حرب مراكز الأبحاث الإسرائيلية: اليمين يريد تقديرات تعزّز توجهاته

04 نوفمبر 2017
يعد درور (يمين نتنياهو) أحد باحثي المركز(جاكلين مارتن/فرانس برس)
+ الخط -
لا تفتقر إسرائيل إلى مراكز أبحاث، سواء كانت أكاديمية صرف من حيث غطائها الرسمي، أم مراكز أبحاث مستقلة رسمياً، إلا أنها متعاطفة مع تيار سياسي دون غيره، وهي حالة معروفة في الدول الغربية، لكّنها لم تكن سائدة في إسرائيل أو على الأقل ليس بالشكل الحالي اليوم.

فحتى أواخر السبعينيات، وفي السنوات الأولى التي أعقبت صعود الليكود للحكم عام 1977 بعد ثلاثين عاماً من إقامة دولة الاحتلال، سيطر التيار المركزي في اليسار الإسرائيلي التقليدي، أي الحركة العمالية ونخبها الأكاديمية منها والعسكرية، على أغلب مراكز الأبحاث في إسرائيل، ولا سيما أن هذه النخب، بما فيها الأكاديمية، وصلت بالتأسيس على تاريخها العسكري وخدمتها في الجيش، مثل البروفيسور الراحل الجنرال احتياط يهوشفاط هركابي، الذي كان رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان".

وحتى بعد صعود الليكود، وفي العقد الأول من "الانقلاب" السياسي، ظلّت سيطرة النخب القديمة بهالتها العسكرية وتاريخها في "تأسيس الدولة"، على مراكز الأبحاث التي كانت توصف بأنها مستقلة ورسمية، لا تبدي أية توجهات سياسية حزبية، مع احتفاظ الأحزاب بمراكز أقلّ تواضعاً كانت محسوبة على اليسار والوسط، مثل "المركز اليهودي العربي في بيت بيرل، والذي يحمل اسم بيرل كتسينلسون، أحد آباء الصهيونية العمالية في إسرائيل، والذي اختصّ أساساً بمتابعة ما يحدث وسط فلسطينيي الداخل، واعتاد نشر دورية عن آخر التطورات في العالم العربي تحت مسمى "اعرف المنطقة". وأصدر هذا المركز في الثمانينيات شهرية تحت اسم "لقاء مفغاش"، حاول جعلها منبراً للتطبيع مع الأدباء والكتاب العرب بالركون إلى اتفاق السلام. كما أسس حزب مبام (اليوم جزء من حركة ميرتس)، مركزاً مماثلاً في "جفعات حبيبا"، أطلق عليه مرةً اسم مركز أبحاث "أفرو آسيوية"، ومرةً أخرى مركز أبحاث السلام، على اسم عبد العزيز الزعبي. وكانت لليمين الإسرائيلي مراكز صغيرة مشابهة تختصّ بالتأريخ للحركة التنقيحية ومؤسسها زئيف جابوتينسكي، الذي أسّس لاحقاً مركزاً لتخليد ميراث بيغن.

لكن هذه المراكز الحزبية لم تستطع أن تغطي على أهمية دور مراكز أبحاث الجامعات التي كانت تدور في فلك الحركة العمالية، ولم يكن بمقدور أساتذتها من اليمين أن يصرحوا بمواقفهم اليمينية خوفاً من سطوة الحكم العمالي وإقصائهم عن المشهد العام. وقد كان هذا الخوف والتحيّز السياسي ضدهم مثلاً، أحد أسباب قرار والد نتنياهو، بن تسيون نتنياهو، وهو مؤرّخ متخصّص في طرد اليهود من الأندلس وفي عمليات محاكم التفتيش، بالهجرة إلى الولايات المتحدة، مع أنه كان من مؤلفي الموسوعة العبرية.


ومناسبة الحديث عن هذا الموضوع هو ما ذكرته صحيفة "هآرتس"، أمس الجمعة، عن الإعلان، يوم الاثنين المقبل، عن تأسيس مركز دراسات استراتيجية جديد يكون على رأسه البروفيسور إفرايم عنبار، مع تعيين الجنرال احتياط يعقوف عامي درور (مستشار نتنياهو الأسبق لشؤون الأمن القومي)، باحثاً بارزاً في المركز الجديد. وسيطلق على المركز اسم "معهد القدس للأبحاث الاستراتيجية"، إذ سيعمل فيه إلى جانب درور العقيد احتياط سابقاً من شعبة الاستخبارات العسكرية عيران ليرمان، والمختصّ في قضايا الصواريخ عوزي روبين.

