"لو سافر محمود السيسي، فشقيقاه مصطفى وحسن موجودان... ولو أُبعد أحمد شعبان بييجي محمد رمضان وعلي رجب"، بلهجة ساخرة علّق أحد المراقبين المتخصصين في المشهد السياسي المصري، بهذه العبارة، على زحام الأخبار المنتشرة خلال الأيام الماضية عن تغييرات مرتقبة في دائرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خصوصاً بعد نشر موقع "مدى مصر" الأربعاء الماضي تقريراً حمل ما كانت المصادر السياسية والإعلامية والقريبة من الأجهزة السيادية والأمنية تردده في الكواليس والأروقة لأسابيع خلت، وهو ما تلقفه كثيرون بالترحيب، معتبرين أن السيسي بإبعاد نجله محمود إلى روسيا كملحق عسكري أو استخباراتي، كما يُقال، وإبعاد مدير مكتب مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل، المقدم أحمد شعبان كملحق عسكري أو استخباراتي في اليونان، كما يُقال أيضاً، هي بادرة على انتهاج السيسي سياسات جديدة أكثر انفتاحاً.
وفيما انشغلت وسائل الإعلام بإعادة تدوير تلك المعلومات التي لم تتحقق حتى الآن أو ببناء تحليلات عليها، تم تناسي الفارق الكبير بين بنية نظام السيسي وبنية أي نظام حاكم في مصر سابقاً، خصوصاً في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وهو الوحيد من بين رؤساء مصر السابقين الذي قلّد نجله (جمال) مناصب سياسية رسمية على الأقل على مستوى الحزب الحاكم (الوطني الديمقراطي). هذا ما دفع بعض المراقبين للمقارنة بين السيسي ومبارك على هذا الصعيد، خصوصاً بعد توسع محمود السيسي في سلطاته وصلاحياته منذ انتقال عباس كامل مدير مكتب السيسي إلى إدارة المخابرات، وتعاونهما معاً على الإطاحة بالعشرات من الضباط التابعين لمدير المخابرات السابق المحددة إقامته حالياً خالد فوزي، وكذلك مدير المخابرات ونائب رئيس الجمهورية الأسبق عمر سليمان والذي ظل الضباط التابعون له يتحكمون في شرايين الجهاز لعقود حتى انقض السيسي على السلطة وأوكل إدارة الجهاز إلى اللواء محمد فريد التهامي وتعيين نجله محمود في مكتبه الفني، وبدأ حملة التطهير التي طاولت ما لا يقل عن 300 ضابط مخابرات بحسب مصادر عليمة، بعضهم تم إرغامهم على تقديم استقالاتهم.
ومع التسليم بالدور الكبير الذي أداه محمود السيسي في إدارة الجهاز و"تطهيره" من المجموعات التي اصطلح النظام من الداخل على تسميتها بـ"فلول عمر سليمان"، وكذلك في نقل أخبار الجهاز أولاً بأول إلى والده في عهد التهامي ثم في عهد خالد فوزي، ثم انفراده بالعديد من الملفات في عهد عباس كامل إلى حد قول أحد المصادر إن "إدارة الجهاز حالياً تعتبر ثنائية بين صديق الرئيس ونجله"، لكن محمود السيسي ظل بعيداً كل البعد عن اتخاذ قرارات مؤثرة أو إصدار تعليمات لأجهزة الدولة الأخرى، فهذه السلطات يمتلكها السيسي حصرياً ولم يفوض فيها أي شخص حتى اللحظة.
مصدر حكومي قريب من رئاسة الجمهورية ومطّلع على مستجدات الحركة الإدارية في المؤسسة، يوضح لـ"العربي الجديد" أنه لا يمكن القول إن السيسي تراجع في أي لحظة عن أداء دور الرجل الأول في النظام وبؤرة اهتمام جميع رموزه، والمصدر الأول للتعليمات العامة والتفصيلية به، في أي لحظة منذ تولى السلطة، وأن عباس كامل أو محمود السيسي أو مدير مكتبه الحالي محسن عبد النبي أو أي مسؤول آخر هم أشخاص ينفذون تعليمات السيسي التفصيلية في معظم الملفات، وتعليماته العامة في بعض الملفات التخصصية، وحتى في تلك الأخيرة لا يمكن اتخاذ قرارات من دون العودة للسيسي نفسه.
