أوروبا بين هاجسين: انتعاش أنصار "روسيا-بوتين" والتباعد مع ترامب

09 فبراير 2017
من تظاهرة لأنصار اليمين المتطرف في إيطاليا (Getty)
+ الخط -


ترتفع أصوات أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، لتشكيل "سياج حماية" لروسيا فلاديمير بوتين بوجه السياسات الرسمية الأوروبية، مقابل اتجاه الاتحاد الأوروبي نحو المزيد من الضغوط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اقتصادياً وسياسياً، وخصوصاً مع سخونة الوضع في أوكرانيا، ومراهنة البعض على ما يسميه "خيبة روسيا" من توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولية.
فقد بدأت أحزاب يمينية وشعبوية برفع صوتها مطالبة بإنهاء العقوبات على روسيا، التي فُرضت عام 2014. يتعلق الأمر بأحزاب يمينية متشددة، من شمال أوروبا حتى جنوبها، بما يشبه اندفاعة ممنهجة، تعتبر روسيا "حليفاً" بوجه الاتحاد الأوروبي، تحت مسمى أحزاب احتجاجية، من ديمقراطيي السويد إلى "الشعب" الدنماركي وألمانيا ففرنسا وإيطاليا واليونان وهولندا، وخصوصاً بعد قمة مالطا التي اعتبر فيها رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، روسيا أحد أعظم ثلاثة أخطار تواجه وحدة أوروبا.
وتظن تلك الأحزاب أنه مع انتخاب ترامب أصبح الطريق معبداً لها نحو سياسة "شرسة" في مجال الضغط والتصريح العلني، كما في المرافعات الدفاعية للبرلمانية الدنماركية ماريا كاروب، التي عملت سابقاً كضابط وملحق عسكري في موسكو. وهي تقود الآن، إلى جانب شخصيات وأحزاب أوروبية أخرى، حملة ضخمة لرفع العقوبات عن روسيا. وهؤلاء يُحتفى بهم في الإعلام الروسي كـ"أوروبيين حقيقيين".
وتتجاوز تلك الشخصيات الأمر المتعلق بالتقارب مع بوتين، نحو اعتبار القضية تتعلق بـ"حماية القيم المسيحية" بالتعاون مع روسيا. فقد طالبت شخصيات في هذا اليمين المتطرف، بعد لقاء موسع عقدته قبل أيام في ألمانيا، باعتبار روسيا "حليفاً" ووجوب الدخول في حوار مع بوتين. أما الرئيس الروسي فيبدو أنه يراهن هذه المرة ليس فقط على ما زرعه من علاقات مع أحزاب شعبوية يمينية، بل حتى على أحزاب أقصى اليسار المتطرف، وإن كانت الأخيرة ليست ذات شعبية كبيرة، لكن مجرد رفع صوتها التقاء باليمين المتطرف يشكل صداعاً لسياسة تقليدية وإعلامية في الدول التي راهن عليها بوتين.


