كان لافتاً آخر إصدار لتنظيم "داعش" من مدينة الحويجة، شمالي العراق، بإخفائه وراءه حقيقة وفاة الأطفال بسبب الجوع، وأن السكان يدفعون مبالغ مالية تصل إلى ألف دولار لسماسرة وأدلّاء محليين، من أجل الفرار من أرض الخلافة المزعومة. كما كان لافتاً إعلان خلية الإعلام الحربي التابعة لبغداد، عن إلقاء الطيران العراقي منشورات في سماء مدينة القائم تدعو سكانها للابتعاد عن تجمّعات "داعش"، واخفاء حقيقة سحق الطائرات نفسها تسعة منازل على أهلها. وبالتزامن مع تلك المنشورات تختفي الحقيقة داخل مدن العراق النائية، التي تحولت إلى محارق بشرية، يشترك بها طرفا الصراع، وتختفي الحقيقة بانعدام الطرف الثالث الناقل فلا وسائل إعلام ولا ناشطين ينقلون ما يجري هناك.
في هذا السياق، تحوّل ملف مدن العراق النائية، الخاضعة لسيطرة "داعش"، إلى أحد أبرز فصول الوجع العراقي، بعد تسجيل مقتل وإصابة أكثر من 3 آلاف مدني فيها، غالبيتهم نساء وأطفال منذ مطلع هذا العام. وذلك بفعل القصف الجوي لطيران التحالف بقيادة واشنطن، والقصف الذي شنّته طائرات "سوخوي" العراقية، بينما أُزهقت أرواح العشرات منهم في الفترة ذاتها على يد مسلحي تنظيم "داعش"، وتمّ إعدامهم أو حرقهم أو نحرهم، تحت مزاعم مختلفة كالكفر والردة والعمالة والخروج عن الشريعة ومعاداة "دولة الخلافة" وهناك آخرون مثلهم يقبعون في سجون التنظيم.
وغاب الإعلام واختفى الناشطون الذين كانوا حتى منتصف عام 2016 الماضي، مصدر الأخبار الوحيد، من تلك المدن. والغالب اليوم هو وكالة "أعماق" التابعة لـ"داعش" وخلية الإعلام الحربي التابعة للجيش العراقي. ومرّ الطرفان على أخبار إنشاء 29 مقبرة حَوَت مدنيين سقطوا في المعارك بين التحالف و"داعش"، مرور الكرام.
المدن النائية هي: القائم وعكاشات وحصيبة الحدودية مع سورية، وعّنة وراوة أعالي فرات العراق وصحراء النخيب الحدودية مع السعودية، وقرى وادي حمرين باتجاه الأردن، وجزيرة البعاج وستة قرى في سنجار إلى الغرب من الحدود التركية، وبلدات وقصبات صغيرة أخرى في الثرثار بين الفلوجة وسامراء. كلها واقعة تحت تصنيف المدن النائية، التي يبعد أغلبها عن العاصمة بغداد، أو عن أقرب مكتب إعلامي أو كاميرا صحافي مئات الكيلومترات، وقد باتت اليوم تحت وتيرة قصف متصاعدة أكثر من أي وقت في السابق، وفقاً لعضو مجلس العشائر المنتفضة ضد "داعش" في الأنبار الشيخ محمود فيصل العنزي، الذي أكد توثيق عشرات الغارات الجوية العراقية وتلك التابعة للتحالف في مناطق نائية أزهقت أرواح مئات من السكان المحليين.
اقــرأ أيضاً
وأضاف العنزي في حديث لـ"العربي الجديد" أنه "في آخر اجتماع مع الأميركيين في قاعدة عين الأسد، قلنا لهم كلنا ضد داعش، لكن خلال الحرب على الإرهاب وقع إرهاب فظيع من قبل التحالف وبغداد والقوات التي تقاتل داعش. ويجب وضع حد لعمليات القصف العشوائية والتعامل مع السكان على أنهم ضحايا المجتمع الدولي، قبل أن يكونوا ضحايا داعش. فالمجتمع الدولي الذي سكت عن ظروف ومسببات ولادة هذا التنظيم المسخ يتحمل مسؤولية كبيرة".
