يعود رئيس الحكومة الجزائري الأسبق علي بن فليس، إلى السباق الانتخابي للمرة الثالثة، ويسبق منافسيه الأربعة بخطوة، تتمثل بخبرة ثلاث مشاركات في الانتخابات الرئاسية، مقابل أوّل مشاركة لمنافسه المركزي رئيس الحكومة الأسبق عبد المجيد تبون، والمرشحين عز الدين ميهوبي وعبد القادر بن قرينة، ومشاركة ثانية للمرشح بلعيد عبد العزيز. لكن على الرغم من ذلك، لا تبدو هذه الخطوة ذات أهمية في حسم السباق الانتخابي.
ويحتفظ بن فليس في رصيده بمشاركتين سابقتين في الانتخابات الرئاسية، آخرهما منافسته للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في انتخابات إبريل/نيسان 2014، والتي حصل فيها على 1.2 مليون صوت، بنسبة تقارب 13 في المائة. وشهدت تلك الانتخابات تصريحات حادة لبوتفليقة ضدّ منافسه، اتهمه فيها بـ"العنف والإرهاب".
لكن المشاركة الأبرز لبن فليس، والأكثر إثارة، كانت في الانتخابات الرئاسية لعام 2004، عندما حاول اعتراض سبيل ترشّح بوتفليقة لولاية رئاسية ثانية، بعدما كان قد انشق عنه قبلها بأشهر فقط، وتمت تنحيته من منصبه كرئيس للحكومة. وحصل بن فليس في تلك الانتخابات على ما يقارب 7 في المائة، بأقل من مليون صوت.
في تلك الانتخابات المثيرة التي جاءت في ظرف سياسي متوتر، ووسط صراع داخل النظام بين بوتفليقة وقيادة أركان الجيش التي كان يقودها اللواء محمد العماري، والذي كان يدفع ببن فليس إلى السباق الانتخابي ويعد بتوفير دعم قيادة الأركان له حينها، قبل أن يحسم جهاز المخابرات الصراع لصالح بوتفليقة، بدأ بن فليس يرسم لنفسه صورة الرجل المعارض للنظام. وبدأ يشتغل في حقل المعارضة السياسية، التي وجدت فيه شخصية محورية تساعد في الدفع بمقترحات ومواقف المعارضة، وتعطيها مصداقية أكبر. وعلى هذا الأساس، شارك بن فليس وكان فاعلاً مركزياً في مجموعة من المبادرات السياسية التي قادتها قوى المعارضة وشخصياتها المستقلة، كمؤتمر المعارضة الذي عقد في يونيو/حزيران 2014، واجتماعات قوى التغيير بعد اندلاع الحراك الشعبي، ومؤتمر المعارضة في يوليو/تموز 2019.
احتاج بن فليس لفترة من الوقت لتقتنع قوى المعارضة السياسية بجدية مواقفه المعارضة وتوجهاته الديمقراطية، وبمقاسمتها الهواجس نفسها المتعلقة بالحريات والدولة المدنية. ويعود ذلك إلى أنّ بن فليس كان من بين الشخصيات التي أسست لحكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، إذ كان مدير حملته في أول انتخابات يترشح فيها الأخير في إبريل عام 1999، ثمّ رئيساً لديوان الرئاسة وأمين سرّ بوتفليقة، الذي دفع به في الوقت نفسه إلى تسلّم مقاليد إدارة الحزب المركزي للسلطة، "جبهة التحرير الوطني" عام 2000، قبل أن يعيّنه رئيساً للحكومة بعد استقالة أحمد بن بيتور حينها من المنصب. لكن هذا الودّ السياسي بين بن فليس وبوتفليقة ونظامه لم يدم طويلاً، وانتهى الارتباط السياسي بين الرجلين في أكتوبر/تشرين الأول 2003، بعد أن أعلن بن فليس ترشّحه للرئاسة، وحصل على تزكية من المجلس المركزي للحزب. وقتها، استخدمت السلطة وبوتفليقة ما وصف حينها بـ"عدالة الليل" للانقلاب على بن فليس، إذ اتُخذ قرار بعدم شرعية الاجتماع الحزبي الذي زكّيَ خلاله بن فليس، ومنحت السلطات لأنصار بوتفليقة في الحزب الشرعية.
