صدمت المجزرة التي نفذها تنظيم لم يعلن عنه حتى مساء أمس السبت، ووقعت الجمعة، ضد قوات الشرطة المصرية في منطقة الواحات البحرية جنوب غرب محافظة الجيزة، مصر كلها، شعبياً ورسمياً، بعدما قضى 58 من ضباط وأفراد الشرطة، من بينهم قيادات في جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة) ومباحث الأمن العام وعناصر التدخل السريع.
وتعد العملية الأضخم منذ بدء استهداف قوات الشرطة بعد أحداث الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، بعدما استهدفت مجموعة مسلحة مأمورية شرطية في طريق الواحات، بناءً على إخبارية وردت إلى قطاع الأمن الوطني بوجود عناصر تابعة لتنظيم "داعش" في تلك المنطقة، ما أدى إلى مقتل 11 ضابطاً من قوات العمليات الخاصة، و7 آخرين من الأمن الوطني. وزاد من حدة الفاجعة، تداول عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي تسريبات صوتية من أجهزة اللاسلكي الخاص بأفراد المأمورية، يستغيثون فيه بقيادتهم لإنقاذهم، والدفع بإمدادات بسبب شدة القتال، فيما استغاث أحد الأفراد لقيادته قائلاً "العيال ورانا... حد يلحقنا يا باشا... الإرسال بيروح".
وروى مصدر أمني، لـ"العربي الجديد"، بالتفاصيل ما توصلت إليه مباحث الأمن الوطني والأمن العام من معلومات حتى مساء السبت، إذ بدأت العملية فعلياً يوم السبت 14 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، حين تلقى جهاز الأمن الوطني معلومات وبلاغات من عناصر سرية استقت معلوماتها من "مصادر تكفيرية"، مفادها أن بعض خلايا حركة "حسم"، والتي كان ينتمي أعضاؤها في السابق إلى جماعة الإخوان المسلمين، استوطنت منطقة جبلية بين الكيلو 132 والكيلو 135 على طريق الواحات، المؤدي من أهرامات الجيزة إلى الواحات البحرية. وخلال الأسبوع الماضي، حصل فريق من الأمن الوطني على معلومات مجهولة المصادر، تؤيد ما تلقاه من بيانات، واستقر الأمر على أن المنطقة قد يكون فيها معسكر صغير لتدريب عناصر "حسم"، يشبه المعسكر الذي تم تدميره بعملية مشتركة للجيش والشرطة، في 22 يوليو/ تموز الماضي، في صحراء الفيوم جنوب الجيزة، ما أسفر عن مصرع 8 من عناصر الحركة. وعلى أساس هذا التصور، جرى إعداد وتجهيز قوة الشرطة التي ستقوم بالعملية. فلم تطلب الشرطة الاستعانة بالجيش، ظناً منها بمحدودية قوة المعسكر المطلوب مهاجمته، واكتفت بإبلاغ إدارة الشرطة العسكرية بتحركها المقرر في هذه المنطقة، على أمل أن تكون العملية "محدودة ومثمرة"، وتم اختيار التوقيت بناء على معلومات "الشرطة السرية". وأوضح المصدر أن اصطحاب ضباط الأمن الوطني لا يتم إلّا في العمليات المستهدف فيها القبض على المتهمين، ما يكشف أن تصورات الشرطة عن العملية كانت متواضعة، وفي غير محلها تماماً، وأن أقصى ما كان في حسبان الأمن الوطني هو أن تكون المنطقة المستهدفة مفخخة، كما حدث من قبل في الحادث المعروف إعلامياً بـ"شقة الهرم"، والذي شهد تفجير مقر مزعوم للحركة عن بُعد عقب وصول قوات الشرطة إليها ببلاغ للتمويه.