ونوّه إلى أنه "تمكنا من إيصال جهاز واحد إلى كل مدينة من تلك المدن، ونتواصل معهم من خلالها"، وتابع "هذه المدن تذبح ولا أحد ينقل ما يجري فيها. ففي يوم واحد قُتل 258 مدنياً بقصف على سوق السمك بمدينة القائم. وفي حي الجمعية بمدينة راوة قُتلت ست عائلات الشهر الماضي بقصف عراقي. والكارثة الأخلاقية الكبرى في الجريمة هي إعلان خلية الإعلام الحربي عن قصف مقر لداعش، وقتل قيادات بارزة من التنظيم، بينما قتلوا أطفالاً ونساء".
ولا تتوفر في تلك المدن أي وسيلة اتصال، لا خلوي ولا شبكة إنترنت. وحتى إن السكان الذين يملكون السيارات، يُمنعون من المغادرة، بفعل فرض تنظيم "داعش" إقامة جبرية وعقوبات غليظة لمن يحاول الفرار، وصلت أخيراً إلى حدّ تسيير دوريات ليلية لمراقبة من يحاول الفرار مشياً إلى خارج تلك المدن، بينما لا يسمعون إلا إعلام التنظيم الذي يبثه لهم عبر شاشات كبيرة مثبتة في الأسواق أو الساحات العامة. ذلك لأن انقطاع الكهرباء وانعدام الوقود جعل من تلك المدن، مقطوعة عن العالم بشكل فعلي، إلا من الطائرات التي تزورها يومياً لتلقي الصواريخ عليها ثم تنصرف لتخلف مجازر في صفوف سكانها.
بدوره، فقد الطيار العراقي العقيد فلاح جمعة العبيدي، زوجته وثلاثة من أطفاله بتفجير وقع قرب مرطبات الفقمة ببغداد، قبل نحو شهرين. استقال على إثرها من الجيش، لكنه رأى في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الأهداف تحددها القيادة من بغداد والطيار مجرد منفذ للأمر". وأضاف "نعم هناك مدنيون يسقطون، والذنب يتحمله داعش، لا الطيار. لكن هذا لا ينفي أن بعض الطيارين يرصدون حركة مدنيين في المواقع المحددة مسبقاً، ولا يبالون بهم ويقصفون ويعودون للمطار مع أن بإمكانهم الانتظار أو إلقاء قنابل تحذيرية لتفرق المدنيين عن الهدف". وتابع العبيدي المتواجد حالياً في العاصمة الأردنية عمّان، لتخطيطه للإقامة فيها مدة طويلة "نعم أنا قتلت مدنيين على ما يبدو في أكثر من مدينة لكن بالتأكيد لم أكن متعمّداً في ذلك".
اقــرأ أيضاً
من جانبه، اعتبر رئيس منظمة "السلام العراقية لحقوق الإنسان" محمد علي، من أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "يجب التأكد من صحة الرقم لعدد الضحايا فهو أكثر من ثلاثة آلاف مدني". ولفت علي إلى أن "المنظمة سجّلت شهادات مواطنين تمكنوا من الفرار ووصلوا إلى تركيا، بعد عبورهم حدود العراق مع سورية. ووثّقت بالفيديو أحاديث عدد منهم تشي بوجود مجازر في تلك المناطق البعيدة عن عين الرقيب أو كاميرا الطرف الثالث. فلا وجود لأخبار حولها سوى أعماق وخلية الإعلام الحربي وكلاهما يكذبان".
وبيّن أن "الوضع بمجمله في المناطق البعيدة التي يسيطر عليها داعش هي عمليات قصف عشوائي ومركّز، طاولت كل شيء، بما فيها الأسواق الشعبية والمستشفيات والمدارس والمراكز الصحية والمساجد، بواسطة الطائرات أو الصواريخ. ويسقط يومياً ما بين 20 و30 قتيلاً، وضعفهم جرحى من المدنيين في تلك المناطق". وأشار إلى أن "هناك نقصا بالغذاء، فتلك المدن محاصرة ولا دواء فيها، وانتشرت أمراض مخيفة مثل الكبد الفيروسي وشلل الأطفال ومن لم يمت قصفاً مات جوعاً أو مرضاً". ولفت إلى أن "تركيز الصحافة العالمية أو العربية على تلك المدن التي يبلغ مجموع من يقطن فيها نحو ربع مليون نسمة مسألة أخلاقية قبل كل شيء".
