فرنسا أمام اختبار الانتخابات التشريعية: "غالبية رئاسية" تهدد اليمين واليسار

29 مايو 2017
قدّمت "الجمهورية إلى الأمام" 461 مرشحاً(جيوفري فان ديرهاسيل/فرانس برس)
+ الخط -
على بُعد أسبوعين عن موعد الانتخابات التشريعية المقبلة، تعيش الساحة السياسية الفرنسية حالة من الغليان غير المسبوق في ظل الخلخلة الكبيرة التي يواصل الرئيس إيمانويل ماكرون إحداثها في الجسم السياسي وتشتيته لشمل الأحزاب السياسية التقليدية يساراً ويميناً، عبر استراتيجية "الغالبية الرئاسية" التي يريد أن تتمخض عنها معركة التشريعيات. ويتقدّم لهذا الاستحقاق 7882 مرشحاً ومرشحة من مختلف الأحزاب والحركات السياسية، يتنافس حوالى 14 منهم في كل دائرة انتخابية، ويبلغ مجموع هذه الدوائر 577 دائرة.

وتخوض حركة "الجمهورية إلى الأمام" معركة التشريعيات بنفسية واثقة بفضل الدينامية الجديدة التي خلقها فوز ماكرون، وهي قدّمت 461 مرشحاً باسمها. وتراهن الحركة على تحقيق هدف الرئيس المنتخب وانتزاع "غالبية رئاسية" تمكّنه من الحكم بسهولة وتمرير مشاريع الإصلاحات التي وعد بها من دون عرقلة برلمانية. وتدخل الحركة غمار التشريعيات معززة بتحالف متين مع حزب "الموديم" الوسطي اليميني الذي وقف زعيمه إلى جانب ماكرون في الانتخابات الرئاسية وقدّم له دعماً ثميناً ساعده على الفوز. ووهبت الحركة 40 دائرة انتخابية إلى مرشحي "الموديم" مقابل هذا التحالف، وهذا ما سيبعث الحزب الوسطي من جديد بعد أن كان حضوره قد تقلّص في البرلمان السابق.

وعلى الرغم من أن العديد من استطلاعات الرأي ترشح تحالف "الجمهورية إلى الأمام" و"الموديم" للفوز بالغالبية في البرلمان المقبل، فإن بعض مرشحي الحركة يواجهون عراقيل في عشرات الدوائر الانتخابية، بسبب شعار "الغالبية الرئاسية" الذي يرفعه أيضاً مرشحون منافسون من الحزب الاشتراكي وحزب "الجمهوريين"، ما يخلق حالة من التشويش لدى الناخبين. كما أن بعض "التفاهمات" التي عقدتها قيادة الحركة مع شخصيات سياسية معينة من أجل عدم عرقلة فوزها، خصوصاً في الدوائر الباريسية، تضعف من سمعتها لدى الناخبين. وهناك وزيران من الحركة في حكومة ماكرون، هما منير محجوبي وماريال دوسارنيز، يخوضان الحملة الانتخابية في أجواء مشحونة بسبب حتمية الفوز، وإلا سيضطران إلى تقديم استقالتهما في حال الهزيمة.

أما بالنسبة لحزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف برئاسة مارين لوبان، فتكتسب هذه الانتخابات التشريعية أهمية حاسمة. فبعد أن حقق إنجاز تأهل مرشحته لوبان للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، يطمح الآن لاستثمار هذا الرأسمال السياسي في معركة التشريعيات وتعزيز حضوره في البرلمان المقبل. ولهذا فقد حرص على تقديم 571 مرشحاً في مجموع الدوائر التي يبلغ عددها 577 وبهذا يكون هو الحزب الذي قدّم أكبر عدد من المرشحين. ومقابل برلمانيين اثنين هما ماريون ماريشال لوبان وجيلبير كولار، يمثلان الحزب في البرلمان بعد انتخابات 2012، يرغب حزب مارين لوبان في تحقيق اختراق تاريخي وانتزاع 15 مقعداً على الأقل لتشكيل فريق برلماني يكون له دور وازن في النقاش البرلماني. ويعوّل الحزب على 45 دائرة انتخابية كانت مارين لوبان قد حققت فيها أكثر من 50 في المائة من الأصوات في الدور الثاني من الرئاسيات، خصوصاً في الشمال الغربي والجنوب الشرقي.
وترشحت لوبان في دائرة هينان بومون في منطقة بادوكالي التي خسرت فيها في انتخابات 2012 بفارق 118 صوتاً فقط في مواجهة المرشح الاشتراكي فيليب كميل. وتبدو حظوظ الحزب وافرة هذه المرة في اقتناص نحو 20 مقعداً على الأقل حسب استطلاعات الرأي تتناسب مع الحجم السياسي الذي بات يتمتع به في أوساط الناخبين الفرنسيين.

