التوازن الجديد للقوى في اليمن: من يكسب الرهان؟

19 ديسمبر 2017
مستقبل الحوثيين يعتمد غالباً على نجاحهم بطمأنة الشعب(محمد حمود/الأناضول)
+ الخط -


لا تسمح التوازنات القائمة في اليمن اليوم لطرف واحد في الصراع بتحقيق حسم عسكري، وإذا لم تنشأ تحالفات جديدة تغيّر المعادلة، فإن الحرب ستطول وسيفقد الجميع القدرة على السيطرة عليها، في حال استمر التصعيد العسكري من دون ترك خيار لفرصة تفاوض جديدة باتجاه السلام، وبالتالي فإن طبيعة التحالفات الجديدة قيد التشكل وحدها يمكن أن تعطي مؤشرات باتجاه ملامح مستقبل اليمن. ويبدو أن كلاً من التحالف العسكري بقيادة السعودية وقيادات الشرعية من جهة، والحوثيين من جهة أخرى، يتسابقون من أجل إنشاء تحالفات جديدة تغيّر المعادلة القائمة في البلاد.

تحوّلات المشهد
وعلى عكس ما هو معروف عن طبيعة العلاقات القائمة على الخصومة بين دولة الإمارات وحزب "الإصلاح" (الإسلامي) في اليمن، التقى ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، برئيس "الإصلاح" محمد اليدومي وأمينه العام عبدالوهاب الآنسي، بحضور رئيسي الاستخبارات في السعودية والإمارات، ما يوحي بوجود مساعٍ سعودية إماراتية للتقارب مع "الإصلاح" أكثر باعتباره الحزب الأقوى سياسياً وعسكرياً الذي لا زال موالياً للرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، وأيضاً للتقريب بين "الإصلاح" وأحمد علي عبدالله صالح وقيادات حزب "المؤتمر الشعبي" المفترض بقاؤها على ارتباط بأحمد.

كان اللافت في اللقاء أنه حظي بتغطية إعلامية واسعة في إعلام التحالف، وأنه جرى في ظل عدم وجود هادي بالرياض، وتم الترتيب له على عجل أيضاً، ذلك أن محمد اليدومي كان مرافقاً لهادي في زيارته لتركيا، وتم استدعاؤه إلى الرياض وإعادته بطائرة خاصة لحضور اللقاء. كما أن الصفة التي سبقت اسم اليدومي كانت العقيد، باعتباره قيادياً سابقاً في جهاز الأمن السياسي اليمني، لكنه تقاعد منذ وقت طويل، وأصبحت هذه الصفة غير مستخدمة في مخاطبته بعد توليه مراكز قيادية في حزب "الإصلاح" اعتباراً من العام 1990، ثم تصعيده لرئاسة الحزب بعد وفاة رئيسه السابق عبدالله بن حسين الأحمر (2007)، وهذا مؤشر على التعامل مع الرجل لأهداف أمنية-عسكرية لا سياسية كما يبدو.

أما حزب "المؤتمر الشعبي" الذي تمتع لعقود بكونه الحزب الأكبر في اليمن، فأصبح من دون مخالب قوة تابعة له كحال جماعة الحوثيين، أو حزب "الإصلاح" الذي انخرطت عناصره في صفوف الجيش الموالي لهادي الذي تشكّل بدعم دول التحالف والسعودية تحديداً على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة. كان "المؤتمر" يعتمد على الحرس الجمهوري كقوة عسكرية مهابة لحزب حاكم، اتضح أن بقاءه كحزب موحد كان مرتبطاً ببقاء صالح على رأسه، إذ إنه حزب برامجي نفعي لا يستند إلى أيديولوجيا تمثل رابطاً بين أعضائه كحزب "الإصلاح" أو جماعة "أنصار الله" (الحوثيون).

كما يبدو أن الحوثيين  قد سيطروا فعلياً على الحرس الجمهوري أو ما تبقى منه، وأن "المؤتمر" فقد رئيسه وجناحه العسكري في وقت واحد، خصوصاً منذ مقتل قائده اللواء علي الجائفي في قصف للتحالف العام الماضي، (أصبح الحرس منضوياً تحت مسمى قوات الاحتياط بعد هيكلة هادي للجيش). لكن هذه السيطرة تمت على جزء من الحرس فقط وظل الجزء الآخر مُسرّحاً من دون مهام، ولن يتضح مصيره قبل خوض معارك جديدة قد تدور بعد تأهيل الإمارات والتحالف لأحمد علي صالح (نجل صالح وقائد الحرس السابق المقيم حالياً في الإمارات، والمشمول بالعقوبات الأممية لمعرقلي الانتقال السياسي في 2014)، وهو ما يبدو أن الإمارات تسعى إليه حالياً بالتنسيق مع السعودية.