من جانبه، قال الخبير يحيى الكبيسي إنه "لفهم ما يجري في تلك المناطق يجب أن نعود إلى شهر أغسطس/آب 2014، عندما تشكل التحالف الدولي ضد داعش، وبدأت العمليات العسكرية الفعلية ضد التنظيم. وبالتالي فإن هناك سجلا كبيرا من القصف العشوائي استهدف المدن الخاضعة لداعش في العراق. والطيران العراقي استخدم البراميل المتفجرة التي أزهقت أرواح الكثير من المدنيين. وفي الفلوجة وحدها سقط أكثر من ألفي مدني ومن يراجع سجل مدن القائم والرطبة، يجد أن هناك أعدادا كبيرة قضت بالقصف الذي يشنّه التحالف الدولي والطيران العراقي. لذلك لا يمكن الشك بأن عمليات قصف عشوائية تستهدف المدنيين ونادراً ما يسقط فيها عناصر داعش بل الأغلب هم المدنيون".
وتابع "طيلة ثلاث سنوات لم تعلن الحكومة العراقية، لا بمؤسساتها المدنية ولا العسكرية، عن عدد الضحايا المدنيين. وكذلك واشنطن أو التحالف الدولي. وربما يعدّ هذا مؤشراً على الرقم الكبير للمدنيين الذي لم يعد صالحاً للإعلان". وذكر أن "معركة الموصل نقلت على الهواء على الشاشات وسقطت بها أعداد مهولة من الضحايا المدنيين، فكيف سيكون الحال بالمدن النائية. ومع الأسف هناك إنكار تام من الحكومة العراقية وإنكار ضمني من التحالف الدولي لعمليات القصف الجوية أو الصاروخية. ويجب أن نفهم أنه لا وجود لمعلومات استخبارية في تلك المناطق بالمعنى الدقيق، وبالتالي نادراً ما تُقصف أهداف حقيقية لداعش، فلا يكون الضحايا سوى من المدنيين".
في هذا السياق، تحوّل ملف مدن العراق النائية، الخاضعة لسيطرة "داعش"، إلى أحد أبرز فصول الوجع العراقي، بعد تسجيل مقتل وإصابة أكثر من 3 آلاف مدني فيها، غالبيتهم نساء وأطفال منذ مطلع هذا العام. وذلك بفعل القصف الجوي لطيران التحالف بقيادة واشنطن، والقصف الذي شنّته طائرات "سوخوي" العراقية، بينما أُزهقت أرواح العشرات منهم في الفترة ذاتها على يد مسلحي تنظيم "داعش"، وتمّ إعدامهم أو حرقهم أو نحرهم، تحت مزاعم مختلفة كالكفر والردة والعمالة والخروج عن الشريعة ومعاداة "دولة الخلافة" وهناك آخرون مثلهم يقبعون في سجون التنظيم.
المدن النائية هي: القائم وعكاشات وحصيبة الحدودية مع سورية، وعّنة وراوة أعالي فرات العراق وصحراء النخيب الحدودية مع السعودية، وقرى وادي حمرين باتجاه الأردن، وجزيرة البعاج وستة قرى في سنجار إلى الغرب من الحدود التركية، وبلدات وقصبات صغيرة أخرى في الثرثار بين الفلوجة وسامراء. كلها واقعة تحت تصنيف المدن النائية، التي يبعد أغلبها عن العاصمة بغداد، أو عن أقرب مكتب إعلامي أو كاميرا صحافي مئات الكيلومترات، وقد باتت اليوم تحت وتيرة قصف متصاعدة أكثر من أي وقت في السابق، وفقاً لعضو مجلس العشائر المنتفضة ضد "داعش" في الأنبار الشيخ محمود فيصل العنزي، الذي أكد توثيق عشرات الغارات الجوية العراقية وتلك التابعة للتحالف في مناطق نائية أزهقت أرواح مئات من السكان المحليين.
وأضاف العنزي في حديث لـ"العربي الجديد" أنه "في آخر اجتماع مع الأميركيين في قاعدة عين الأسد، قلنا لهم كلنا ضد داعش، لكن خلال الحرب على الإرهاب وقع إرهاب فظيع من قبل التحالف وبغداد والقوات التي تقاتل داعش. ويجب وضع حد لعمليات القصف العشوائية والتعامل مع السكان على أنهم ضحايا المجتمع الدولي، قبل أن يكونوا ضحايا داعش. فالمجتمع الدولي الذي سكت عن ظروف ومسببات ولادة هذا التنظيم المسخ يتحمل مسؤولية كبيرة".
