صنعاء: مدينة النازحين تحترب

05 ديسمبر 2017
لا حركة في صنعاء إلا للمسلحين (محمد حويس/فرانس برس)
+ الخط -
شارع "هائل"، قلب العاصمة اليمنية صنعاء وشريانها الحيوي، الذي لا ينام ولا يتأثر إيقاع الحياة فيه بالحرب التي تدور، منذ ثلاثة أعوام في اليمن، الشارع الصاخب الذي تتداخل فيه الهويات اليمنية بأصوات بائعي القات والبطاطا بالشحاذين، اختلف فيه وقع الحياة منذ بدء الاشتباكات بين جماعة الحوثيين والقوات التابعة لعلي عبدالله صالح، إذ باتت معظم المحلات مغلقة، فيما لا أحد ليشتري من المحلات القليلة المفتوحة، ويقف أصحابها عند مداخلها ويتحدثون عن سير المعارك التي تجري على بُعد خمسة شوارع منهم، أصواتهم ترتفع مع حماسة اصطفافات بعضهم مع فريق ضد آخر، فيما تكدس مواطنون آخرون في مقهى، يتابعون أخبار المتقاتلين.

في أحد محلات الذهب، وقفت امرأة خمسينية تريد بيع قطعة من الذهب، لا أحد في الدكان سواها والعامل. تقول لـ"العربي الجديد" بعد خروجها من المحل: "كنت أسكن في شارع صخر، نزحت، أمس، بعد أن أصبح الحي منطقة مواجهات بين المتقاتلين، يقولون، إن المعارك ستطول، لذا نزحنا"، مضيفة: "هناك أهالي محاصرون في بيوتهم، منذ أيام، ولا يجدون ما يأكلونه. لا نعرف ما سيحدث في الأيام المقبلة، أتيت لأشتري الرز لكن التجار لا يرحمون، الكيلو بألف ريال. سنموت من الجوع إذا طالت الحرب في صنعاء".

أصبح الخوف من الجوع والحصار حديث الأهالي، خصوصاً في صفوف المدنيين في شارع الجزائر والحي السياسي وشارع بغداد، حيث تتركز مواجهات المسلحين. وفي هذا السياق، دعت الأمم المتحدة، أمس، إلى هدنة إنسانية في صنعاء، اليوم الثلاثاء، للسماح للمدنيين بمغادرة منازلهم ولفرق الإغاثة بالعمل وللجرحى بتلقي الرعاية الصحية. وقال منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن جيمي ماكغولدريك، في بيان، إن شوارع صنعاء تحوّلت إلى "ساحات قتال" وإن العاملين في مجال الإغاثة ما زالوا غير قادرين على الحركة. ودعا "جميع أطراف الصراع للالتزام بهدنة إنسانية عاجلة، يوم الثلاثاء من الساعة العاشرة صباحاً إلى الرابعة مساء، لتمكين المدنيين من مغادرة منازلهم لطلب المساعدة والحماية ولتسهيل حركة عمال الإغاثة لضمان استمرارية برامج الإنقاذ". وحذر الأطراف المتحاربة من أن الهجمات المتعمدة على المدنيين وفرق الإغاثة والبنية التحتية الطبية "تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي وربما تشكل جرائم حرب".

من جهتها، وجّهت الناشطة الحقوقية سهى باشرين، على حسابها في موقع "فيسبوك"، نداء عاجلاً عن أهالي الحي بسبب الحصار. وكتب المصور اليمني عبدالرحمن الغابري، الذي يقيم في الحي السياسي: "منذ ثلاثة أيام لم نتلق طعاماً، وهناك أهالي محاصرون". فيما وجّه مستشفى المتوكل مناشدة قائلاً إن "المرضى محاصرون في الداخل ولا يستطيعون الخروج". وكان الصليب الأحمر أصدر الأحد نداء للمقاتلين حول معاناة المدنيين بسبب الحصار.