وفي معسكر اليمين المحافظ، يبدو المشهد في غاية التعقيد. فبينما ينشغل القادة في الجدل حول مستقبل حزب "الجمهوريون" ومهاجمة أصدقاء الأمس القريب الذين التحقوا بحكومة ماكرون، يجد مرشحو الحزب، الذين يبلغ عددهم 488 مرشحاً، يتحالفون غالباً مع مرشحي حزب "أو دي إي" الذين يبلغ عددهم 148 مرشحاً، أنفسهم في الخط الأمامي في مواجهة حيرة كبرى تجتاح قاعدة الحزب الانتخابية بسبب "الزلزال" الذي تمخض عن هزيمة مرشح الحزب للرئاسيات فرانسوا فيون، ووصول ماكرون للرئاسة وتعيينه لليميني إدوارد فيليب رئيساً للحكومة بالإضافة إلى وزيرين من "الجمهوريون" هما برونو لومير وجيرالد دارمانان.
ويجد ناخبو اليمين أنفسهم أمام خيارين، إما منح فرصة لماكرون وبرنامجه الليبرالي بالتصويت لصالح مرشحي لائحة "الجمهورية إلى الأمام"، أو نسيان هزيمة فيون والتصويت لمرشحي "الجمهوريون". وفي مواجهة هذه الحيرة الانتخابية غير المسبوقة، وفي غياب أي استراتيجية حزبية واضحة، يحاول المرشحون الاعتماد على أنفسهم والعمل بنَفَس محلي بعيداً عن الرهانات السياسية الوطنية المعقّدة. وهذا ما اتضح السبت الماضي في التجمّع الجماهيري الذي عقده الحزب في باريس لإطلاق الحملة الانتخابية. فقد حضرت غالبية الشخصيات القيادية برئاسة فرانسوا باروان، في حين لم يحضر سوى عدد قليل من المرشحين الذين فضّلوا البقاء في دوائرهم الانتخابية وإطلاق حملاتهم في أوساط الناخبين.

أما الحزب الاشتراكي، فهو يدخل معركة التشريعيات في حالة من التشرذم الشديد جراء كارثة الرئاسيات التي مُني فيها مرشحه بونوا هامون بهزيمة ثقيلة. ويعاني الحزب من هروب جماعي لعدد من شخصياته القيادية الذين التحقوا بصفوف حركة ماكرون وبحكومته الحالية. وهذا ما جعل عدداً كبيراً من النواب الاشتراكيين المنتهية ولايتهم يتخلون عن خوض الانتخابات التشريعية حتى في الدوائر القليلة التي كانت نتيجتها حتى عهد قريب مضمونة النتائج. وتمنح استطلاعات الرأي ستة في المائة من نوايا التصويت لصالح مرشحي الاشتراكي، وهو الرقم نفسه الذي حصل عليه هامون في الرئاسيات.


والواقع أن هناك ناخبين اشتراكيين كثراً يعتبرون أنفسهم أقرب إلى أفكار ماكرون، ولا يجدون في دوائرهم الانتخابية مرشحاً اشتراكياً يصوّتون له. وبلغت المفارقات في هذا الصدد حدوداً سريالية. فالمرشح الاشتراكي المهزوم بونوا هامون يساند مرشحين منافسين للاشتراكي من "الخُضر" أو حركة "فرنسا غير الخاضعة" التابعة لجان لوك ميلانشون. وهناك 150 مرشحاً باسم الحزب يخوضون الحملة الانتخابية لصالح ماكرون تحت شعار "الغالبية الرئاسية"، ومنهم الوزيرتان السابقتان في الحكومة الاشتراكية مريم الخمري وماريسول تورين. وهناك مرشحون اشتراكيون لم يحصلوا على تزكية الحزب مثل رئيس الوزراء السابق إيمانويل فالس ومالك بوتيح يرفعون شعار "الغالبية الرئاسية".

