أزمة الأعلام الستة في كركوك: توتر ومخاوف من صدامات

10 يناير 2019
تأهّب وتعزيزات أمنية في كركوك (علي مكرم غريب/ الأناضول)
+ الخط -
حتى مساء أمس الأربعاء، كانت أعلام إقليم كردستان الستة التي رفعتها قوى كردية في مناطق عدة من مدينة كركوك، لا تزال في مكانها، وسط تأهب أمني عراقي، تحسباً لأي احتكاك بين المكونات القومية الثلاثة، العربية والتركمانية من جهة، والكردية من جهة أخرى، وسط تأكيدات على بدء الحكومة العراقية اتصالات واسعة مع قيادات كردية لتجنّب افتعال أزمة جديدة في المدينة، وفي ظل توافق تركماني مع القوى العربية السنّية والشيعية في المدينة على رفض رفع علم إقليم كردستان في كركوك.

ورفع أعضاء من "الاتحاد الوطني الكردستاني" مع العشرات من القوميين الأكراد، ستة أعلام لإقليم كردستان العراق ليل الثلاثاء، كان أولها على مقر "الاتحاد الكردستاني"، قبل أن يُرفع الثاني على سارية عالية في قلعة كركوك التاريخية، ثم أربعة أخرى في مناطق رحيم آوه، وشوراو، والشورجة، وإمام قاسم، وهي أحياء تقع في الجزء الشمالي من كركوك المتجه نحو أربيل ويضم غالبية كردية. ورافقت عمليات رفع أعلام الإقليم هتافات واحتفالات وصفها البعض بالهستيرية من قبل أنصار "الاتحاد" وقوميين أكراد.

ويقول المسؤولون في المدينة إن رفع علم الأحزاب الكردية أو العربية أو التركمانية مسموح، وكفله الدستور، لكن عَلَم الإقليم ووفقاً للدستور أيضاً، يجب أن يبقى داخل الإقليم، فيما رفعه في كركوك ينطوي على مطامع كردية بضم المدينة إلى الإقليم وفرض سياسة الأمر الواقع.
وعقب رفع عَلَم الإقليم، انتشرت قوات عراقية خاصة في المدينة، وعززت من وجودها قرب الأحياء الكردية الشمالية من المدينة، في وقت حذرت فيه من اعتقال أي أشخاص يتورطون في تجمّع سياسي أو له أبعاد عنصرية.

وأكد مسؤول عراقي في قيادة عمليات كركوك، لـ"العربي الجديد"، انتشار قوات جهاز مكافحة الإرهاب، والعمليات الخاصة الثانية، والشرطة المحلية بشكل مكثّف، ودخول الشرطة الاتحادية الفرقة الخامسة والفرقة العشرون من الجيش العراقي الموجود على أطراف محافظة كركوك بحالة تأهب في حال اندلاع أي أعمال عنف. وأضاف "تم تعزيز الأمن في المدينة بفوجين آخرين من بغداد، والوضع تحت السيطرة، وهناك توجيهات بمنع أي احتكاك قومي يحدث داخل كركوك"، واصفاً تصرف حزب "الاتحاد" بأنه "غير مسؤول وأشغل قوات الأمن عن مهمة ملاحقة جيوب داعش، لكن توجيهات الحكومة العراقية بأن تكون القوات الاتحادية لكل مكوّنات كركوك وأن تمنع أي احتكاك من نوعه"، مضيفاً "تمت مطالبة السياسيين وزعماء الكتل في المدينة بعدم إطلاق أي تصريحات نارية، كونها ستكون ذات وقع داخل الشارع الكركوكي".
ووسط غموض يلف توقيت هذا الإجراء الكردي، وما إذا كان باتفاق مع حكومة بغداد أم لا، يحذّر مسؤولون من أن نتائجه في كل الأحوال لن تخدم المحافظة ذات التركيبة السكانية المعقّدة، ولا تصب في صالح السلم المجتمعي المنشود فيها.

