النمسا تدخل زمن اليمين: يوم أسود في بلد هتلر

19 ديسمبر 2017
الترقّب سيد الموقف في فيينا (ناصر السهلي)
+ الخط -
باتت النمسا رسمياً، أول دولة في الغرب الأوروبي واقعة تحت حكم اليمين القومي المحافظ واليمين المتطرف الشعبوي، مع بدء عهد رئيس حزب "الشعب" المحافظ، سيباستيان كورتز (31 عاماً)، مستشاراً للبلاد من جهة، وانطلاق حقبة حزب "الحرية" اليميني المتطرف حكومياً من جهة ثانية، بعد اتفاق الحزبين على تشكيل ائتلاف حكومي لخمس سنوات مقبلة. حدث يترجم الصعود اليميني الكبير الذي يشهده العالم، والقارة العجوز تحديداً في الفترة الأخيرة، ومن شأنه أن يشكل جرس إنذار لبقية دول أوروبا حيث لليمين المتطرف وزن متعاظم، خصوصاً في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا ودول أوروبا الشرقية، تحت شعارات معاداة اللاجئين والأجانب عموماً والإسلام خصوصاً ومناهضة العولمة والتكتلات الإقليمية الاقتصادية الكبرى. وأولت الصحف الأوروبية تحديداً اهتماماً كبيراً للحدث النمساوي، نظراً لما يجسده هذا البلد خصوصاً في التاريخ الأوروبي الأسود للنازية، حيث إن أدولف هتلر نمساوي المولد مثلاً، ونظراً لرمزية ما تمثله النمسا كبلد شبيه نسبياً بألمانيا، من دون أن يكون ذلك كافياً لتوقع انعكاس المزاج الشعبي النمساوي على الرأي العام الألماني بالضرورة.

وضمن الاتفاق الحكومي في النمسا بين الحزبين اليميني القومي واليميني المتطرف، عناوين متعلقة بحقوق طالبي اللجوء وواجباتهم، منها "تسليم الهاتف الذكي وما يملكون من أموال". فقد قررت الحكومة النمساوية العتيدة "إلزام طالبي اللجوء في النمسا بتسليم هواتفهم المحمولة إلى الجهات المسؤولة لغرض فحصها". وذكر موقع "فيلت 24" الألماني أن "الغرض من فحص أجهزة الهواتف هو معرفة هوية طالب اللجوء الحقيقية من خلال صفحات التواصل الاجتماعية، مثلاً، بالإضافة إلى الطريق الذي سلكه طالبو اللجوء حتى الوصول إلى النمسا. لكن لن تتم مصادرة الهاتف من قبل السلطات". كما قررت الحكومة العتيدة أن "على من يطلب اللجوء إلى النمسا تسليم كل ما يملك من أموال إلى السلطات مباشرة بعد تقديمه طلب اللجوء". وبالإضافة إلى ذلك، لن يحصل طالبو اللجوء خلال عملية فحص ملف اللجوء على أية مساعدات مالية، بل على مساعدات عينية فقط. وأضاف الموقع أن "أطفال اللاجئين سيتم إدخالهم إلى فصول دراسية لتعلم اللغة الألمانية أولاً، وليس مباشرة إلى المدارس كما هو الحال الآن".

وسبق أن مرّت النمسا بظروفٍ مماثلة العام الماضي، في الانتخابات الرئاسية، التي تنفست فيها فيينا الصعداء إلا في اللحظة الأخيرة التي فاز فيها اليساري ألكسندر فان در بيلين على الزعيم الشعبوي لحزب "الحرية" نوربرت هوفر، في ديسمبر/ كانون الأول 2016. بيد أنه أخيراً تجرّع بمرارة التحالف الجديد بين حزبي "الشعب" و"الحرية". والملفت أن نائب كورتز هو اليميني القومي هاينز كريستيان ستراشي. كما نال "الحرية" حقائب عدة، منها الداخلية والدفاع، وفق الاتفاق، بينما نال حزب "الشعب" وزارات المالية والاقتصاد والعدل. مع العلم أن اليمين القومي قطع وعوداً أمام الناخبين بأنه "في حال وصوله إلى الحكم فسيعمل على تخفيض ضريبة الدخل وتقليل مستوى البيروقراطية في الأجهزة، وتعزيز الديمقراطية المباشرة والحد من الهجرة". وهذه العودة القوية لحزب "الحرية" ليست سهلة على الإطلاق، للمرة الأولى بعد 12 سنة في صفوف المعارضة.