المصدر يضرب نموذجاً على ذلك بملف السيطرة على الإعلام، ففي البداية كان السيسي يعتقد أن بإمكان عباس كامل بمفرده تنظيم المسألة الهيكلية والمالية عندما بدأت سياسة الاستحواذ على القنوات الفضائية والصحف، وكذلك إدارة ملف الهيئات القومية وماسبيرو، لكن بسبب عدم تحقيق نجاحات في الملف الأخير تم إسناده للرقابة الإدارية في عهد مديرها السابق محمد عرفان، ثم سُحب وأسند لمحمود السيسي، وأخيراً أسند أيضاً للجنة الخاصة التي تحدث عنها تقرير "العربي الجديد" قبل أيام برئاسة الفريق محمود حجازي، وكل هذه التغييرات لا تتم إلا بقرار من السيسي شخصياً. وحتى على مستوى التوجيه الدعائي وإدارة المحتوى، فقد كان في البداية مع الأمن الوطني، ثم أسند بالكامل إلى عباس كامل ومساعده أحمد شعبان وهما في الرئاسة، وبانتقالهما إلى المخابرات العامة انتقلت هذه الصلاحية معهما وما زالت حتى اللحظة، مع إعطاء الأمن الوطني هامشاً للتحرك لتحقيق أهداف معينة يتم الاتفاق عليها أيضاً مع إدارة الإعلام في المخابرات، ولا يمكن تغيير تلك الصلاحيات إلا بقرار من السيسي نفسه.
ويوضح المصدر أنه في المرحلة الأخيرة التالية لتظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الأكبر ضد النظام، لم يمنح السيسي صلاحياته لأي شخص ليدير الموقف بمن في ذلك نجله محمود، وهذا يتفق مع ما سبق وذكرته مصادر أمنية لـ"العربي الجديد" في الأسبوع الأول بعد التظاهرات، ومفاده أن السيسي من نيويورك لم يوافق على الطريقة التي أدارت بها المخابرات المشهد يوم الجمعة وتحديداً في المحافظات، إذ كان من المتفق عليه ألا تتحرك الشرطة إلا بأوامرها، وأن يكون التعامل في محيط ميدان التحرير للشرطة فقط ولكن من دون أن يبدأ بالحشد الكثيف لعناصر الأمن المركزي في الميدان، بحجة أن "تقديرات المخابرات تؤكد ضعف الاستجابة الشعبية لدعوات التظاهر". وبناء على هذا الفشل أصدر السيسي تعليماته من نيويورك إلى مستشاره للشؤون الأمنية، أحمد جمال الدين، ووزير الداخلية اللواء محمود توفيق، بعودة الاستراتيجية المتّبعة منذ 2016 في التصدي للتظاهرات، وذلك بالاعتماد على الوجود الكثيف لقوات الأمن في الشوارع، وإقامة الكمائن الثابتة والمتحركة لاصطياد الشباب الأصغر سناً، وتفتيش المواطنين وهواتفهم، وهو الأمر المتّبع حالياً في محيط ميدان التحرير في القاهرة وميدان الأربعين في السويس، مما كان يعني سحب ملف التعامل الميداني مع المتظاهرين من الاستخبارات وإعادته إلى الشرطة من جديد، مما دفع الشرطة للتعامل مع الموقف بشكل أكثر جدية.
ويكشف المصدر في معلومة جديدة لم يسبق تداولها، أنه منذ عامين تقريباً، وتحديداً منذ الإطاحة بمنافسه المحتمل سامي عنان ومنعه من الترشح للرئاسة وعزل مدير المخابرات السابق ونقل عباس كامل للجهاز، قام السيسي بتوسيع الدائرة الاستشارية الخاصة به، عبر ضم نحو 15 ضابطاً قديماً من المخابرات الحربية ليصبحوا مستشارين دائمين له، بصورة سرية، وأوكل لكل منهم عدة مهام، منها إعداد تقارير عن مجموعات من الأجهزة بشكل يومي، والاجتماع ببعض الوزراء والمسؤولين وإعداد تقارير بذلك. ويباشر هؤلاء عملهم السري هذا من قصر الرئاسة (الاتحادية) ومقر إداري قريب من القصر ومقر إداري آخر في القاهرة الجديدة.
