أزمة الحكم في واشنطن: بوتين يتفرج على حصاد زرعه

20 مارس 2018
خطوات ترامب المفاجئة تشغل واشنطن (Getty)
+ الخط -
الخلل الكبير في المشهد السياسي الراهن في واشنطن، يشبه في خطورته وتداعياته فترة "الكساد الكبير" في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي. الثاني أدى إلى انهيار الوضع الاقتصادي واحتاج ترميمه إلى وقت طويل وإلى قيادة فذة (الرئيس فرانكلين روزفلت). فهل يؤدي الأول إلى انهيار الوضع السياسي أو إلى ضربه في الصميم؟ وإلى أي مدى، ومن سيكون المنقِذ؟ أسئلة باتت تتردد تعابيرها في واشنطن، بشكل أو بآخر. فكثيراً ما تتكرر تحذيرات مثل "الديمقراطية الأميركية في خطر" وأن الولايات المتحدة تمر في "فترة مظلمة"، والأعراف تتعرض "للكسر"، وغير ذلك من مفردات القلق والخشية الحقيقية.

ولهذه التحذيرات ما يبررها، فالأمور تجاوزت المألوف والمعقول، بسقوط قواعد موروثة كثيرة، أو باتت عرضة للسقوط. فليس سراً في واشنطن أن آلية وأجواء العمل المتوارثة في البيت الأبيض شبه معطلة، وحلت مكانها الفوضى وغياب الاستقرار وفقدان الثقة. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتخذ قراراته بأسلوب الصدمة وبغرض تصفية الحسابات، من دون تشاور ولا مراعاة للأصول، خصوصاً قرارات الإقالة، وآخرها إزاحة وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ثم ما تبعها بإقالة نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية "إف بي آي"، أندرو ماكيب، قبل أقل من 48 ساعة من حقه في التقاعد وبما حرمه من تعويضاته القانونية. وعلى الطريق نفسه، يقف مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي الجنرال هاربرت ماكمستر، الذي يبدو أن الاستغناء عن خدماته تأجل تحت ضغط الضجة التي تسببت بها إقالة تيلرسون ثم ماكيب، لكن يبدو أن دوره قادم. وهناك خطر الإطاحة بنائب وزير العدل لاستبداله بموالٍ مستعد لإقالة المحقق الخاص في قضية التدخل الروسي، روبرت مولر. آخر المؤشرات في هذا الخصوص ما ذكره ترامب في تغريدة له من زاوية أنه آن الأوان لصرف مولر.

غير أن محامي البيت الأبيض تاي كوب، عاد لينفي نية ترامب إقالة مولر. وقال كوب في بيان: "رداً على تكهنات وسائل الإعلام والتساؤلات المرتبطة بذلك التي تُوجه للإدارة، فإن البيت الأبيض يؤكد من جديد أن الرئيس لا يفكر أو يناقش إقالة المحقق الخاص روبرت مولر".
وفي هذا السياق، كشف موقع "بزنس إنسايدر"، أنّ الرئيس الأميركي وأحد محامي الدفاع عنه، وقبيل وقت قصير من دعوته لإغلاق التحقيق في ملف التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية 2016، تلقيا قائمة أسئلة من مولر. كما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، أن تغريدات ترامب على "تويتر" المهاجمة للتحقيقات، جاءت بعد أن أرسل مولر الأسئلة، كجزء من المفاوضات مع فريق ترامب القانوني، بشأن المقابلة التي يرجوها مع الرئيس. وما يزال مولر يسعى لإجراء مقابلة مع ترامب، حسب ما ذكرت مصادر لصحيفة "نيويورك تايمز"، لكنه أرسل قائمة الأسئلة، كنقطة انطلاق يمكن اعتمادها في ما بعد لطرح أسئلة المتابعة.

إقالة مولر إذا تمت، قد تُنتج أزمة دستورية، كان يمكن أن يتم تفاديها لو تدخّل الكونغرس بقوة لحسمها. لكن الكونغرس مقسوم ليس فقط بين ديمقراطي وجمهوري، بل أيضاً بين بعض الجمهوريين والبيت الأبيض، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة المشتبه بها بين موسكو وحملة ترامب الانتخابية.