وسبق للحزب أن شارك في الحكم بين عامي 1986 و1987، وفي المرة الثانية بين 2000 و2005. في هذه المرحلة ثارت ثائرة أوروبا بوصول رئيس الحزب السابق يورغ هايدر، الذي قُتل بحادث سيارة عام 2008، إلى الحكم، ما استدعى استنفار القارة العجوز والتهديد بمقاطعة فيينا كفعل احتجاجي على سياسات الحزب. أما الآن فتغيرت أوروبا، حتى أن دخول اليمين القومي في ائتلاف حاكم في النمسا، لم يحرّكها، رغم أن المفاوضات في شأن الائتلاف بدأت منذ نحو شهرين.


وانعكس الخوف عند المقيمين في النمسا من أصول مهاجرة، في المسجد الكبير في فيينا حيث توافد المئات لصلاة يوم الجمعة الماضي. المصلّون في المسجد خليط من أوروبيين وبوسنيين وأتراك وعرب، وقلة من الأفارقة. وعلى الرغم من نبرة التفاؤل التي حاول القائمون على المسجد إظهارها وسط موجة اكتساح اليمين القومي للمشهد في البلاد، على اعتبار أن "المسلمين جزء أصيل من هذا البلد وتاريخه"، إلا أن القلق سيطر على الجميع بفعل وصول حزب "الحرية" إلى الحكومة.

وعلى الرغم من تطمينات الأمين العام لـ"الحرية"، وزير الداخلية الجديد، هربرت كيكل، بأن "لا شيء يستدعي الخوف"، إلا أنه أدرك أن "الخوف" سيد الموقف لدى المصلّين في المسجد وغيرهم، لحصول حزبه على 6 مناصب وزارية، ومنها الخارجية، التي سيكون لحزبه هيمنة كبيرة فيها، وهو ما ينطبق على الشأن الداخلي.

أما كورتز، فأمامه مهمة تطبيق الوعود الانتخابية، وهذه المرة بتحالف قوي مع اليمين القومي، واضعاً نصب عينيه، من بين قضايا عديدة: "تعزيز النظام الاجتماعي والأمني، وضرورة تعزيز كل ذلك بمحاربة الهجرة غير الشرعية". وعلى الرغم من ثقة الأوروبيين بكورتز، إلا أن حليفه القومي اكتسح بفرض سياساته، مدعوماً بقوة دافعة مع تقدم غيره من القوميين أوروبياً، من إسكندنافيا إلى ألمانيا إلى فرنسا إلى شرق أوروبا.

ووصف شاب مصري، على زاوية بداية شارع المشاة وسط فيينا، وهو يقلّب الكستناء والبطاطا على جمر أحمر، لـ"العربي الجديد"، الوضع بالقول إن "الوضع المستقبلي للنمسا مثل هذا الجمر، ونحن، المقيمين منذ عقود، أو الحديثي العهد بهذا البلد، سنشعر بتأثير عصر اليمين المتطرف في الأيام المقبلة".


ورأى بعض المهاجرين المصريين القدامى، وهم الجالية العربية الأكبر منذ عقود في النمسا، قبل قدوم السوريين حديثاً، أن "نتيجة الانتخابات حصلت بناء على خيار الشعب النمساوي"، معتبرين أنه "لن يحدث كثير من تنفيذ الوعود الانتخابية". غير أن البعض ممّن هم على احتكاك بالمستويين الإعلامي والسياسي ـ الحزبي، رأوا أن "تغيّرات دراماتيكية بدأت في الحالة النمساوية والأوروبية، إذ لا يمكنك الذهاب إلى انتخابات تعد فيها الشعب بتغيير سياسات الهجرة واللجوء، وبشكل عام القوانين الداخلية، ولا تنفذها".

كما أنه وفقاً لتعبيرات المتابع في الحزب الاجتماعي الديمقراطي، الفلسطيني محمد مصطفى، فإن "تغيرات كبيرة سنشهدها في فيينا بعد تشكيل الحكومة. بالطبع لا يمكن قراءة حصول الحزبين على نصف الأصوات (31 في المائة لحزب الشعب المحافظ و26 في المائة لحزب الحرية القومي)، وقبلها أكثر من 40 في المائة في انتخابات رئاسية 2016، رغم فوز فان در بيلين، من دون أن نتوقع تشديدات في قانون الهجرة والإقامة".
ولفت مصطفى إلى أن "مسألة الهجرة واللجوء، وخصوصاً مع استقبال البلد لحوالي 100 ألف شخص، كانت في الانتخابات التشريعية في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قضية هامة في التصويت".

انفتاح كورتز على "الحرية"، بمواقفه المتشددة من المهاجرين، عُدّ بحسب رأي كثيرين في فيينا بـ"تقارب الطرفين لوضع شعار (مضطرون للتوقف) محل التطبيق". وهو الشعار الذي رفعه كورتز بنفسه في الحملة الانتخابية التي أتت به إلى المستشارية.