ولكون الأسماء المذكورة كانت حتى فترة قصيرة محسوبة على مركز الأبحاث الاستراتيجية "بيغن سادات" التابع لجامعة بار - إيلان المحسوبة على التيار الديني الصهيوني، فإن هذه الخطوة تعكس عملياً، لوجود معاهد استراتيجية يمينية أخرى، قراراً لدى اليمين الإسرائيلي ممثلاً بنتنياهو، بمواصلة عملية السيطرة على المشهد الإسرائيلي الثقافي والسياسي والاستراتيجي، لتوفير أدوات ومراكز بحثية "وازنة" يمكن الركون إليها للتبرير والترويج لمواقف وسياسات جديدة تكسر قالب التوصيات المألوفة التي تصدر عن مراكز التفكير الاستراتيجية، وأشهرها في إسرائيل اليوم مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب ويديره الجنرال احتياط عاموس يادلين (رئيس سابق لشعبة الاستخبارات العسكرية)، ويعمل فيه أيضاً وزيران سابقان من الليكود هما غدعون ساعر، ووزير الأمن الأسبق موشيه يعالون. أمّا المركز الآخر، فهو المركز المتعدد المجالات في "هرتسليا" والمشهور عربياً وعالمياً بفعل المؤتمر السنوي الذي يعقد فيه تحت مسمى "مؤتمر هرتسليا للمناعة القومية".

ومع أن المركز الأخير انطلق أصلاً في أوّل مؤتمر له في العام الأخير من ولاية حكومة إيهود براك، إلّا أنه كان محسوباً بفعل تأسيسه قبل ذلك بسنوات، كانتصار لليمين الإسرائيلي الذي تمكّن في عهد الليكود في سنوات سابقة من تطبيق مشروع الخصخصة واللبرلة بداية في سوق التعليم العالي، وتأسيس جامعات وكليات خاصة وكسر احتكار الدولة. وعلى الرغم من أن المركز في سنواته الأولى حمل أفكار اليمين الإسرائيلي، إلا أنّه تراجع مع الوقت ليصل إلى قلب الإجماع الإسرائيلي العام، إذ عمل في السنوات الأخيرة على تكريس مقولات وجوب حلّ الدولتين لتفادي الخطر الديموغرافي، وهي كانت مقولة منذ مؤتمره الأول، في سياق تعامل الدولة مع الفلسطينيين في الداخل باعتبارهم خطراً ديموغرافياً داخلياً.


ومع تحوّل مركز هرتسليا إلى مؤيّد لحلّ الدولتين، مع عقيدة تكرّس التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة، والتماهي مع مشاريع مثل خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش ورسالته لأرييل شارون، والقبول فيه في المؤسسة الأميركية الأكاديمية ومراكز التقدير الاستراتيجي، من جهة، وتكريس التوجه نفسه خاصة لجهة التحذير من خطر حلّ الدولة الواحدة لدى مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب من جهة أخرى، زادت حاجة اليمين الإسرائيلي في السنوات الأخيرة إلى مراكز بديلة تقدّم أوراقاً بحثية تدعم خطه بصيغته الجديدة. وعلى رأس هذه الصيغ مقولات رفض حلّ الدولتين، وإبراز الخطر الوجودي لهذا الحل على الدولة اليهودية.

وسطع نجم المركز أيضاً بفعل التمويل الهائل له من القطاع الخاص ومراكز أميركية ورجال أعمال أميركيين يهود، أمثال رون لاودر، الذي لعب دوراً في المفاوضات السورية الإسرائيلية. في المقابل، خبا نجم مراكز أبحاث تقليدية وتراجعت، مثل مركز "موشيه ديان" في تل أبيب، ومركز الدراسات الاستراتيجية "يافه"، ومركز "هاري ترومان" في القدس المحتلة.