يشغل ترامب واشنطن في الوقت الحالي بخطواته الإدارية المفاجئة: من هو الاسم التالي في لائحة الطرد ومن هو المرشح لملء مقعده؟ يرافق ذلك تململ وتخوف لدى غالبية الأطراف من درجة الانزلاق التي بلغها الخطاب السياسي وممارسات أهله، خصوصاً في البيت الأبيض. والأخطر من ذلك أن هناك حالة عامة من الشلل والارتباك في مواجهة هذا التدهور، فالنُخب الفكرية والسياسية منقسمة على نفسها، وخصوصاً في الكونغرس. هي تدرك أن الأمور قد تخرج عن السيطرة، لكن خلافاتها تحرمها من مواجهتها، بما يشجع التجاوزات ويحول دون وضع حد له.

وفي هذا السياق، برز ما كشفته صحيفة "واشنطن بوست"، من أن ترامب أمر كبار الموظفين بعد انضمامهم إلى البيت الأبيض، بالتوقيع على اتفاقيات بعدم الكشف عن أي معلومات في أعقاب العديد من عمليات التسريب التي حدثت في الأشهر الأولى من إدارته. وقال التقرير إن هذه الاتفاقيات تنص على أن المسؤولين قد يواجهون غرامات مالية إذا كشفوا عن معلومات سرية في البيت الأبيض للصحف وآخرين وتهدف إلى البقاء سارية بعد انتهاء فترة رئاسة ترامب. وقالت الصفحة إن مسودة الاتفاقية تنص على أن يدفع المخالفون غرامة تبلغ عشرة ملايين دولار عن كل مخالفة لوزارة الخزانة. ووقّع كبار مسؤولي حملة ترامب على اتفاقيات مماثلة، ولكن خبراء قانونيين تساءلوا عما إذا كانت مثل هذه الاتفاقية قانونية بالنسبة لموظف حكومي رفيع المستوى في ضوء ما يكفله الدستور من حرية التعبير. وقالت الصحيفة إن المسؤولين وافقوا في نهاية الأمر على التوقيع على الاتفاقيات وذلك إلى حد ما، بعد أن خلصوا إلى أن من المرجح أن يتعذر تطبيقها.

أمام هذا الواقع، لا عجب أن يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن أميركا "تأكل نفسها" هذه الأيام. وإذا كان الأخير فعلاً قد سعى لجعل أميركا تختلف مع نفسها، كما تقول جهات أميركية، فإنه حقق نجاحاً باهراً في سعيه هذا، وهو الآن يتفرج على حصاد ما زرع. أمسك بزمام المبادرة وترك خصومه الأميركيين في حالة عراك مع الذات، وأهم حلقة في هذا العراك أنهم على غير توافق بخصوص الدور الروسي في الشؤون الأميركية. ترامب تخاصمه غالبية الجمهوريين في هذا الخصوص، لكن الحزب الجمهوري عاجز ومعظمه صار حزب ترامب.

حالات التجاوزات وحتى الفضائح، ليست غريبة عن الحياة السياسية في واشنطن، إذ شهدت الأخيرة مثلها في ظل أكثر من إدارة. لكنها لم تعرف في أي مرة، على ما يذكر مؤرخو الرئاسة، مثل هذا الخليط الحالي من الشرود والتفرد والخلل المتفاقم والمحكوم بالانسداد وبالتالي بالانفجار، إذا ما بقي على مساره. والمعضلة أنه في معظمه متعلق بملف التحقيقات الروسية، ولا نهاية له قبل إقفال هذا الملف. ولكن حتى إغلاق التحقيقات مهدد، فقد لا تصل هذه الأخيرة إلى خواتيمها إذا ما تواصلت الإقالات، أو قد تصطدم بأزمة حكم لو انتهت إلى قرار لن يرى التنفيذ.