بدورها، وصفت الطالبة الجامعية في فيينا آني لينتر، لـ"العربي الجديد"، الوضع المستقبلي بالقول: "كورتز تحدث كثيراً عن تغيير سياسات الهجرة، وهذه قضية حاسمة لي ولعائلتي وأصدقائي في اختيارنا التصويت له". واعترفت بأنه خاب ظنها بالاجتماعي الديمقراطي "الذي كنت أؤيده، فهو يركز، كما فعل (المستشار السابق كريستيان) كيرن، في قضايا المساواة الاجتماعية، فيما تجاهل أسئلة كثيرة عن تأثير الهجرة واللجوء وعلاقتنا بالاتحاد الأوروبي".

من الواضح أن منصب الخارجية بالنسبة لكورتز ساعده في تقديم نفسه للجمهور بخطاب "وقف تدفق اللاجئين عبر مسار البلقان"، و"تقليص المساعدة المالية للاجئين". وبدا واضحاً، بعد انهيار التحالف بين المحافظين والاجتماعي الديمقراطي، أن الفرصة (بانتخابات عامة مبكرة عن موعدها) عُدت كبيرة لليمين القومي لحصد ما حققه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

في مجال العلاقات الخارجية، ورغم وجود أحزاب معارضة في صفوف اليسار ويسار الوسط للتوجهات اليمينية القومية للائتلاف الحاكم الجديد، إلا أن هوامش المناورة صغيرة لفرملة إفرازات التوترات النمساوية - الأوروبية، وبالتحديد مع دول مجاورة باتت في هاجس التقدم اليميني. وتنبّه الألمان مبكراً، وهم الذين عاشوا أيضاً مأزق تقدم "البديل" المتشدد منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى تأثير الحكم اليميني القومي في الجارة النمسا، خشية من احتمال حصوله ولو جزئياً في برلين مستقبلاً.

فقد اهتمت "دويتشه فيلي" بالشأن النمساوي وكأنه شأن داخلي، بسبب تلك الانعكاسات والتأثيرات المتبادلة، وأجرت مقارنة بين أحزاب "الشعب" و"الحرية" و"البديل" في ألمانيا، المتحول للحزب الثالث في البرلمان الاتحادي. خشي الألمان ما سموه "سيناريو النازيين الجدد" في الدولة الجارة، وقد تحقق الأمر. خصوصاً مع شخصية ستراشي المثير للجدل بتاريخه.


في الجانب المتعلق بالاتحاد الأوروبي، ليس ثمة أسرار بأن خطاباً قومياً متطرفاً لدى الأحزاب اليمينية القومية عبر استخدام مصطلح "السيادة الوطنية" بات مسيطراً، مع اتهامات صريحة إلى "المؤسسات فوق القومية" في بروكسل بسلب "السيادة".

وبدا أن خطاب رمي المسؤولية على بروكسل سمة مشتركة، من شمال القارة إلى جنوبها، بين القوميين ومعارضي المهاجرين. وعلى الرغم من وجود أحزاب وشخصيات وحركات ذات "توجه أوروبي"، إلا أنه من المبكر حسم اتجاهات العلاقة المستقبلية بوصول "المتشككين" إلى سدة الحكم في فيينا. ومقابل ذلك ما من شك، برأي متابعي التأثير المتبادل، بالتشابه البنيوي والبرامجي بين أنصار اليمين القومي الأوروبي، الذين اجتمعوا يوم السبت الماضي في العاصمة التشيكية، براغ.

خطاب هذه القوى بالنسبة للاتحاد الأوروبي تجاوز "الانتقاد والتشكك"، ففي اجتماع "الأحزاب الشقيقة" في براغ، بدعوة من شقيقهم التشيكي حزب "الحرية والديمقراطية المباشرة"، بزعامة توميو أوكامورا، ذهبوا إلى أبعد من ذلك بالمطالبة بـ"حلّ الاتحاد الأوروبي". مع العلم أن اليمين القومي النمساوي ليس بعيداً عنهم.

والخبر السيء لساسة بروكسل أن هذه الأحزاب المنضوية في "حركة أمم وحرية أوروبا"، اعتبرت بأن "فيينا اليوم تسير في خطى متسارعة بما تشتهيه أحزاب وحركات مؤثرة من عدد من الدول الأوروبية وشخصيات يمينية نافذة مثل غيرت فيلدرز ومارين لوبان وغيرهما". وعلى الرغم من أن حزب "الحرية" النمساوي أكد بأنه "لن يكون هناك استفتاء شعبي على الخروج من الاتحاد"، إلا أن هذا الأمر غير مؤكد مستقبلاً.


دلالات