ويعتبر المصدر أن هذه الخطوة كانت بمثابة سحب بعض الملفات التي كان يباشرها حصرياً عباس كامل ومساعده أحمد شعبان قبل ذلك، وتفريغهما مع نجله محمود لمباشرة الملفات التي بحوزة المخابرات بالإضافة لملفين آخرين أساسيين هما الإعداد والتجهيز اللوجستي والموضوعي لمؤتمرات الرئاسة وعلى رأسها مؤتمر الشباب الذي يوليه السيسي اهتماماً كبيراً، وكذلك ملف إدارة البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة والأكاديمية الوطنية للشباب.
ويعكس حديث المصدر إمساك السيسي بكل خيوط المشهد السياسي والأمني تقريباً، سواء بواسطة مستشارين ومساعدين يباشر هو عملهم بصورة يومية، أو بصورة مباشرة، فضلاً عن استئثاره بسلطة تحديد السياسات تجاه المجال العام والحريات.
اقــرأ أيضاً
وارتباطاً بالنقطة الأخيرة الخاصة بالمجال العام، تتفق مصادر شرطية في الأمن الوطني والأمن العام على أن أي انفتاح يتوهمه البعض بسبب ما يتردد عن رحيل نجل السيسي ومساعد عباس كامل "لا يعدو كونه آمالاً لا تساندها وقائع أو معلومات"، مشددة على أن قرار الانفتاح بيد السيسي وحده.
وتكشف المصادر أن حركة التغييرات الأخيرة في صفوف الأمن الوطني تحديداً، والتي جرت الشهر الماضي، شهدت تصعيداً لافتاً لمجموعة من الضباط المعروفين بعلاقتهم الوطيدة بالمخابرات وازدرائهم للإعلام والصحافيين والسياسيين بشكل عام، وأن الأسبوعين الماضيين شهدا دعوة عدد من الصحافيين والسياسيين إلى اجتماعات كانت رسالتها الأساسية "التحذير من توهم انفراط عقد النظام أو مرورك بلحظة ضعف واستغلال ذلك في التصعيد على أي مستوى"، وذلك بالتوازي مع استمرار رقابة المخابرات المنظمة على المطبوعات والمواقع الإلكترونية.
وتوضح المصادر أن السيسي ما زال يؤمن بأن شرعيته الحقيقية مستمدة من القضاء على مجموعة كبيرة من الفصائل السياسية، وتخوين تيارات وأحزاب أخرى، فضلاً عن تصوره أن أي تنازل قد يقدّمه استجابة لضغوط أجنبية سيؤدي به إلى نهاية مشابهة لنهاية عصر مبارك، بثورة شعبية أو حركة انقلابية من داخل الجيش أو بتحالف بين الجيش ومؤسسات أخرى.
وتذكر المصادر الشرطية أيضاً أن السيسي نفسه لا يود العودة للتواصل مع الشخصيات الإعلامية التي كان يثق بها ويتواصل معها دائماً قبل عام 2015 حينما كان يطمح لنموذج حاكم قريب من الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات اللذين كانا محاطين بمستشارين من الصحافيين والأكاديميين ورجال الأعمال، بما يعني أنه حتى إذا تم إبعاد الشخصيات التي يدير بواسطتها المشهد الإعلامي، وعلى رأسهم نجله محمود، والذين يعتبرهم الصحافيون لا يملكون موهبة أو خبرة التعامل مع طيف واسع من الآراء والمعتقدات، لانتمائهم جميعاً إلى مؤسسة مغلقة هي الجيش، فإن الرهان على تحسين الأوضاع سيكون خاسراً، لأنه بالضرورة سيستعين بشخصيات من النوعية نفسها أو بالخلفيات نفسها.
في السياق نفسه، يتحدث مصدر سياسي برلماني موالٍ للسيسي لـ"العربي الجديد" مستبعداً من الأساس إبعاد نجل السيسي تحت أي ضغوط، قائلاً: "السيسي ليس الرجل الذي يرضخ للضغوط من أي جهة محلية، ومشاكل الإمارات والسعودية معه لا تتعلق البتة بنجله أو أقاربه، بل بطريقة إدارة ملف المساعدات والاستثمارات في المقام الأول".
