قد يشكّل قرار الحزب الاشتراكي الديمقراطي استعداده للمشاركة في الائتلاف الحكومي، وإن بشروط، انعطافة في مسار الحل السياسي في ألمانيا، بعد لقاء زعيم الحزب، مارتن شولتز، بالرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، أول من أمس، وهو الذي يخوض مشاورات بهذا الشأن بعدما كان قد تعذر التوافق خلال المحادثات التمهيدية التي قادتها المستشارة أنجيلا ميركل، على مدى شهر، بين حزبها الاتحاد المسيحي والليبرالي الحر والخضر، للتوصل إلى ما يعرف بائتلاف "جامايكا".
وأتى هذا التفاؤل نتيجة إعلان قيادة الاشتراكي استعدادها للتحاور، وذلك بعد اجتماع للحزب ليل الخميس في برلين، استمر ثماني ساعات، بقيادة شولتز، وإشارتها إلى أنها بانتظار ما ستؤول اليه المشاورات والإجراءات الأخرى التي سيقترحها شتاينماير، الذي عاد ودعا، أمس الجمعة، زعيمة الاتحاد المسيحي وزعيم الاشتراكي إلى اجتماع ثلاثي يعقد الإثنين المقبل في القصر الرئاسي "بيلفيو"، لبحث أفق تشكيل ائتلاف حكومي يخرج ألمانيا من أزمتها.
وبالعودة إلى لقاء الخميس في صفوف الاشتراكي، قال أمينه العام، هوبيرتوس هيل، إن "مداولات حزبه كانت واقعية وقوية، وهناك اقتناع راسخ بأنه من الضروري التحدث مع الاتحاد المسيحي بزعامة ميركل، وأن حزبه لا يخجل من ذلك". وأوضح أن "الائتلاف بين الأسود والأحمر (ألوان الحزبين) لم يعد مستبعداً"، بعدما كان شولتز قد وعد، قبل اجتماعه مع شتاينماير، بدور بناء لحزبه وأن الاشتراكي يدرك تماماً مسؤولياته في الوضع الحالي الصعب. وقال وزير العدل الاشتراكي، هايكو ماس، إن الأمر يعود إلى لجان الحزب، التي من شأنها أن تقرر ما إذا كانت تريد تصحيح الموقف السابق، واعتماد محادثات مع الاتحاد المسيحي. وذكرت تقارير إعلامية أن شخصيات قيادية اشتراكية سابقة، بينها زعماء سابقون وفي البوندستاغ، بينهم فولفغانغ تيرس وغازين شوان، بعثوا برسالة مفتوحة، اعتبرت بمثابة توصية إلى شولتز ورئيسة الكتلة البرلمانية للحزب، أندريا ناهليس، للسعي للتحالف مع الاتحاد المسيحي والخضر، مؤكدين أن مثل هذا الحل "طريق خلاق" بعد فشل ائتلاف "جامايكا"، كما جاء في تقرير لصحيفة "برلينر تسايتونغ".
وتظهر المعطيات المتوفرة أن قرار الحزب الاشتراكي المشاركة في الائتلاف مع الخضر والاتحاد، أو ما أطلق عليه اسم التحالف الكيني (ألوان الأحزاب الثلاثة ترمز إلى علم كينيا) سيكون بشروطه، وبعد حصوله على إجابات مشتركة ومقنعة بشأن مواضيع تعزيز العدالة الاجتماعية والدور الأوروبي، وذلك مخافة أن يقع الاشتراكي في الفخ مع ناخبيه مستقبلاً، متوقفين عند ما حل بالليبرالي الحر بعدما شارك في ائتلاف مع حزب ميركل في العام 2009، ولم يتمكن من إجراء إصلاحات ضريبية فعلية، تسببت له لاحقاً بانتكاسة في انتخابات 2013، إذ لم يحصل على نسبة 5 في المائة وبقي خارج البوندستاغ. وأكثر من ذلك، فإن الأوساط السياسية والإعلامية تتحدث عن أن ما قام به الليبرالي الحر بانسحابه من محادثات "جامايكا" التمهيدية نهاية الأسبوع الماضي، كان ردة فعل بوجه المستشارة لإفشال مهمتها، وبعدما أيقن أنه لم يتمكن من الاستحواذ على وزارة المالية، أحد أهم الوزارات الاتحادية، وهو مطلب ملح لحزبه، وهي تهم الليبرالي الحر خصوصاً كون مناصريه من أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال، وهو يمنّي النفس بإرضائهم من خلال العمل على تخفيضات ضريبية، بينها إلغاء ضريبة إعادة إعمار شرق ألمانيا، وهذا ما يخدم الأغنياء والميسورين. ويتوقف الجميع أمام ما قاله زعيم الحزب، كريستيان ليندنر، بعيد انسحابه من المفاوضات ليل الأحد الماضي، إذ أشار إلى أن حزبه كان سيرغم على التخلي عن مبادئه وعن ناخبيه لو تبنوا سياسة غير مقنعة بالنسبة لهم.