حالة الذعر بين الأهالي والخوف من المجاعة وامتداد المواجهات، يُمكن تلمّسها في المحلات التجارية، ففي سوبر ماركت "سنتر مارك" في شارع الدائري الأعلى، يتدافع الأهالي لشراء مواد غذائية تكفي لأشهر. ويقول عامل عن مخزون المواد الغذائية لديهم، لـ"العربي الجديد": "إذا استمرت الحرب ربما تنفد المواد الأساسية، خصوصاً أن صنعاء محاصرة، ولا بضائع تدخل للمدينة". في الخارج يتسول عشرات النازحين، بعضهم من باب المندب؛ رقية شابة تتسول، تقول رداً على سؤال عما إذا كانت تحصل على أي مال: "لا. لكنهم أحياناً يعطونني وجبة من المطعم القريب".


في الطريق من شارع "هائل" إلى شمال شارع الدائري، تبدأ معالم خطوط النار بين المتقاتلين في البروز، إذ نُصبت في "جولة كنتاكي" نقاط عسكرية تابعة للمليشيات، ولا يمكن للسيارات التقدّم أكثر، حيث يُسمع إطلاق النار ودوي القذائف، لكن بعض المواطنين يغامرون في اجتياز المنطقة الخطرة للذهاب إلى بيوتهم.
الزحمة في تلك المنطقة خانقة، ما اضطر سيارات إلى الالتفاف على "جولة كنتاكي" عبر اجتياز الأزقة الخلفية للجامعة القديمة للخروج إلى شارع الزبيري. هناك المحلات مغلقة، ولا حياة سوى صخب السيارات والدراجات النارية، فيما أُغلق الزقاق الذي يفضي من القاع إلى الزبيري، بسبب تمدد الاشتباكات.

صنعاء مقطعة الأوصال، أغلب طرقات وسط المدينة مقطوعة، بينما بقيت حركة الحياة في شارع جمال الحيوي شبه طبيعية، فمحلات الملابس مفتوحة، والناس يشترون من محلات المواد الغذائية، كما تتصاعد رائحة الطعام من المطاعم. كذلك ينتشر مسلحون، بثياب مدنية في الشارع.
أما في شارع التحرير، فالحياة مختلفة، قلة من الأهالي يقطعون الشارع الذي كان سابقاً يضج بالحياة، ومبنى البريد مغلق، فيما المسلحون منتشرون في الشارع، وانتصبت مصفحة اعتلاها طفل مسلح، وسط تجمّع بعض الأهالي لأخذ صور مع الطفل، والهتاف بشعارات جماعة الحوثي. وعلى مسافة من المصفحة، رجل يبيع البترول.

عند اجتياز شارع التحرير والوصول إلى شارع الزبيري، يُلاحظ أن لا حياة في أهم شوارع العاصمة، بعد أن تحوّل، منذ أمس الأول، إلى مسرح للاشتباكات بين المتقاتلين، فكل المحلات مغلقة، وكذلك محلات الصيرفة، والبنك اليمني الدولي، البنوك الأخرى، وشركات الطيران، وغيرها، مع وجود إطارات محروقة، وانتشار مسلحين على الرصيف وفي الشارع، وسيارة بمكبرات الصوت تردد خطاب زعيم جماعة "أنصار الله" عبدالملك الحوثي.
أما عند مدخل شارع مجاهد وبداية شارع حدة، فتتعالى أصوات الرصاص ودوي القذائف، ما يمنع السيارات من التقدّم إليهما. وفي حي "قاع اليهود" المجاور، لا شيء سوى المسلحين، وحاملة جند عليها شعار جماعة الحوثي، فيما أكوام من التراب تمتد لمسافة طويلة، وشاب يعبئ التراب في أكياس كبيرة لنصب متاريس جديدة.

إنها الحرب داخل مدينة صنعاء، مدينة النازحين، المدينة التي ظلت آمنة من دوي القذائف عدا غارات طيران التحالف، لكن منذ صباح الثاني من ديسمبر/كانون الأول الحالي، تدور حياة المدنيين على وقع الانفجارات ودوي القذائف والرصاص وغارات الطيران. نهار صنعاء ليس كليلها، إذ لا تُعرف في ظلام ليل صنعاء وجهة القذائف وأهداف الطيران ومربعات المتقاتلين على الأرض، ولا وقع حياة المدنيين المحاصرين في مربعات معزولة لا يُعرف ما يدور خارجها. لكن في نهار صنعاء ترى بعينيك مشاهد حرب أهلية بدأت للتو، ترى الذعر والجوع والحاجة، وتفاصيل حياة قوّضها المتصارعون.