ويضيف المصدر: "لا توجد معلومات واقعية عن سفر نجل السيسي، غير ما كان يُتداول في المنتديات حتى قبل نشر تقرير "مدى مصر" بعدة أيام، لكن حتى إذا سافر إلى موسكو بالفعل فمن المرجح أن تكون هذه الخطوة بمثابة إعداد لخطوة أكبر مستقبلاً، إلى جانب أن السيسي نفسه سبق وأبعد بعض الشخصيات عن الواجهة ولكنه ظل يعتمد عليها في الخفاء لفترات طويلة، حتى وهي خارج مصر، ولذلك فبقاء محمود السيسي في السلطة ليس مرهوناً باستمراره في موقعه بالمخابرات من الأساس، خصوصاً أن تأثيراته كانت تتجاوز المجال الاستخباراتي بكثير".
أما عن أحمد شعبان فيقول المصدر السياسي: "هو ليس بالشخص الذي تسهل إطاحته كما يتوقع البعض، وهو محبوب شخصياً من السيسي وعباس كامل ويعتبرانه الأنجح في مجاله، والواقع يقول إنه ما زال يباشر عمله في ملفي المؤتمرات وتأهيل شباب البرنامج الرئاسي إلى جانب الإعلام أيضاً".
ويروي المصدر أن شعبان سافر إلى اليونان لعدة أيام بالفعل منذ أسبوعين في مهمة استخباراتية بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع لها، مرجحاً أن يكون هذا هو سبب الحديث عن نقله للعمل في اليونان، فضلاً عن أنه في سبتمبر/أيلول الماضي وبعد إدارته بالكامل لمشهد استقبال السيسي عند عودته من اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، انتشرت شائعة عن مشاجرة بينه وبين مدير مكتب السيسي، محسن عبد النبي، وانتشرت الشائعة بصورة لافتة على يد خصومه في دوائر النظام، مما يؤكد أن إزاحته ستكون أُمنية لشخصيات عديدة، خصوصاً في المجال الإعلامي ممن يحاولون التقرب من السيسي وطرح أفكارهم عليه.
وانتشرت في الأيام الثلاثة الماضية منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي من إعلاميين وصحافيين ونشطاء قريبين من السلطة تكيل المديح لشعبان وتشيد بدوره في خدمة السلطة وتحقيق أهدافها، كردة فعل على ما تردد عن إبعاده وظهور منشورات ضده عبر مواقع التواصل، غير مسندة لمصادر معروفة.
وفي منتصف الشهر الماضي، أهدر السيسي فرصة للبرهنة على حسن النوايا تجاه المجال العام، وأغلق باباً كان يرجو بعض المقربين منه فتحه للتعاطي بشكل إيجابي مع المطالب والمخاوف النخبوية والشعبية، عبر حديثه المنغلق على ذاته والرافض للنصائح والمناشدات وحتى الملاحظات البسيطة، وذلك من خلال إجاباته على استفسارات بعض الحضور في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة التي عقدها الجيش بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، إذ رفض في حديثه مناشدة النائب والإعلامي مصطفى بكري بعقد جلسات حوارية مع الإعلاميين ليستمع إلى آرائهم في الأوضاع الحالية، وتحدث عن "ضرورة أن يجلس مع أشخاص لديهم رؤية ومعرفة كاملة وإدراك بتفاصيل المشاكل التي يتحدثون بشأنها، لأنه لن يضيّع وقته مع أشخاص لا يقدّمون رؤية أو فكرة سليمة" إلى جانب إصراره على إظهار عداوته لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وكراهيته لها وتحميلها مسؤولية ما لحق بمصر من خسائر استراتيجية، خصوصاً في ملف سد النهضة الإثيوبي، إلى حد وصفها بأنها "كشفت ظهر مصر وعرّت كتفها".
