قبل أن تضع معركة الرقة أوزارها، تتجه الأنظار إلى محافظة دير الزور، التي تشير التطورات الميدانية إلى أن معركة انتزاعها بالكامل من تنظيم "داعش" بدأت تلوح في الأفق، مع تقدم قوات النظام السوري نحو مدينة السخنة في ريف حمص الشرقي، والتي تعتبر بوابة دير الزور من جهة محافظة حمص. وتعتبر دير الزور آخر ما سيكون بحوزة تنظيم "داعش" إذا خسر الرقة، كما هو متوقع، إضافة إلى ما يسيطر عليه في الريف الشرقي لمحافظتي حمص وحماة. وقد بدأ ينحسر نفوذه في هذه المناطق، بفعل الزحف المتواصل لقوات النظام السوري.
وتتصارع قوى عدة للوصول إلى دير الزور أولاً. وتحتفظ قوات نظام بشار الأسد بوجود ثابت في المدينة ومحيطها، وهي تسيطر على ثلاثة أحياء: الجورة والقصور وهرابش، إلى جانب المطار العسكري. وكلها مناطق محاصرة من جانب تنظيم "داعش" الذي نجح أخيراً في عزل المطار عن تلك الأحياء الثلاثة. وبات المطار يعتمد على الإمداد الجوي الروسي.
وهناك أيضاً الأميركيون الذين يشنون عبر طيران "التحالف الدولي" غارات شبه يومية على محيط مدينة دير الزور. ونشروا قبل يومين منظومة مدفعية جديدة متطورة من نوع "هيماراس". لكن لا مؤشرات حتى الآن إلى أن لديهم قوات برّية حليفة كافية لشنّ هجوم على المدينة كما حصل في الرقّة.
وتسعى القوات التابعة للمعارضة السورية في المنطقة للإفادة من الدعم الأميركي لتكون رأس حربة أي هجوم على المدينة. وقد تمكنت تلك القوات من دخول الحدود الإدارية لدير الزور، من جهة الجنوب، بالتوازي مع الشريط الحدودي العراقي. غير أن تقدم قوات النظام في منطقة البادية، يقف عائقاً أمام سعي مقاتلي المعارضة للسيطرة على البادية بكاملها، على الرغم من تلقيهم الدعم من القوات الأميركية التي بات لها نفوذ يمتد من الريف الشرقي لمحافظة السويداء، وصولاً إلى منطقة التنف على المثلث الحدودي السوري – الأردني – العراقي وإلى الجنوب الغربي لدير الزور عبر قاعدة الزكف التي تعكف القوات الأميركية حالياً على تطويرها في تلك المنطقة.
كما أن "قوات سورية الديمقراطية"، المدعومة أميركياً، دخلت بدورها الحدود الإدارية لدير الزور من الجهة الشمالية الغربية في إطار عملياتها لعزل "داعش" في مدينة الرقة.
ويدرك "داعش" أن جميع هذه القوى باتت تتربص بالمدينة التي يسيطر على معظمها والتي تعتبر من آخر معاقله الآمنة في الأراضي السورية. ولذلك هو يحاول إحكام سيطرته حول النقاط الاستراتيجية في المدينة ومحيطها استباقاً لأي هجوم قد تشنه القوى العديدة المتنافسة للسيطرة على المدينة. ويسعى "داعش" بشكل خاص إلى التضييق أكثر على قوات النظام في الأحياء التي تسيطر عليها بالمدينة وفي المطار العسكري.
وفي هذا السياق، تواصلت الاشتباكات العنيفة، أمس الجمعة، بين قوات النظام المدعومة بالمسلحين الموالين لها، وعناصر "داعش" في جمعية الرواد ومنطقة البغيلية بالأطراف الشمالية الغربية لمدينة دير الزور، وفي منطقة المقابر وغرب مطار دير الزور العسكري. وتزامن ذلك مع اشتباكات عنيفة في محيط اللواء 137 ودوار البانوراما، جنوب المدينة، إثر هجوم عنيف بدأه "داعش" بعد منتصف ليل الاثنين – الثلاثاء، في محاولة لتحقيق تقدم باتجاه حي الجورة واللواء 137. ويرافق الاشتباكات قصف مكثف لقوات النظام على مناطق سيطرة "داعش". وتأتي هذه الاشتباكات استمراراً للمعارك التي بدأت مطلع الشهر الحالي بين الجانبين وتركزت بجنوب المدينة في منطقة المقابر ومحيطها، إثر هجوم عنيف شنه "داعش" سيطر خلاله على مدرسة ومواقع أخرى في خطوط الدفاع الأولى لقوات النظام.
واستهدفت طائرات النظام، فجر أمس، بلدة مراط، شرقي دير الزور، بعدة غارات جوية، ما أسفر عن مقتل عائلة كاملة مؤلفة من أب وأم وطفل إضافة إلى عدد من الجرحى. كما شنت طائرات حربية غارات على بلدتي محيميدة والحصان بريف دير الزور الغربي، ما أوقع جرحى في صفوف المدنيين، فيما قصفت طائرات روسية بأكثر من 10 غارات جوية حيي العمال والحميدية ومحيط منطقة البانوراما ومنطقة المقابر في مدينة دير الزور.