وفي هذا الإطار، يمكن القول إن تأسيس وكيل وزارة الخارجية الأسبق دوري غولد، قبل أعوام عدة، مركز "يروشلايم" لأبحاث الدولة والمجتمع، ومركز الاستراتيجية الصهيونية الذي يديره أيضاً مستشار سابق لنتنياهو هو يوعز هندل، كانا خطوة في هذا الاتجاه. لكن المركزين بقيا غير قادرين على تحقيق الاختراق المأمول منه للوصول لمرحلة أو مستوى مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب ولا المركز المتعدد المجالات في "هرتسليا".

من هنا، تأتي على ما يبدو أهمية المركز الجديد، وهوية الذين تم اختيارهم والذين يمكنهم أن يعطوا زخماً للمركز ودراساته وأبحاثه. ويشكل يعقوف عامي درور، في هذا السياق، المثال الأكبر، باعتباره جنرالاً سابقاً، وهو أيضاً خريج شعبة الاستخبارات التي تعتبر في إسرائيل الأكثر قدرة على وضع التقديرات الاستراتيجية "الموضوعية". ويعني هذا أن تقديرات ستصدر عن المركز الجديد، ستحمل الصبغة الموضوعية نفسها، لأن عامي درور، خلافاً لدوري غولد، يملك بطاقة الدخول الوحيدة للتبرئة من "الميول السياسية" وهي خدمته في شعبة الاستخبارات. ويشاطره في هذه البطاقة في المركز الجديد عيران ليرمان، وهو الآخر خريج شعبة الاستخبارات العسكرية.

وأقرّ عامي درور في حديث لصحيفة "هآرتس"، بأنه على الرغم من أن اليمين الإسرائيلي يمسك بزمام الحكم في إسرائيل منذ قرابة أربعة عقود، إلا أن تأثير معاهد ومراكز التفكير الاستراتيجية المحسوبة على اليمين ضعيف للغاية ويكاد يكون معدوماً. كما اعترف عامي درور بأن تأسيس المعهد الجديد "تطور يمكن مباركته، إذ يمكن لهذا المعهد أن يشكّل نقطة ثقل مضادة لأبرز مراكز التفكير الاستراتيجي القائمة". فهو معهد أبحاث الأمن القومي الذي يعكس، برأي عامي درور، مواقف سياسية وآنية تمثّل الوسط واليسار، على الرغم من وجود شخصيات مثل موشيه يعالون وغدعون ساعر.

واعترف عامي درور صراحة بأنه ورفاقه في المركز الجديد يعتقدون أن إسرائيل لن تقبل في المستقبل المنظور في المنطقة بترحاب، متوقّعاً "صراعاً متواصلاً يكون لنا فيه متسع للمناورة تكتيكياً، وأيضاً في سياق منظومة العلاقات السياسية والتنازلات التي قد نضطر إليها. هذه هي نقطة الانطلاق التي علينا الاستعداد لها".

ومع أنه تحدّث عن الاستعداد لتقديم تنازلات معينة، إلا أنه أوضح أنه في السياق الفلسطيني، فإن "الحديث لا يدور عن سلام بين ألمانيا وفرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، فالظروف مغايرة كلياً"، وبالتالي تراوده "شكوك كبيرة جداً في ما يتعلق بفرص التسوية وآفاقها مع الفلسطينيين". وهو يقول في المقابل، إنه يعارض توسيع المستوطنات القائمة "للإبقاء على نافذة لمفاوضات مستقبلية".

عملياً يمكن القول ختاماً إن المركز الجديد يهدف إلى توفير بنية أكاديمية ذات ثقل ومصداقية أمنية وعسكرية يمكن طرحها أمام الجمهور كبديل للمواقف التقليدية التي تطرحها النخب الحالية المحسوبة على الوسط واليسار بل وحتى اليمين التقليدي إذا جاز التعبير. وهي مواقف تطرحها قيادات عسكرية حالية وسابقة تبلور وعيها الأمني والسياسي وفق المدرسة العمالية التي تقوم على أساس شرعية الاعتبارات الأمنية والعسكرية لبقاء الاحتلال، أو لانسحاب محدود، بل وحتى كيان فلسطيني "أقل من دولة"، وفق تعبير رابين في آخر خطاب له في الكنيست في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1995 قبل شهر من اغتياله، بالاعتماد على "الحق الإلهي" أو التوراتي في "أرض إسرائيل الكاملة".