ويعتبر بن فليس أنّ مواقفه التي أعلن عنها منذ عام 2003 وانشقاقه عن نظام بوتفليقة، كلفته غالياً على صعيد المضايقات والملاحقات التي تعرّض لها مؤيدوه في انتخابات عام 2004. كما رفضت السلطة السماح له بتشكيل إطار سياسي حتى ما بعد إقرار الإصلاحات السياسية وتعديل قانون الأحزاب عام 2012، قبل أن يعود ويحصل عام 2014 على ترخيص بتأسيس حزب "طلائع الحريات"، والذي ضمّ جزءاً من كوادر "جبهة التحرير الوطني" الذين انسحبوا منها، إضافة إلى كوادر شبابية وشخصيات هامة كوزير الخارجية الأسبق أحمد عطاف، ووزير الاتصال الأسبق عبد العزيز رحابي وغيرهم.
في انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول المقبل، يقدّم علي بن فليس نفسه كمرشح باسم المعارضة، على الرغم من أنّ مجموع قوى المعارضة تصرّ على رفض المسار الانتخابي ومقاطعته. ويحاول رئيس الوزراء الأسبق أن يستغلّ الفارق الزمني الذي يفصله عن النظام السابق (16 سنة)، مقارنةً بمنافسيه عبد المجيد تبون الذي كان رئيساً لحكومة بوتفليقة في أغسطس/آب 2017، وعز الدين ميهوبي الذي ظلّ وزيراً في حكومات الرئيس السابق حتى مارس/آذار 2019. كما يسعى بن فليس لاستغلال صفته كأمين عام سابق لحزب "جبهة التحرير الوطني"، وعدم تبني هذا الحزب لأي مرشح، لإقناع قياداته وقواعده بدعمه. كذلك، يضع نفسه في خانة المرشح الطبيعي للتيار الوطني الذي تمثل "جبهة التحرير" ثقله، ويجري اتصالات مع عدد من قياداته لإقناعهم بدعمه، على الرغم من أنّ "جبهة التحرير الوطني" لا تتوفر لها حرية اتخاذ القرار خارج إرادة الجيش. لكن بن فليس نجح حتى الآن في الحصول على دعم من بعض أحزاب التيار الوطني كـ"فجر جديد" و"جبهة النضال الوطني"، كما تتوجه أحزاب إسلامية لدعمه مثل حركة "النهضة" و"جبهة الجزائر الجديدة".
وفي سياق التعبئة الانتخابية، يصرّ بن فليس أيضاً على استدعاء مواقف سابقة له متعلقة بالحريات والتذكير بها، وهو ما برز إلى حدّ كبير في حواراته التلفزيونية الأخيرة، إذ أكد على رفضه، حين كان وزيراً للعدل، مقترح قرار بإنشاء معتقلات في منطقة الجنوب لمناضلي وكوادر "جبهة الإنقاذ" المحظورة، بعد انقلاب الجيش وتوقيف المسار الديمقراطي في يناير/كانون الثاني عام 1992، واستقالته من الحكومة عام 2002 بسبب رفضه الاعتقالات الإدارية للجزائريين على خلفية مواقفهم السياسية. وهي رسالة يرغب بن فليس من خلالها في استقطاب الكتلة الصامتة من قواعد "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" المحظورة.
ومن مجموع المرشحين الخمسة، يبدو علي بن فليس، إضافة إلى المرشح عبد القادر بن قرينة، الأقرب إلى تبني مطالب الحراك الشعبي، لكن مواقف الأخير الرافضة للمسار الانتخابي بسبب ترتيباته المرتبكة وغير التوافقية، وفرضه من قبل السلطة، تجعل من بن فليس في مرمى الرفض الشعبي كبقية المرشحين. وهو ما ترجم من خلال تجمعات اعتراضية للناشطين في الحراك ضدّ تجمعات انتخابية نظمها بن فليس في مدينة تلمسان في اليوم الأول للحملات الانتخابية يوم الأحد الماضي. ويعتبر المعترضون أنّ مشاركة بن فليس في السباق الرئاسي "طعنة للحراك"، على الرغم من أنّ هذا المرشّح يعترف بأنّ الانتخابات الرئاسية المقبلة لم تتوفر لها الشروط المثالية ولكن المشاركة فيها هي الأقل كلفة بالنسبة لمسار إخراج البلاد من الأزمة السياسية.
ويواجه بن فليس حملة دعائية مضادة تصفه بـ"مرشح الدولة العميقة". وعلى الرغم من ذلك، تلعب مجموعة عوامل لصالحه إذا ما سارت الانتخابات الرئاسية إلى منتهاها، ويبقى أحد أبرز المرشحين والأقرب إلى كرسي الرئاسة في حال لم تحدث مفاجآت غير متوقعة خلال الاستحقاق المنتظر.