ونوّه إلى أنه "تمكنا من إيصال جهاز واحد إلى كل مدينة من تلك المدن، ونتواصل معهم من خلالها"، وتابع "هذه المدن تذبح ولا أحد ينقل ما يجري فيها. ففي يوم واحد قُتل 258 مدنياً بقصف على سوق السمك بمدينة القائم. وفي حي الجمعية بمدينة راوة قُتلت ست عائلات الشهر الماضي بقصف عراقي. والكارثة الأخلاقية الكبرى في الجريمة هي إعلان خلية الإعلام الحربي عن قصف مقر لداعش، وقتل قيادات بارزة من التنظيم، بينما قتلوا أطفالاً ونساء".
بدوره، فقد الطيار العراقي العقيد فلاح جمعة العبيدي، زوجته وثلاثة من أطفاله بتفجير وقع قرب مرطبات الفقمة ببغداد، قبل نحو شهرين. استقال على إثرها من الجيش، لكنه رأى في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الأهداف تحددها القيادة من بغداد والطيار مجرد منفذ للأمر". وأضاف "نعم هناك مدنيون يسقطون، والذنب يتحمله داعش، لا الطيار. لكن هذا لا ينفي أن بعض الطيارين يرصدون حركة مدنيين في المواقع المحددة مسبقاً، ولا يبالون بهم ويقصفون ويعودون للمطار مع أن بإمكانهم الانتظار أو إلقاء قنابل تحذيرية لتفرق المدنيين عن الهدف". وتابع العبيدي المتواجد حالياً في العاصمة الأردنية عمّان، لتخطيطه للإقامة فيها مدة طويلة "نعم أنا قتلت مدنيين على ما يبدو في أكثر من مدينة لكن بالتأكيد لم أكن متعمّداً في ذلك".
من جانبه، اعتبر رئيس منظمة "السلام العراقية لحقوق الإنسان" محمد علي، من أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "يجب التأكد من صحة الرقم لعدد الضحايا فهو أكثر من ثلاثة آلاف مدني". ولفت علي إلى أن "المنظمة سجّلت شهادات مواطنين تمكنوا من الفرار ووصلوا إلى تركيا، بعد عبورهم حدود العراق مع سورية. ووثّقت بالفيديو أحاديث عدد منهم تشي بوجود مجازر في تلك المناطق البعيدة عن عين الرقيب أو كاميرا الطرف الثالث. فلا وجود لأخبار حولها سوى أعماق وخلية الإعلام الحربي وكلاهما يكذبان".
وبيّن أن "الوضع بمجمله في المناطق البعيدة التي يسيطر عليها داعش هي عمليات قصف عشوائي ومركّز، طاولت كل شيء، بما فيها الأسواق الشعبية والمستشفيات والمدارس والمراكز الصحية والمساجد، بواسطة الطائرات أو الصواريخ. ويسقط يومياً ما بين 20 و30 قتيلاً، وضعفهم جرحى من المدنيين في تلك المناطق". وأشار إلى أن "هناك نقصا بالغذاء، فتلك المدن محاصرة ولا دواء فيها، وانتشرت أمراض مخيفة مثل الكبد الفيروسي وشلل الأطفال ومن لم يمت قصفاً مات جوعاً أو مرضاً". ولفت إلى أن "تركيز الصحافة العالمية أو العربية على تلك المدن التي يبلغ مجموع من يقطن فيها نحو ربع مليون نسمة مسألة أخلاقية قبل كل شيء".
وتابع "طيلة ثلاث سنوات لم تعلن الحكومة العراقية، لا بمؤسساتها المدنية ولا العسكرية، عن عدد الضحايا المدنيين. وكذلك واشنطن أو التحالف الدولي. وربما يعدّ هذا مؤشراً على الرقم الكبير للمدنيين الذي لم يعد صالحاً للإعلان". وذكر أن "معركة الموصل نقلت على الهواء على الشاشات وسقطت بها أعداد مهولة من الضحايا المدنيين، فكيف سيكون الحال بالمدن النائية. ومع الأسف هناك إنكار تام من الحكومة العراقية وإنكار ضمني من التحالف الدولي لعمليات القصف الجوية أو الصاروخية. ويجب أن نفهم أنه لا وجود لمعلومات استخبارية في تلك المناطق بالمعنى الدقيق، وبالتالي نادراً ما تُقصف أهداف حقيقية لداعش، فلا يكون الضحايا سوى من المدنيين".