مرارتهم من موقف باريس الرافض لانضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، وهو موقف أضيف إلى مواقف البلدان الأوروبية الأكثر اعتراضاً على انضمام هذا البلد المسلم الكبير إلى "الاتحاد". والحقيقة أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة، حتى وإن لم ترفض بشكل علني التحاق تركيا، إلا أن مسلسل المفاوضات الطويل، بين أنقرة وبروكسل، مع كل الشروط التعجيزية التي تضعها الأخيرة، ظلّ الأتراك يعتبرونه رفضاً. ولم يتميز سوى مسؤول فرنسي واحد بمواقفه العلنية والمكتوبة الداعمة لانضمام تركيا، وهو رئيس الحكومة الاشتراكي الأسبق الراحل ميشيل روكار، إلا أن ذلك لم يُحدث الاختراق المطلوب.

إلى ذلك، اكتشف الفرنسيون، اليوم، كما الأتراك، أن رؤاهم مختلفة في ما يخص الملف السوري. وعوّلت باريس، ولا تزال، على الأكراد السوريين في محاربة الإرهاب، وهي فتحت معهم قنوات دبلوماسية متقدمة، واستقبلت قادة لهم في الإليزيه، بفضل نشاط اللوبي الكردي القوي في فرنسا، وهو لوبي يتواجد فيه يساريون ويمينيون فرنسيون على السواء، ولكلمته صدى مسموع لدى ماتينيون (مقر الحكومة) و"الكيه دورسيه" (وزارة الخارجية).

وبينما كانت الحكومة الفرنسية تسلّح وتدرب المقاتلين الأكراد السوريين، كانت أنقرة تؤكد أن هؤلاء ينسقون مع تنظيم حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره أنقرة وعدد من دول العالم تنظيماً إرهابياً.

كما أن تركيا ترفض رفضاً مطلقاً فكرة إنشاء دولة أو كيان كردي على حدودها، وتعتبره فاتحة لتفكك دول المنطقة. وعلى الرغم من أنّ الفرنسيين لم يتحدثوا صراحة عن دعمهم لكيان كردي سوري، إلا أن مسؤولين أتراكاً لا يخفون في تصريحاتهم نوعاً من الارتياح لأن عمليتهم الأخيرة والمستمرة في سورية أفشلت، كما يقولون، نية فرنسية في إنشاء هكذا كيان. أما بالنسبة إلى الارتباط بحلف شمال الأطلسي، فقد انتقد المسؤولون الفرنسيون، صراحة، العملية التركية داخل الأراضي السورية، وعلى رأسهم ماكرون، معتبرين أنها ضربةٌ قوية من حليف أطلسيّ للحرب التي يشنها "التحالف الدولي" ضد إرهابيي "داعش"، مطالبين الأتراك بـ"العودة إلى مواقف أكثر تعقّلاً". هذه المواقف، أغضبت من جهتها الجانب التركي، الذي اعتبر أنه كان ينتظر دعماً من حلفاء أطلسيين، للعملية التي يعتبر أنها تجري لحماية البلد العضو في الحلف. 

تغذية العداء

وعمقت التصريحات المتبادلة بين باريس وأنقرة، الغضب لدى الأتراك الذين تستفزهم "الدروس" الفرنسية، ما تجلى في التهديد العلني بوقف الاتفاق المبرم مع الاتحاد الأوروبي بخصوص استقبال اللاجئين السوريين، ما يعني إمكانية تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين على أوروبا، كما حدث قبل سنوات. كما زاد العلاقات الثنائية تدهوراً، عزم الحكومة التركية على ترحيل "المقاتلين" الأوروبيين في "داعش" المعتقلين، ومنهم الفرنسيون، إلى بلدانهم، وهو ما بدأت أنقرة في تنفيذه، بعكس رغبة باريس التي أبرمت اتفاقات مع العراق في هذا الشأن، تسمح لبغداد بمحاكمة "الجهاديين" الفرنسيين على أراضيها والاحتفاظ بهم في سجونه، مقابل مساعدات اقتصادية وعسكرية وأمنية.

وأخيراً، إذا كان الرأي العام في فرنسا معادياً، بصفةٍ ما، للنظام التركي، وهو عداء أدت وسائل الإعلام الفرنسي، إلى جانب تصريحات سياسيين فرنسيين يمينيين ويساريين، خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، دوراً كبيراً في تغذيته، إلا أن الدبلوماسية الفرنسية لم تكن معتادة على هذه اللغة التي عبّر عنها الرئيس التركي في انتقاده لسوء تقدير وقراءة الحليف الفرنسي الأطلسي للوضع على الحدود السورية - التركية.

يوم الثلاثاء المقبل، وقبل انعقاد قمة دول حلف شمال الأطلسي في بريطانيا، والذي ستحوم في أجوائه تصريحات الرئيس الفرنسي عن "موت حلف الناتو الدماغي"، سيلتقي الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الحكومة البريطاني بوريس جونسون، نظيرهم التركي، لتهدئة الخواطر، وتهدئة الأمور، على الأقل، إعلامياً، في هذا الملف، لكن ذلك لن يعني تقديم ضمانات من أي طرف وحول أي ملف إشكالي. سيتفق الحلفاء "العسكريون" في الحلف على "التعايش" مع خلافاتهم في ما يخص المصالح، وأيضاً في ما يتعلق بأمزجة وأهواء حُكّامهم.