وقال عضو الجبهة العربية في مدينة كركوك، محمد الجبوري، إن "المدينة لا تنقصها أزمة أخرى، والأكراد يحاولون إشعال الأوضاع الأمنية، وفي النهاية الأمر يصب في صالح خلايا داعش لا غيرها". وأضاف "عليهم أن يفهموا أن رفع علم الإقليم لا يعني أنهم سيسيطرون على كركوك مرة أخرى، وأن ترديد شعارات استفزازية لن يدفع العرب أو التركمان للرد بالمثل"، مؤكداً أنه "بالإمكان أن نُنزل الأعلام التي رفعوها ونرفع العلم العراقي الذي يظلنا جميعاً، لكن المدينة لا تحتمل شرارة أخرى"، محذراً في الوقت نفسه الحكومة الاتحادية في بغداد "من أن تساوم على المدينة في أي صفقة مع أربيل حول استكمال الحكومة أو تمرير الموازنة".

في المقابل، برّر حزب "الاتحاد" تصرفه، في بيان رسمي أصدره أمس الأربعاء، بالقول إنّ "رفع العلم تم على مقرات الحزب في كركوك، وإلى جانب العلم العراقي"، وإن الحزب "هو حزب رسمي ومسجّل بشكل قانوني، وعلم كردستان إحدى سمات الحزب قانونياً"، مشدداً على أن "رفع علم كردستان في كركوك هو حق قانوني ودستوري". وأضاف "رفع العلم لن يكون سبباً في استفزاز مكونات المحافظة، ونحن نعطي الحق بشكل كامل للمكوّنات في كركوك وأحزابها في رفع ما يشير إلى أهداف ورمزية أحزابهم ومكوّناتهم"، داعياً الأجهزة الأمنية في كركوك إلى "التعاطي مع الموقف وفقاً للقانون، وأن يتفهموا موقفنا".

ويعود تاريخ إنزال علم كردستان من كركوك إلى العام الماضي، حين قامت القوات العراقية من الجيش ومليشيات "الحشد الشعبي" بإنزاله عقب أزمة استفتاء كردستان، الذي أجري نهاية سبتمبر/ أيلول 2017، والذي دخلت عقبه القوات العراقية إلى كركوك والمناطق المتنازع عليها، وانسحبت منها قوات البشمركة الكردية والمسؤولون الأكراد من دون قتال، ومنذ ذلك الوقت لم يُرفع علم كردستان في المحافظة.


ومع الخطوة المفاجأة يوم الثلاثاء، في محافظة ذات خليط سكاني، ارتبك أمن المدينة بعدما انتشرت القوات العراقية بكثافة في أنحائها، خوفاً من التداعيات، بينما دعا محافظ كركوك بالوكالة، راكان الجبوري، رئيس الوزراء، إلى دعم المدينة والتدخّل لمنع أي تداعيات سلبية. وقال المحافظ في بيان له إن السكان أكدوا إطلاق عيارات نارية مع رفع علم الإقليم، داعياً أهل كركوك بجميع مكوّناتهم إلى عدم الانجرار وراء المزايدات السياسية والتي لا تهتم بأمن المواطن وخدمتهم واستقرارهم وتعمل على إثارة النعرات بين مكوّنات المدينة، محملاً من رَفع الأعلام تلك مسؤولية ما حصل وما قد يحصل. ودعا رئيس الوزراء للتدخّل العاجل لمنع أي تطور سلبي يهدد أمن المدينة وإرسال تعزيزات عسكرية من الجيش العراقي إليها، وهو ما استجابت له بغداد وأرسلت فوجين خاصين بالتزامن مع اتصالات عالية المستوى مع أطراف كردية لاحتواء الأزمة.

ولم تكن مليشيات "الحشد الشعبي" بمنأى عن هذه التطورات، إذ رافق بياناتها وتصريحاتها الرافضة لرفع أعلام كردستان، حراك ميداني ملحوظ، واستعدادات عسكرية. وقال عضو منظمة "بدر" في كركوك حسن البياتي، لـ"العربي الجديد"، إن "كركوك ملك للجميع"، وأضاف "لو كان علماً لحزب فهو شيء طبيعي، أما رفع علم الإقليم في المدينة فهذا استفزاز واضح"، مشدداً على أن هناك توافقاً عربياً وتركمانياً على عدم الانجرار وراء أي استفزاز ممن وصفهم بـ"مندفعين لا يمثلون الإخوة من القومية الكردية في المدينة".
أما المتحدث باسم شرطة محافظة كركوك، العميد افراسياو كامل، فقال في تصريح لموقع محلي "طلبنا من قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني حث جماهيرهم على عدم إطلاق العيارات النارية، وإنهاء المظاهر التي تثير الفوضى في المحافظة".