لكن ما حدث بعد صلاة الجمعة كان مختلفاً تماماً عن التصورات، إذ فوجئت القوات المهاجمة بعد دخولها المنطقة بأنها في مصيدة حقيقية نصبها التنظيم الإرهابي، إذ عوجلوا بوابل من النيران من كل ناحية من أعلى التلال المحيطة بالمنطقة بالقرب من وادي الحيتان، باستخدام أسلحة آلية وقنابل يدوية وعدد غير معروف من المدافع الآلية "بيكا" وقذائف "أر بي جي" ومدافع غرينوف. وأوضح المصدر أن الأسلحة التي أبلغ بعض الضباط الناجين من الحادث عن استخدامها "لا تملكها بالتأكيد خلايا حركة صغيرة"، بل سبق استخدام بعضها في عمليتين إرهابيتين كبيرتين، الأولى التي نفذها تنظيم "أنصار بيت المقدس"، قبل مبايعته تنظيم "داعش" في يوليو/ تموز 2014 ضد قوات حرس الحدود في منطقة الفرافرة بالوادي الجديد، والثانية التي نفذها تنظيم "جنود الخلافة"، التابع لتنظيم "ولاية سيناء"، في يناير/ كانون الثاني الماضي. مع ملاحظة أن العمليتين وقعتا في أماكن ليست بالبعيدة جغرافياً عن العملية الأخيرة، فهي جميعها مناطق في الصحراء الغربية، وعلى الطرق المؤدية إلى مطروح وليبيا. ما جرى بعد ذلك على مدار 7 ساعات ليس معروفاً بالتفصيل للأجهزة الأمنية حتى الآن، إلّا أن المعلومات المستقاة من الضباط المصابين تشير إلى أن التسليح عالي الجودة والتمركز الدفاعي للإرهابيين تسبب في إبادة شبه كاملة للفرقة المهاجمة ثم فريق الإمدادات، وأدى إلى مقتل 58 ضابطاً وشرطياً، وأن عدداً من المجندين تم أسرهم، وبعضهم لم يتم العثور على جثثهم حتى الآن، ما يطرح احتمال أخذ مجندين كرهائن، فضلاً عن اختفاء عدد كبير من الأسلحة النظامية وأدوات الاتصال التي كانت بصحبة الشرطة، إلّا أن المعلومات لم تتوصل إلى هوية الإرهابيين، وهو أمر يمثل "صداعاً" في رأس الأجهزة الأمنية، والتي تترقب إعلان أي مجموعة مسؤوليتها عما حدث.
وكتب عضو البرلمان المصري، المقرب من أجهزة الاستخبارات، مصطفى بكري، على حسابه على موقع "تويتر"، أمس السبت، أن "لديه معلومات تفيد بخطف بعض الضباط والجنود، ووجودهم بحوزة (الإرهابيين) في الوقت الراهن"، مطالباً قوات الجيش والشرطة بمطاردة بقايا العناصر المسلحة في جوف صحراء الواحات، خصوصاً أن أعداد ضحايا الأمن ليست قليلة. وأضاف أن "الحملة الأمنية فوجئت بوجود معسكر كامل للإرهابيين، لا يقل عدد من فيه عن 100 مسلح، يتولى قيادتهم ضابط الصاعقة السابق في الجيش المصري، هشام عيسوي، والذي كون هذه المجموعة من عناصر تتبع تنظيم داعش، بعد تواصله معهم في ليبيا، ويعاونه أربعة ضباط سابقين في وزارة الداخلية المصرية"، وفق روايته. وبحلول منتصف الليل، وبعد اتصالات بين الشرطة والجيش، تحركت طائرات استطلاع إلى المنطقة على ارتفاع كبير تحسباً لامتلاك الإرهابيين مدافع مضادة للطائرات. وكانت نتيجة الاستطلاع إرجاء إرسال فرق التمشيط إلى المنطقة حتى فجر اليوم التالي (أمس السبت) تحسباً لقيام الإرهابيين بتفخيخ المنطقة بالكامل، فانتظرت قوات الشرطة والجيش حتى الساعة الرابعة فجراً لتتحرك إلى المنطقة، لتجد بالفعل المنطقة وقد تم تفخيخها بالكامل بواسطة ألغام أرضية، ما أعاق عملية التدخل البري لساعات عدة، فاستعانت القوات مجدداً بالطيران للاستطلاع ونقل الجثث والمصابين.