اقــرأ أيضاً
وفيما انشغلت وسائل الإعلام بإعادة تدوير تلك المعلومات التي لم تتحقق حتى الآن أو ببناء تحليلات عليها، تم تناسي الفارق الكبير بين بنية نظام السيسي وبنية أي نظام حاكم في مصر سابقاً، خصوصاً في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وهو الوحيد من بين رؤساء مصر السابقين الذي قلّد نجله (جمال) مناصب سياسية رسمية على الأقل على مستوى الحزب الحاكم (الوطني الديمقراطي). هذا ما دفع بعض المراقبين للمقارنة بين السيسي ومبارك على هذا الصعيد، خصوصاً بعد توسع محمود السيسي في سلطاته وصلاحياته منذ انتقال عباس كامل مدير مكتب السيسي إلى إدارة المخابرات، وتعاونهما معاً على الإطاحة بالعشرات من الضباط التابعين لمدير المخابرات السابق المحددة إقامته حالياً خالد فوزي، وكذلك مدير المخابرات ونائب رئيس الجمهورية الأسبق عمر سليمان والذي ظل الضباط التابعون له يتحكمون في شرايين الجهاز لعقود حتى انقض السيسي على السلطة وأوكل إدارة الجهاز إلى اللواء محمد فريد التهامي وتعيين نجله محمود في مكتبه الفني، وبدأ حملة التطهير التي طاولت ما لا يقل عن 300 ضابط مخابرات بحسب مصادر عليمة، بعضهم تم إرغامهم على تقديم استقالاتهم.
مصدر حكومي قريب من رئاسة الجمهورية ومطّلع على مستجدات الحركة الإدارية في المؤسسة، يوضح لـ"العربي الجديد" أنه لا يمكن القول إن السيسي تراجع في أي لحظة عن أداء دور الرجل الأول في النظام وبؤرة اهتمام جميع رموزه، والمصدر الأول للتعليمات العامة والتفصيلية به، في أي لحظة منذ تولى السلطة، وأن عباس كامل أو محمود السيسي أو مدير مكتبه الحالي محسن عبد النبي أو أي مسؤول آخر هم أشخاص ينفذون تعليمات السيسي التفصيلية في معظم الملفات، وتعليماته العامة في بعض الملفات التخصصية، وحتى في تلك الأخيرة لا يمكن اتخاذ قرارات من دون العودة للسيسي نفسه.
المصدر يضرب نموذجاً على ذلك بملف السيطرة على الإعلام، ففي البداية كان السيسي يعتقد أن بإمكان عباس كامل بمفرده تنظيم المسألة الهيكلية والمالية عندما بدأت سياسة الاستحواذ على القنوات الفضائية والصحف، وكذلك إدارة ملف الهيئات القومية وماسبيرو، لكن بسبب عدم تحقيق نجاحات في الملف الأخير تم إسناده للرقابة الإدارية في عهد مديرها السابق محمد عرفان، ثم سُحب وأسند لمحمود السيسي، وأخيراً أسند أيضاً للجنة الخاصة التي تحدث عنها تقرير "العربي الجديد" قبل أيام برئاسة الفريق محمود حجازي، وكل هذه التغييرات لا تتم إلا بقرار من السيسي شخصياً. وحتى على مستوى التوجيه الدعائي وإدارة المحتوى، فقد كان في البداية مع الأمن الوطني، ثم أسند بالكامل إلى عباس كامل ومساعده أحمد شعبان وهما في الرئاسة، وبانتقالهما إلى المخابرات العامة انتقلت هذه الصلاحية معهما وما زالت حتى اللحظة، مع إعطاء الأمن الوطني هامشاً للتحرك لتحقيق أهداف معينة يتم الاتفاق عليها أيضاً مع إدارة الإعلام في المخابرات، ولا يمكن تغيير تلك الصلاحيات إلا بقرار من السيسي نفسه.