وقوبل تصرّف الجانب الكردي بردة فعل رافضة من قبل مكوّنات المحافظة، من عرب وتركمان، الذين عدّوه "تصرفاً استفزازياً". وقال عضو تحالف الإصلاح عن المحافظة، عبدالله العبيدي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "تصرف الجانب الكردي غير مقبول، وقد استفز مشاعر مكوّنات المحافظة، التي لا تريد خلق أزمات جديدة"، مضيفاً "لو كان الحزب رفع أعلامه، لكان تصرفاً اعتيادياً وغير مرفوض، لكن علم كردستان يمثل الإقليم، الذي يعد كركوك جزءاً من كردستان، وهذا ما لا نقبل به".
وأكد العبيدي أنّ "محافظ كركوك السابق نجم الدين كريم، "كان قد أصر أيضاً على رفع علم كردستان على دوائر المحافظة، وجر المحافظة إلى أتون أزمة انتهت بالاستفتاء وما رافقه من تداعيات"، مشدّداً على أنه "لا يمكن أن نسمح بعودة المشاكل إلى كركوك مجدداً، ولا نقبل بأي تصرف يعيد المحافظة إلى ما كانت عليه من أزمات". وانتقد "موقف الحكومة الغامض تجاه ذلك"، مشككاً في "إدخال كركوك خانة المساومات السياسية الجارية بشأن إكمال تشكيل الحكومة"، ومحمّلاً "الحكومة مسؤولية ذلك".

أما رئيس الجبهة التركمانية في المحافظة، النائب أرشد الصالحي، فقال لـ"العربي الجديد"، إنّ "فرض سياسة الأمر الواقع في كركوك يخالف القانون والقرارات القضائية، ونجد أنّ رفع علم الإقليم هو محاولة لتأجيج الوضع وخلق مشكلة جديدة بين مكونات المحافظة المتعايشة سلمياً". وطالب الجميع بـ"الابتعاد عن سياسة خلق الأزمات وعدم فتح جبهة ثانوية لا يستفيد منها سوى تنظيم داعش والعصابات الإرهابية والخارجة على القانون"، داعياً رئيس الحكومة عادل عبد المهدي إلى "تفويت الفرصة على كل من تسوّل له نفسه خلق مشاكل نحن في غنى عنها في كركوك".

ومع غموض الموقف الرسمي للحكومة المركزية، يؤكد مراقبون أنّ الموقف في المحافظة صعب للغاية، وأنّ أي التزام لحكومة بغداد مع الأكراد لا يمكن تطبيقه، في ظل الاحتقان الشعبي، الذي قد يجر إلى صراع قومي خطير. وقال الخبير السياسي، طالب الطائي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك شكوكاً تحوم حول موقف الحكومة من ذلك، وما إذا كانت قد التزمت بتعهدات مع الأكراد أم لا"، معتبراً أنّ "الموقف في كركوك لا يعفي الحكومة من المسؤولية، وقد يبطل أي اتفاق لها مع الأكراد". وحذر من أن "الموقف يتجه نحو صدام مسلح بين المكونات، الأمر الذي يستدعي تغييراً في استراتيجية الحكومة تجاه المحافظة، وكشف الأوراق أمامها، والتعامل مع المحافظة خارج نطاق المساومات السياسية، دفعاً لأي ردة فعل قد تكون نتائجها خارج حسابات الحكومة".

وتُعد محافظة كركوك الغنية بالنفط، بؤرة الصراع القومي في العراق، ولم تستطع الحكومات المتعاقبة على البلاد منذ عام 2003 حتى اليوم، الخروج بصيغة توافقية بشأنها، إذ إنّ كلاً من مكوّناتها (العربية والكردية والتركمانية) تدّعي أحقيتها بالمحافظة، بينما يعدّها الإقليم بأنها "قدس الأكراد"، وسط تداخل أجندات سياسية وطائفية وحزبية وإقليمية، ما يجعل المحافظة أشبه ببركان قد ينفجر في أي لحظة.