أما جماعة الحوثيين ورغم قوتها التي ظهرت أخيراً بشكل سافر، وأصبحت المتحكم الأوحد بصنعاء، سواء نتيجة قوتها الفعلية أو نتيجة لضعف صالح، فإن مستقبل الجماعة يعتمد غالباً على نجاحها في طمأنة الشعب من مخاوف الهيمنة المطلقة، ومن التعامل العنفي مع معارضيها كما بدا من سلوكها مع قيادات حزب "المؤتمر" بملاحقتهم واعتقال الكثير منهم، وأيضاً قدرتها على مكافحة الفساد وإعادة الخدمات العامة وصرف مرتبات الموظفين كسلطة. وهذه مهمة قد تكون صعبة للغاية أمام الجماعة، ومهما نجحت فيها فإن كسبها تعاطف الشارع وقدرتها على استقطاب أكبر قدر من قيادات "المؤتمر" تظل مؤشراً على مستقبلها.

وبحكم أن إيران قد أصبحت متفرغة أكثر في الإقليم بعد انتهاء معاركها تقريباً في العراق وسورية، فإن درجة دعمها للحوثيين هي المؤشر الآخر على مستقبل الجماعة، سواء على الأرض أو في علاقاتها الخارجية، خصوصاً بعد سحب روسيا أخيراً لبعثتها الدبلوماسية من صنعاء إثر مقتل صالح. لكن فرص دعم طهران قد تتراجع في ظل توسع التحالف في الساحل الغربي كمنفذ مفترض للدعم الإيراني، وقد لا يكون الدعم السياسي والإعلامي كافياً في المرحلة المقبلة.


"المؤتمر" يرجح الكفة؟

ويظل موقف أقارب صالح وقيادات الجيش ورموزه المعنوية الموالية له، ورقة قوية في يد من يسبق للتوصل إلى صفقة معهم سواء أكان التحالف والشرعية أم الحوثيين، وإذا ظل موقف هؤلاء موحداً في أي اتجاه فإن احتمال تقسيم أعمق لحزب "المؤتمر" قد يصبح أقل تأثيراً، واحتمال إحياء ما تبقى من قوات الحرس أقوى، وبالتالي سيشكلون ترجيحاً لكفة حليفهم المنتظر وفقاً لذلك.

وهناك عامل مساعد في نجاح أقارب صالح وتماسكهم مستقبلاً، وهو موقف قيادات "المؤتمر" الباقية في صنعاء، فإمكانية مشاركتها الحوثيين في حكومة جديدة قد تشكل عائقاً أمام موقف موحّد لأقارب صالح، لأن هؤلاء هم الأداة المفترضة للعمل على الأرض. أما الأمر الحاسم الآخر فيعتمد على بنود الصفقة المبرمة، والتي يبدو أن الحوثيين يسعون إليها في صنعاء مع القيادات التي بقيت فيها، كما يسعى التحالف إليها بدوره مع أحمد علي صالح، وجاء لقاء بن سلمان وبن زايد مع قيادات "الإصلاح" في إطارها.

نزع مخالب "المؤتمر" العسكرية منذ 2012 وحتى اليوم أثر إلى حدّ كبير على قدراته كحزب في ظل تراجع العمل السياسي لصالح الصراع المسلح. وبعد تنحية علي عبدالله صالح ثم مقتله، أصبح الحزب لأول مرة منذ قيامه (عام 1982) لا يمثّل القوة الأولى في اليمن. لكن خبرة قياداته الطويلة في السلطة والعمل السياسي قد تمنحه فرصة للتعافي، كما حدث للحزب الاشتراكي اليمني بعد حرب 1994، إضافة إلى حضوره الشعبي.

وأخذاً بالاعتبار أن كفتي ميزان القوى تتمثّلان حالياً في قوات هادي ورافعتها الأساسية حزب "الإصلاح" والجيش الموالي للشرعية من جهة، وجماعة الحوثيين في الجيش واللجان الشعبية الموالية لها من جهة أخرى، فإن "المؤتمر" لا يزال قادراً على ترجيح كفة أي منهما على الأرض، لكن هذا يتطلب على الأقل إنشاء وسائل إعلام تخاطب جمهوره وتوحده وتوجهه، وتحافظ عليه حتى لا يترك فراغه الهائل للاستقطابات والتلاشي قبل التوصل إلى تسوية جديدة ضمن القوى القائمة على الأرض.