ترويج لقوة روسيا

يستند خطاب "حماية القيم المسيحية"، على ما تذهب إليه شخصيات برلمانية غربية من الشعبويين، إلى تبنّي سياسة روسيا التي منعت دخول لاجئين ومهاجرين إليها. ويحاجج هؤلاء بأن "روسيا حذرتنا منذ البداية بشأن المهاجرين". يقول المتخصص في الشأن الروسي من معهد الدراسات الدولية في كوبنهاغن، فليمنغ سبيدسبويل، إن "روسيا لعبت جيداً على قضية المهاجرين لجذب أحزاب الاحتجاج (اليمينية المتشددة)". والغريب في ما يلاحظه خبراء في الشأن الروسي أن موسكو "التي طالما قدّمت نفسها في وسائل الدعاية لشعبها بأنها تتدخل في أوكرانيا وسورية لمساعدة الشعوب، لم تستقبل من السوريين ولا حتى عُشر ما استقبلته صربيا، وأخرجت الكثير من القصص الكاذبة عن اللاجئين في برلين"، يقول مارتن أبيلغورد من فينسترا الليبرالي الحاكم في كوبنهاغن لـ"العربي الجديد". ووفقاً للباحث سبيدسبويل، فإن "وسائل الإعلام الناطقة باسم روسيا تبدو منشغلة جداً هذه الأيام بقضية المهاجرين وتأثيراتهم السلبية على أوروبا وافتقاد الاتحاد الأوروبي القدرة على التصرف"، مضيفاً: "اليمين المتطرف يبتلع الطعم ويقول إنه يجب أن نفعل ما تقوم به روسيا في هذا المجال".
أما اليساريون فينتقدون بشدة "سذاجة الشعبويين"، وهم "ينتقدون تدفق اللاجئين إلى أوروبا ولا يسألون روسيا لماذا لم تستقبل لاجئي سورية مثلاً؟"، كما يقول جون كراوسكورد من حزب اليسار اللائحة الموحدة الدنماركي لـ"العربي الجديد".
الصراع الداخلي في الدول الإسكندنافية يمكن عرضه على نحو يقدّمه معارضو سياسة الاتحاد الأوروبي البيروقراطية من اليسار، ليس ضد فكرة الاتحاد ككل، بل أنه من الخطر "وجود شخصيات في السويد والدنمارك تتعالى أصواتها بشكل غير معقول ضد مصالح أوروبا لمصلحة بوتين. لنأخذ ماريا كاروب التي تتزعم اليوم ما يسمى الحوار مع روسيا لنعرف من تكون وما لديها هذه المواقف"، يضيف كراوسكورد في معرض تعليقه على ما يجري.
ماريا كاروب هي ابنة القس سورن كاروب، الذي ينتمي إلى حزب "الشعب" اليميني، صاحب المواقف النارية والمعادية بشدة للإسلام والتي قادته إلى محاكم، ودفعت الحزب للتبرؤ من تصريحات خطيرة اتهم فيها المسلمين باتهامات خطيرة. ويشرح العارفون بمواقف "الملحقة العسكرية" السابقة في موسكو، ماريا كاروب، مواقفها الأيديولوجية باعتبار "بوتين هو المنقذ لقيمنا المسيحية" على ما تذهب إليه دائماً في تصريحاتها، وتعتبر "الإسلام هو أكبر تهديد لأوروبا وليس بوتين".

بوتين الحارس
هذه القضية ليست مجرد تخمينات، ففي تقرير تحت عنوان "أحصنة طروادة الكرملين"، ذهب مركز "أتلانتيك" الأميركي في واشنطن إلى الدخول في أدق تفاصيل ما يربط الكرملين بأحزاب متحالفة معه في دول الغرب الديمقراطي. فالأمر وفقاً لهذا التقرير يستند إلى هدف نهائي "ينهي ويفكك الاتحاد الأوروبي ويقوّض القيم الليبرالية والانفتاح وحرية التعبير، التي تعتبرها روسيا بأكملها خطراً على قبضة السلطة على البلاد".
وفي السياق، يرى من تحدثت معهم "العربي الجديد" من خبراء في السياسة الروسية، في بيرن النرويجية وكوبنهاغن، أن "اليمين الشعبوي يقدّم نفسه كحركات احتجاجية، لكن الواقع هو أنها أحزاب سياسية تخوض الانتخابات لتصل إلى تقرير سياسة بلادها، وبوجه الهجرة الإسلامية تحديداً. لذا نرى هذا اليمين يندفع باعتبار بوتين واحداً ممن يدافعون عن قيم الدول المسيحية، على الرغم من أننا مثلاً في النرويج لدينا انفصال تام بين الدين والدولة وليست الكنيسة معبّرة عن ديانة الدولة في الدستور، على عكس كوبنهاغن التي تتمسك بالكنيسة كجزء من الدولة ويدفع المواطنون ضريبة لها. فلاديمير بوتين بالنسبة لهؤلاء، وخصوصا الذاهبين نحو انتخابات وطنية هذا العام، هو قائد لبلد مسيحي كبير لم يعد يتعرض لإرهاب إسلامي كما تتعرض أوروبا، وفق ما يدعيه هؤلاء"، يقول الباحث في الشأن الروسي النرويجي مارتين فليبسين.