وفي موازاة ذلك، يتعرض زعيم الاشتراكي لضغوط حزبية داخلية كبيرة، وهو الذي استبعد مراراً ائتلافاً كبيراً مع الاتحاد المسيحي الديمقراطي، في حين أن هناك عدم رغبة من قبل الكثيرين من أعضاء الحزب لإجراء انتخابات جديدة، علماً بأنه سيُعقد بعد نحو أسبوعين مؤتمر للحزب في برلين سيستمر ثلاثة أيام، يمكن بعدها الحديث عن خارطة طريق ومحادثات مفتوحة حول تشكيل ائتلاف حكومي لصالح البلاد. وفي هذا الإطار، يرى مراقبون أنه لا يمكن تصور أن يستمر شولتز على رفضه، خوفاً من الآثار التي يمكن أن تترتب على احتمال إعادة الانتخابات، إذ إنه وبحسب رأي الصحافي الألماني فولكر شافرانكه وضع في موقف صعب بين الحجب والخسارة أو خوض الائتلاف والخسارة، وكأن عليه الاختيار بين الطاعون والكوليرا، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون لإعادة الانتخابات مترتبات قد تهدد شولتز بفقدان نفوذه، بعدما وصل الأمر لأن يعارضه جناحان من ثلاثة أجنحة في صفوف الحزب. في المقابل، هناك رأي يقول إنه ينبغي التفكير ملياً قبل الإقدام على هذه الخطوة، لأن مشاركة الاشتراكي في الائتلاف ستكون التجربة الثالثة له خلال أربع ولايات لميركل، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تقوية حزب البديل اليميني الشعبوي المعارض. وهذا ما يسوقه الجناح اليساري في الحزب، حتى أنه يروج أيضا لحكومة أقلية، لعدم إجبار حزبه على الدخول في شراكة جديدة مع ميركل. وعليه فإن المناورات التي يقوم بها شولتز من الممكن أن تسقط، بحيث لم يعد لديه سوى الخيارات "السيئة"، وهذا ما سيضر بمصداقيته. ويبقى عليه لإنقاذ نفسه عرض المبررات أمام المندوبين خلال مؤتمر الحزب الذي سيعقد خلال أسبوعين وسرد الأسباب التي أدت إلى تراجعه عن رفض الائتلاف الكبير وإنقاذ البلاد من أزمتها.
في موازاة ذلك، يلفت مطلعون أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وإذا ما رفض تكرار اعتماد الائتلاف الكبير "غروكو"، فإن احتمال إعادة الانتخابات كبير جداً مع رفض ميركل لحكومة أقلية، وبالتالي فإن عليه البحث عن زعيم جديد للحزب أولاً، لأنه من المستحيل أن يتنافس المرشح الفاشل مرة أخرى مع ميركل. وهنا يطرح اسم عمدة هامبورغ، أولاف شولز كبديل، وبالتالي الخسارة واقعة على شولتز. ويعتبر هؤلاء أن هناك مفارقة يجب ذكرها، وهي أن شولتز نفسه كان قد أكد للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، دعم مقترحاته لإصلاح الاتحاد الأوروبي، في حين أنه إذا أصر على موقفه فانه يضر بألمانيا، الشريك الأساسي لفرنسا، في العمل على إعادة إصلاح أوروبا وهذا مطلبه. وذكرت معلومات أن الحزب الاشتراكي يناقش أيضاً، ليس فقط تجديد الائتلاف الكبير مع الاتحاد المسيحي "غروكو"، ولكن أيضاً إمكانية التسامح في قرارات مع حكومة أقلية بين الاتحاد المسيحي والخضر بقيادة ميركل. وبانتظار ما ستؤول إليه المباحثات، يشدد خبراء في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية الألمانية على أن البلاد باتت بحاجة ملحة إلى إيجاد مخرج فعلي وحقيقي وغير مؤقت، وممارسات تجنب البلاد أخطر انزلاق إلى فترة من عدم الاستقرار، بعد أن وجدت الأحزاب نفسها في وضع غير مسبوق منذ عقود.