ولم تبق إلا قلة قليلة، مثل الأمين العام للحزب جان كريستوف كامباديليس أو وزيرة التعليم السابقة نجاة بلقاسم، تخوض التشريعيات باسم الحزب وتحاول إنقاذ ماء الوجه في مهمة شبه مستحيلة وأمام مرشحين شرسين من حركة "الجمهورية إلى الأمام". وحسب مصادر في المكتب السياسي، فإن الاشتراكي يراهن على الحصول على 20 مقعداً في البرلمان المقبل، غير أن بعض المراقبين يعتبرون أن معركة التشريعيات قد تكون هي الأخيرة للحزب الاشتراكي وربما ستمنحه شهادة وفاة رسمية في حال لم يحصل على 15 مقعداً، وهو الحد الأدنى الدستوري لتشكيل فريق برلماني.

أما بقية قوى اليسار الفرنسي التي تنادي بضرورة تشكيل جبهة معارضة موحّدة ضد ماكرون وغالبيته الرئاسية، فهي تدخل أيضاً التشريعيات منقسمة على نفسها. فغالبية الدوائر الانتخابية تشهد منافسة حامية بين مرشحي "فرنسا غير الخاضعة" والحزب الشيوعي و"الخضر". وعلى الرغم من أدائه الجيد في معركة الرئاسيات الذي جعل منه قائداً فعلياً لليسار المعارض، فقد فشل ميلانشون في توحيد هذا اليسار، بل إنه كان السبب في فك الارتباط مع الحزب الشيوعي وقائده بيار لوران. ورفض ميلانشون أي تفاهم مع الشيوعيين و"الخضر" واليسار الماوي من أجل تقديم لائحة مشتركة. وقدّمت "فرنسا غير الخاضعة" 556 مرشحاً، وتنوي خوض التشريعيات في معظم الدوائر الانتخابية إسوة بحزب "الجبهة الوطنية".

ويرى بعض المراقبين أن ميلانشون، الذي ترشحه استطلاعات الرأي للفوز بمقعد برلماني في مارسيليا، بات "مغروراً" ويتعالى على حلفائه الإيديولوجيين حين يصر على أن مرشحي "فرنسا غير الخاضعة" قادرون على تحقيق اختراق في التشريعيات والفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد من أجل تشكيل فريق نيابي يحمل مشعل المعارضة اليسارية في البرلمان المقبل. لكن ثمة خطراً يتربص بميلانشون وهو قد لا يخرج رابحاً من التشريعيات كما يتوقع، خصوصاً أنه سبق وأن خرج خاوي الوفاض من الانتخابات التشريعية السابقة ولم يحوّل نجاحه الرئاسي حينها المتمثل في 11 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى إلى نجاح تشريعي.

هكذا تبدو معركة التشريعيات ساخنة وحاسمة بالنسبة لكل الأطراف السياسية التي تخوضها، وستكون نتائجها مفتاح خريطة سياسية جديدة. فإذا نجح ماكرون في رهانه وتمكّن من تشكيل غالبية رئاسية مكوّنة من مرشحي حركته وبقية مرشحي الحزب الاشتراكي وحزب "الجمهوريون" الذين التحقوا به، فستكون تلك ضربة قاصمة للحزبين الأخيرين، وهذا ما هو متوقع في نظر المحللين الفرنسيين. وإذا نجحت لوبان وميلانشون في حصد عدد مهم من المقاعد يعكس حجم أدائهما في الانتخابات الرئاسية، فالبرلمان المقبل سيكون ساحة مقارعة متواصلة بين الغالبية الرئاسية، ومعارضة متطرفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

المساهمون