حسابات التحالفات
أصبح الحوثيون السلطة المسؤولة الوحيدة أمام الشارع في مناطق سيطرتهم بعد رحيل صالح، وفقدوا مساندة "المؤتمر" السياسية والشعبية، ولأول مرة سيكونون مضطرين للتعامل كسلطة مباشرة من دون غطاء أو حليف مع المواطنين، وهو اختبار أشد تأثيراً من اختبار المعارك العسكرية على الأرض بالنسبة لهم.

في المقابل منح غياب صالح، التحالف فرصة شق "المؤتمر" عن الحوثيين، وإذا نجح في استثمار ذلك، وضم حليفاً جديداً إلى صفه، أبعده عن الحوثيين، سيشكل ذلك عاملاً قوياً للحصول على مكاسب جديدة عسكرية وسياسية، خصوصاً للإمارات التي تتحفّظ في تعاملها مع حزب "الإصلاح"، وتصنفه كفرع لـ"الإخوان المسلمين" في اليمن لا يمكن منحه فرصة تحقيق انتصارات ضد خصومه الحوثيين حتى لا يرث فراغهم على الأرض. لكن ضم "المؤتمر" إلى التحالف قد يقلل من مخاوف الإمارات من "الإصلاح" لأنه سيكون معادلاً له وشريكاً في انتصاراته المفترضة، إن تمت.

ويبقى السؤال هل سينجح "المؤتمر" وأحمد علي صالح في تحريك جبهات قتال فشل "الإصلاح" وعلي محسن الأحمر في تحريكها لأعوام، كجبهتي نهم وميدي مثلاً، في ظل ما يقال عن منع الإمارات لـ"الإصلاح" من تحقيق انتصارات عسكرية، وتفردها (الإمارات) بسجل الانتصارات في الساحل الغربي لجيشها وعناصر "المقاومة" الجنوبية؟
ليس من السهل الإجابة عن تساؤل كهذا قبل أن تتضح ملامح التحالفات الجديدة وشروطها، وأهدافها. فهل يمكن خلق هدف مشترك للقوات الجنوبية والإمارتية مع قوات هادي و"الإصلاح"، وأين سيقف "المؤتمر" أو بقاياه؟ هذا ما سيغير المعادلة على الأرض بوضوح إذا حدث.

لكن التحالفات لا تحدث من دون ضحايا وإبعادات وإحداث فراغات قوى يتم ملؤها بها. وإذا كان المحمدان (بن سلمان وبن زايد) قد حاولا التقارب مع حزب "الإصلاح"، وربما إحداث تقارب بينه وبين القوى التي تركها صالح، رغم محدودية المعلومات حول ذلك، فالأمر يبقى مرتبطاً بمصير هادي، وموقعه في موازين القوى التي سينتجها التحالف الجديد، إذا حدث فعلاً، خصوصاً أنه لم يعد لهادي من قوة يستند إليها سوى "الإصلاح" بعد سيطرة الإمارات و"الحراك الجنوبي" الموالي لها والمناهض لهادي على القرار هناك، وقد يكون ضحية تحالف من هذا النوع.

ورغم كل المعطيات والشواهد، يظل الجمع بين هادي وعلي محسن الأحمر و"الإصلاح"، ومعهم القوى التي تركها صالح، أمراً صعباً للغاية، لكن طبيعة السياسة والتغيرات التي حدثت في صنعاء أخيراً قد تجعل ذلك ممكناً إذا توفرت الإرادات لدى هؤلاء ولدى التحالف بقطبيه (الرياض وأبوظبي). أما الإمكانات فهي متروكة للتحالف، وليس لدى "الإصلاح" ولا هادي ولا محسن الأحمر ولا أقارب صالح وقيادات "المؤتمر" ما يجعل أياً منهم يتحكم في حجمها إلا بمرونة هؤلاء في التعامل مع بعضهم، ومدى اتفاقهم على هدف مشترك.

في كل الأحوال فإن أي تحالف قوى قد يغير الموازين على الأرض سيكون مؤقتاً وتكتيكياً في حدود هدف واضح، في ظل مخاطر حدوث خلافات منتصف الطريق. كما أن القضاء على الحوثيين، كما يطرح البعض، أمر خارج المنطق في الوقت الراهن، إلا في حال اعتماد سياسة توسيع الحرب زمنياً ومكانياً، وهذا سيكون أمراً مدمراً لليمن مهما كانت نتائجه. وأقصى ما يمكن تحقيقه بالقوة حالياً هو إجبار الحوثيين على اتفاق سلام بشروط أدنى وموقف أضعف، مع بقائهم كطرف شريك ليس متحكماً أو منفرداً في الحياة السياسية لليمن على المدى المنظور والمفتوح على كل الاحتمالات السيئة، لأن السلام أصبح مفردة غير مرئية في المشهد اليمني الراهن.