في غضون ذلك، قصفت طائرات "التحالف الدولي"، فجر الجمعة، قرية مراط بريف دير الزور الشرقي، ما أدى لسقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين. وكانت طائرات "التحالف" قتلت الأسبوع الماضي، 9 أشخاص وأصابت 3 في مدينة القورية في ريف دير الزور الشرقي بعدما استهداف سيارتهم. كما قتل 20 عنصراً من تنظيم "داعش" جراء قصف جوي من قبل طيران "التحالف" استهدف مصنع أسلحة في محيط المنشأة الصناعية، في مدينة البوكمال بريف دير الزور الشرقي.
في هذا السياق، يرى المحلل العسكري، العميد الركن أحمد رحال، أن المشروع الإيراني في المنطقة، والذي يتمثل بإقامة ممر آمن يصل طهران ببيروت، نجح حتى الآن في قطع كل منافذ الوصول إلى البوكمال أو محافظة دير الزور عن فصائل "الجيش السوري الحر"، الموجودة في محيط معبر التنف. وأضاف رحال في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المتابع لحركة أرتال داعش المنسحبة من معركتي الموصل والرقة يجد أنها تتجه نحو مثلث البوكمال – الميادين – دير الزور، مع بعض الدعم لعناصر داعش في البادية السورية". وهذا يشير، بحسب المحلل نفسه، إلى أن "المعركة الأساسية لاستئصال داعش لم تبدأ بعد، وستكون ساحاتها في محافظة دير الزور، لا سيما أن النفط الموجود بغزارة في تلك المحافظة والمرتبط بآبار الحسكة والرميلان وكراتشوك والحمزة وسازابا وليلاك، قد يدفع واشنطن إلى بناء تحالف جديد أو الاعتماد على شركاء معركة الرقة أنفسهم والزج بهم في معركة دير الزور والسيطرة عليها وضمها لمناطق النفوذ الأميركي"، وفق تعبيره. ويبدو أن التصميم نفسه موجود أيضاً لدى الإيرانيين ووكلائهم على الأرض، أي النظام والمليشيات.
وتعتبر مصادر النظام السوري أن ما تحقق في تلك المنطقة خلال الأشهر الأخيرة يشكل إنجازاً كبيراً يسمح بالتفكير بالتوجه إلى دير الزور، وهو ما أعلن عنه صراحة وزير خارجية النظام، وليد المعلم، أخيراً حين قال إن قوات النظام سوف تتوجه نحو دير الزور بعد التوقيع على اتفاق "تخفيف التصعيد" في أستانة.
وقد تمكنت قوات النظام خلال هذه الفترة من السيطرة على عدد من النقاط الاستراتيجية، مثل تلة دكوة، التي تعتبر أعلى قمة بين التلال الجبلية وتربط بين الريف الشرقي لدمشق والريف الشمالي الشرقي للسويداء ووصول القوات إلى حقل آراك والمحطة الثالثة لضخ الغاز، وهو ما قطع الطريق على فصائل المعارضة التي كانت تستقدم التعزيزات عبر هذه المحاور، وسمح لقوات النظام بمواصلة التقدم شرقاً في طريقها نحو مدينة السخنة.
ونقلت مواقع موالية عن مصدر في جيش النظام قوله إن "العملية العسكرية في عمق الصحراء الشرقية عملية معقدة وطويلة وتم التحضير والتخطيط لها بشكل جيد، وهي تعتمد على عنصرين أساسيين: سلاح الجو والسيطرة على التلال الاستراتيجية والمرتفعة، وبفضل هذين العنصرين حسمت المعركة لصالح قواتنا"، وفق تعبيره.
وإزاء مخططات إيران والنظام هذه، أصدرت مجموعة من فصائل المعارضة المقاتلة وفعاليات مدنية ووجهاء عشائر من أبناء محافظة دير الزور بياناً رسمياً قبل أيام، توعدت فيه المليشيات الإيرانية بالمواجهة العسكرية في عموم المناطق السورية. وأكد الموقعون على البيان "رفضهم القاطع للتدخل الإيراني بجميع أشكاله الطائفية". وطالبوا "الدول الصديقة للشعب السوري بالتدخل لوقف الزحف الإيراني في المنطقة".
غير أن خطط إيران والنظام لا تسير دائماً كما هو مرسوم لها. وقد تمكن تنظيم "داعش"، يوم الخميس، من استعادة السيطرة على منطقة ضهور الغنايم، شمال مطار التيفور العسكري، غرب مدينة تدمر، عقب معارك عنيفة مع قوات النظام، وهو ما يعني أن المشهد برمته أكثر تعقيداً مما يخطط له أي طرف من الأطراف.