هذه الصورة التي يقدّمها اليمين المتطرف في الغرب، بالنسبة للباحث الدنماركي والملحق العسكري في كييف ومينسك وموسكو سابقاً، كارستن ياكوب موللر، "ليست صورة حقيقية ولا عادلة أبداً". ويرى موللر الأمر الديني على نحو مرتبط بالنخبة السلطوية في موسكو، "فالكنيسة الأرثوذكسية، وليس بعيداً عن ذلك البطريرك، جزء لا يتجزأ من معادلة إحكام القبضة على السلطة. فبوتين يستخدم هؤلاء وغيرهم لبناء نوع من الهوية الوطنية المتماسكة التي افتقدتها روسيا سابقاً، وكان من الصعب بناؤها وتحديدها قبلاً".

ما يقلق أحزاب يمين ويسار الوسط واليسار في عدد من الدول الأوروبية الشمالية، تماماً كما هو الحال في دول غربية أخرى، أن الأمر لا يرتبط بتصريحات ودعوات من ساسة مغمورين بل من برلمانيين وأصحاب مناصب، فماريا كاروب مثلاً ترأس لجنة الدفاع. وهؤلاء السياسيون والبرلمانيون باتوا يسمونها علانية في وسائل الإعلام وتحت قبة البرلمان "حمقاء بوتين المفيدة له". تلك التسمية جاءت لأن كاروب ذهبت لمعارضة تقرير وزير الدفاع الدنماركي، كلاوس فريدريكسن، الذي وصف فيه روسيا بـ"تهديد مخيف". وطالبت كاروب بـ"إيجاد سياسة تدفعنا لأن نصحو ونقيم تفاهمات مع روسيا بدلاً من القول إنهم يشكلون تهديداً"، مضيفة أن "النزاع يمكن أن يؤدي إلى انفجار حرب، علينا التفكير بما جرى في كييف وما يمكن أن يحدث لدول البلطيق".
برلماني دنماركي يقول عن هذا الأمر: "ما يثير السخرية أنك أمام سياسيين يتمترسون أيديولوجياً، لكنهم في الوقت نفسه، يودون لو أتيحت لهم الفرصة لزيارة دمشق والالتقاء بقاتل أدى إلى أزمة اللاجئين. هؤلاء وبكل غباء يظنون أن مفتعل الأزمة يمكن أن يحلها. أضف إلى ذلك أنهم في حالة تخبط: هم مع روسيا وإيران، ومع ترامب أيضاً لكن الأخير يبدو أنه يخيب آمالهم في مسألة العقوبات".

أوسع من شمال أوروبا
لعبة بوتين، خصوصاً على أبواب انتخابات في عدد من دول أوروبا، تستنبط بعض التجارب التي شوهدت في انتخابات أخرى في شرق وجنوب شرق أوروبا، حيث فاز "مؤيدو النهج الروسي" (يميناً ويساراً). ولم تتردد زعيمة "الجبهة الوطنية" المرشحة للرئاسة الفرنسية مارين لوبان، في القول إن بوتين "يدافع عن مصالح بلده وهوية شعبه"، مضيفة: "إذا أصبحتُ رئيسة سيكون هناك تعاون مع روسيا. ليس هناك من شيء نخاف منه". كلام لوبان يلاقي انتقادات كثيرة في أوساط اليمين التقليدي الغربي، وخصوصاً مع كل ما يراه الاتحاد الأوروبي رسمياً من تهديد روسي، وبشكل يرى فيه البعض تعارضاً "بين قيم أوروبا وممارسات سلطوية وحربية في أوكرانيا وسورية".
الأمر نفسه ينطبق على "رابطة الشمال" الإيطالية، إذ يرى زعيمها ماتيو سالفيني انتخاب ترامب فرصة "لالتقاء بوتين وترامب في إيطاليا لإعادة تنشيط العلاقة بين روسيا وأميركا"، مضيفاً: "علينا رفع العقوبات عن موسكو والاعتراف بأن القرم روسية". ولم يغب أبداً إعجاب الزعيم السابق لحزب "استقلال بريطانيا" اليميني نايجل فراج بفلاديمير بوتين وتدخّله في سورية، عن توجّهات اليمين المتطرف في بريطانيا الذي يظل يردد رغبته في ضرورة التعاون مع بوتين لمحاربة "التطرف الإسلامي". إضافة إلى ذلك لا تُخفى الروابط الكبيرة بين زعماء المجر وبولندا ببوتين. لكن العلاقات الغريبة بين بوتين وأحزاب التطرف الألماني مثل "البديل لأجل ألمانيا" و"أن بي دي" نازي التوجّه يقابلها تقارب مع حزب يساري مثل "دي لينكا". ويرى كثيرون أن بوتين بدأ ينتهج سياسة تدخّل أسرع على أبواب انتخابات هذا العام التي ستشمل أكثر من بلد أوروبي.