ويوضح المصدر أنه في المرحلة الأخيرة التالية لتظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الأكبر ضد النظام، لم يمنح السيسي صلاحياته لأي شخص ليدير الموقف بمن في ذلك نجله محمود، وهذا يتفق مع ما سبق وذكرته مصادر أمنية لـ"العربي الجديد" في الأسبوع الأول بعد التظاهرات، ومفاده أن السيسي من نيويورك لم يوافق على الطريقة التي أدارت بها المخابرات المشهد يوم الجمعة وتحديداً في المحافظات، إذ كان من المتفق عليه ألا تتحرك الشرطة إلا بأوامرها، وأن يكون التعامل في محيط ميدان التحرير للشرطة فقط ولكن من دون أن يبدأ بالحشد الكثيف لعناصر الأمن المركزي في الميدان، بحجة أن "تقديرات المخابرات تؤكد ضعف الاستجابة الشعبية لدعوات التظاهر". وبناء على هذا الفشل أصدر السيسي تعليماته من نيويورك إلى مستشاره للشؤون الأمنية، أحمد جمال الدين، ووزير الداخلية اللواء محمود توفيق، بعودة الاستراتيجية المتّبعة منذ 2016 في التصدي للتظاهرات، وذلك بالاعتماد على الوجود الكثيف لقوات الأمن في الشوارع، وإقامة الكمائن الثابتة والمتحركة لاصطياد الشباب الأصغر سناً، وتفتيش المواطنين وهواتفهم، وهو الأمر المتّبع حالياً في محيط ميدان التحرير في القاهرة وميدان الأربعين في السويس، مما كان يعني سحب ملف التعامل الميداني مع المتظاهرين من الاستخبارات وإعادته إلى الشرطة من جديد، مما دفع الشرطة للتعامل مع الموقف بشكل أكثر جدية.
ويعتبر المصدر أن هذه الخطوة كانت بمثابة سحب بعض الملفات التي كان يباشرها حصرياً عباس كامل ومساعده أحمد شعبان قبل ذلك، وتفريغهما مع نجله محمود لمباشرة الملفات التي بحوزة المخابرات بالإضافة لملفين آخرين أساسيين هما الإعداد والتجهيز اللوجستي والموضوعي لمؤتمرات الرئاسة وعلى رأسها مؤتمر الشباب الذي يوليه السيسي اهتماماً كبيراً، وكذلك ملف إدارة البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة والأكاديمية الوطنية للشباب.
ويعكس حديث المصدر إمساك السيسي بكل خيوط المشهد السياسي والأمني تقريباً، سواء بواسطة مستشارين ومساعدين يباشر هو عملهم بصورة يومية، أو بصورة مباشرة، فضلاً عن استئثاره بسلطة تحديد السياسات تجاه المجال العام والحريات.
وارتباطاً بالنقطة الأخيرة الخاصة بالمجال العام، تتفق مصادر شرطية في الأمن الوطني والأمن العام على أن أي انفتاح يتوهمه البعض بسبب ما يتردد عن رحيل نجل السيسي ومساعد عباس كامل "لا يعدو كونه آمالاً لا تساندها وقائع أو معلومات"، مشددة على أن قرار الانفتاح بيد السيسي وحده.
وتكشف المصادر أن حركة التغييرات الأخيرة في صفوف الأمن الوطني تحديداً، والتي جرت الشهر الماضي، شهدت تصعيداً لافتاً لمجموعة من الضباط المعروفين بعلاقتهم الوطيدة بالمخابرات وازدرائهم للإعلام والصحافيين والسياسيين بشكل عام، وأن الأسبوعين الماضيين شهدا دعوة عدد من الصحافيين والسياسيين إلى اجتماعات كانت رسالتها الأساسية "التحذير من توهم انفراط عقد النظام أو مرورك بلحظة ضعف واستغلال ذلك في التصعيد على أي مستوى"، وذلك بالتوازي مع استمرار رقابة المخابرات المنظمة على المطبوعات والمواقع الإلكترونية.
وتوضح المصادر أن السيسي ما زال يؤمن بأن شرعيته الحقيقية مستمدة من القضاء على مجموعة كبيرة من الفصائل السياسية، وتخوين تيارات وأحزاب أخرى، فضلاً عن تصوره أن أي تنازل قد يقدّمه استجابة لضغوط أجنبية سيؤدي به إلى نهاية مشابهة لنهاية عصر مبارك، بثورة شعبية أو حركة انقلابية من داخل الجيش أو بتحالف بين الجيش ومؤسسات أخرى.
وتذكر المصادر الشرطية أيضاً أن السيسي نفسه لا يود العودة للتواصل مع الشخصيات الإعلامية التي كان يثق بها ويتواصل معها دائماً قبل عام 2015 حينما كان يطمح لنموذج حاكم قريب من الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات اللذين كانا محاطين بمستشارين من الصحافيين والأكاديميين ورجال الأعمال، بما يعني أنه حتى إذا تم إبعاد الشخصيات التي يدير بواسطتها المشهد الإعلامي، وعلى رأسهم نجله محمود، والذين يعتبرهم الصحافيون لا يملكون موهبة أو خبرة التعامل مع طيف واسع من الآراء والمعتقدات، لانتمائهم جميعاً إلى مؤسسة مغلقة هي الجيش، فإن الرهان على تحسين الأوضاع سيكون خاسراً، لأنه بالضرورة سيستعين بشخصيات من النوعية نفسها أو بالخلفيات نفسها.