مستقبل الاتحاد الأوروبي
رئيس التحالف الليبرالي الديمقراطي من أجل أوروبا، غي فيرهوفشتات، يشعر بالقلق على مستقبل الاتحاد الأوروبي. فمن جهة يرى الليبراليون الديمقراطيون أن "بوتين يرغب بحل الاتحاد الأوروبي، كما أن ترامب يراه منافساً يجب إضعافه". ولم يتردد فيرهوفشتات في القول إن "الرئيس الأميركي يشكل خطراً على الاتحاد، فهو يريد تقويض الحياة الأوروبية القائمة على قيم الديمقراطية والحرية، والتي تعاني أساساً من ضغوط تحالفات بوتين في دول الاتحاد الأوروبي".
القلق من تقسيم أوروبا، والتلاعب بانتخاباتها من قِبل روسيا، أمر يقلق أيضاً باحثين ومتخصصين أوروبيين. إذ يعتبر هؤلاء، مثل الباحثة ريبيكا نيسين من جامعة كوبنهاغن، أن "ترامب لا يرى في الاتحاد الأوروبي شريكاً بل منافساً". وبالتالي ما يُقلق هؤلاء حول مستقبل الاتحاد ودوله هو الدفع به نحو التحلل والاندثار، وأن يتبع ذلك حلف شمال الأطلسي. فالأمر يعني أن "أهداف بوتين التي عمل عليها لسنوات عدة ستتحقق من خلال تحوّل نفوذه السياسي إلى أمر واقع في عواصم أوروبية عدة"، كما تضيف نيسين. وهي ترى أنه في حين "كانت أوروبا حليفاً تقليدياً لأميركا منذ الحرب العالمية الثانية، فليس من مصلحة واشنطن أن ترى أوروبا ضعيفة".

ما يقلق الغربيين ليس فقط أحصنة طروادة بوتين المنتشرة في الغرب، بل الخطاب الآتي من الضفة الأخرى للأطلسي، عن حماية الدول التي تعيش تحت تهديد روسي دائم، في شرق ووسط أوروبا وفي البلطيق. وفي هذا الصدد يقول الخبير في الشأن الأوروبي أوفه أوسترغوورد، إن "المخاطر الكبيرة هي أن يكون ترامب غير آبه بالتحركات الروسية نحو تعزيز نفوذها وتحريك الحدود، وتلك واحدة من أكبر المخاطر".
وفي باريس يشير الباحث فرانسوا هيسبورغ، من مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية في باريس، إلى أن الخشية هي من تحوّل أوروبا إلى جوكر في لعبة العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. لكنه يضيف: "ليس كل شيء مضمونا، فعلى الرغم من أن ترامب وبوتين تحدثا إيجابياً عن بعضهما، إلا أنه ليس من الأكيد أن تكون المصالح متطابقة". القلق الأوروبي المتزايد يعبّر عنه باحثون متخصصون في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومنهم جوزيف جانينغ الذي يقول إن "نظرة ترامب العالمية لا تقوم على التحالفات بقدر حماية الذات وإقامة اتفاقات ثنائية. وعلينا أن نسأل: ألا تهمّه كثيراً هيمنة الروس وخرقهم للقانون الدولي، لأنه يركز على أميركا؟".