ويضيف المصدر: "لا توجد معلومات واقعية عن سفر نجل السيسي، غير ما كان يُتداول في المنتديات حتى قبل نشر تقرير "مدى مصر" بعدة أيام، لكن حتى إذا سافر إلى موسكو بالفعل فمن المرجح أن تكون هذه الخطوة بمثابة إعداد لخطوة أكبر مستقبلاً، إلى جانب أن السيسي نفسه سبق وأبعد بعض الشخصيات عن الواجهة ولكنه ظل يعتمد عليها في الخفاء لفترات طويلة، حتى وهي خارج مصر، ولذلك فبقاء محمود السيسي في السلطة ليس مرهوناً باستمراره في موقعه بالمخابرات من الأساس، خصوصاً أن تأثيراته كانت تتجاوز المجال الاستخباراتي بكثير".
أما عن أحمد شعبان فيقول المصدر السياسي: "هو ليس بالشخص الذي تسهل إطاحته كما يتوقع البعض، وهو محبوب شخصياً من السيسي وعباس كامل ويعتبرانه الأنجح في مجاله، والواقع يقول إنه ما زال يباشر عمله في ملفي المؤتمرات وتأهيل شباب البرنامج الرئاسي إلى جانب الإعلام أيضاً".
ويروي المصدر أن شعبان سافر إلى اليونان لعدة أيام بالفعل منذ أسبوعين في مهمة استخباراتية بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع لها، مرجحاً أن يكون هذا هو سبب الحديث عن نقله للعمل في اليونان، فضلاً عن أنه في سبتمبر/أيلول الماضي وبعد إدارته بالكامل لمشهد استقبال السيسي عند عودته من اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، انتشرت شائعة عن مشاجرة بينه وبين مدير مكتب السيسي، محسن عبد النبي، وانتشرت الشائعة بصورة لافتة على يد خصومه في دوائر النظام، مما يؤكد أن إزاحته ستكون أُمنية لشخصيات عديدة، خصوصاً في المجال الإعلامي ممن يحاولون التقرب من السيسي وطرح أفكارهم عليه.
وانتشرت في الأيام الثلاثة الماضية منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي من إعلاميين وصحافيين ونشطاء قريبين من السلطة تكيل المديح لشعبان وتشيد بدوره في خدمة السلطة وتحقيق أهدافها، كردة فعل على ما تردد عن إبعاده وظهور منشورات ضده عبر مواقع التواصل، غير مسندة لمصادر معروفة.
وفي منتصف الشهر الماضي، أهدر السيسي فرصة للبرهنة على حسن النوايا تجاه المجال العام، وأغلق باباً كان يرجو بعض المقربين منه فتحه للتعاطي بشكل إيجابي مع المطالب والمخاوف النخبوية والشعبية، عبر حديثه المنغلق على ذاته والرافض للنصائح والمناشدات وحتى الملاحظات البسيطة، وذلك من خلال إجاباته على استفسارات بعض الحضور في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة التي عقدها الجيش بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، إذ رفض في حديثه مناشدة النائب والإعلامي مصطفى بكري بعقد جلسات حوارية مع الإعلاميين ليستمع إلى آرائهم في الأوضاع الحالية، وتحدث عن "ضرورة أن يجلس مع أشخاص لديهم رؤية ومعرفة كاملة وإدراك بتفاصيل المشاكل التي يتحدثون بشأنها، لأنه لن يضيّع وقته مع أشخاص لا يقدّمون رؤية أو فكرة سليمة" إلى جانب إصراره على إظهار عداوته لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وكراهيته لها وتحميلها مسؤولية ما لحق بمصر من خسائر استراتيجية، خصوصاً في ملف سد النهضة الإثيوبي، إلى حد وصفها بأنها "كشفت ظهر مصر وعرّت كتفها".