أما الروايات الرسمية التي تسرّبت عبر وسائل الإعلام المصرية، فقد أفادت بأنه أثناء مطاردة "مجموعة إرهابية" غرزت مدرعات الشرطة في الرمال، ما أدى إلى مقتل 15 شرطياً، من بينهم العميد إبراهيم شلتوت والنقيب أحمد زيدان، مشيرة إلى غلق مداخل ومخارج المنطقة بالكامل، نظراً لأن العناصر المستهدفة تعد شديدة الخطورة. وحسب المصادر الرسمية، فقد وقعت اشتباكات مسلحة بين الشرطة المصرية وفصائل مسلحة من تنظيم "داعش" في منطقة الواحات في الجيزة، بعدما وصلت معلومات إلى جهاز الأمن الوطني باختراق عناصر مسلحة تابعة للتنظيم صحراء الوادي الجديد للمرة الأولى منذ 30 يونيو/ حزيران 2013 مدعومين بأنواع مختلفة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، بإجمالي 60 عنصراً مسلحاً. وتابعت المصادر بأن تشكيلات من القوات الخاصة لوزارة الداخلية توجهت بعد عصر أول من أمس إلى مكان البلاغ، وبمجرد الاقتراب بادرتهم العناصر المسلحة بوابل من الرصاص من أسلحة خفيفة وثقيلة، ما أدى إلى مقتل 14 من الشرطة، و18 من العناصر المسلحة التكفيرية، واستمر تبادل إطلاق النار لمدة 8 ساعات متواصلة، ما دفع للاستعانة بطوافات "الأباتشي" التابعة للجيش، وإغلاق وزارة الداخلية للمنافذ الحدودية لمحافظات الوادي الجديد والفيوم والجيزة.
لكن مصادر رفيعة المستوى في وزارة الداخلية المصرية كشفت، لـ"العربي الجديد"، أن المجزرة حصلت نتيجة اختراق حدث للأجهزة الأمنية بواسطة عملاء تابعين لتنظيم "داعش". وعلى الرغم من أن تجهيز المأمورية بدأ منذ ثلاثة أيام، إلا أن موعد ساعة الصفر اقتصر على دائرة ضيقة في مديرية الأمن، وجهاز الأمن الوطني، بحسب المصادر الأمنية. وأوضحت المصادر أن ضعف شبكات الاتصال حالت دون التواصل مع القوات. ونقلت المصادر الأمنية رواية أخرى مغايرة للرواية الرسمية، لافتة إلى أن المجموعة الإرهابية نجحت في اختراق الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية، عبر عملاء لهم داخل الوزارة، وإبلاغ هؤلاء العملاء للأمن الوطني عن مجموعة إرهابية اخترقت الحدود الغربية المصرية الليبية، ووصلت إلى حدود محافظة الجيزة جنوب القاهرة، وأنها تتمركز في منطقة الواحات. وأضافت أن مأمورية الشرطة، التي كانت مكونة من نخبة ضباط "العمليات الخاصة" يرافقهم ضباط من جهاز الأمن الوطني، تم قتلهم جميعاً على يد المجموعة المسلحة التابعة إلى "داعش"، بعد أن أجبروهم على خلع ملابسهم، وجردوهم من أسلحتهم. وأكدت المصادر أن الأمر لم ينته عن ذلك الحد، بل إن المجموعة المسلحة استطاعت أن تنصب كميناً آخر لفرقة الدعم التي هرعت لإنقاذ مأمورية "العمليات الخاصة"، وتصفيتهم جميعاً أيضاً.
وفجّر التعامل الإعلامي في مصر، سواء الرسمي، أو الخاص (مملوك في معظمه لأجهزة الاستخبارات)، حالة من الغضب لدى المصريين، نتيجة تجاهل الحادث، وعدم الإشارة إليه، إذ استمرت القنوات في خريطتها البرامجية، وعرض برامج المنوعات والأغاني، في وقت كانت مواقع التواصل الاجتماعي تعجّ بأعداد الضحايا والقتلى من جهاز الشرطة. وبحسب المصادر، فإن هناك حالة كبيرة من الغضب في صفوف الضباط في مديرية أمن الجيزة بسبب التعامل مع الحادث، سواء على المستوى الإعلامي، وتجاهله من جانب القيادة السياسية للبلاد، وعدم إعلان حالة الحداد الرسمي، على الرغم من أنه وقع عند الواحدة من ظهر أول من أمس، في حين لم يخرج أي موقف رسمي من الدولة حتى صباح السبت. وتشهد منطقة الواحات البحرية نشاطاً للجماعات المسلحة من وقت إلى آخر، لكنه لم يصل إلى هذه الدرجة في أي وقت سابق. يذكر أن طريق الواحات قد شهد، في سبتمبر/ أيلول 2015، مقتل عدد من السياح المكسيكيين في هجوم شنته عليهم، عن طريق الخطأ، القوات المصرية. وأسفر الحادث الذي وقع في منطقة الواحات غربي مصر عن مقتل 12 شخصاً. وقالت السلطات المصرية من جانبها إن فوج السائحين استهدف لأنه لم يبلغ الجيش بأنه ينوي التوغل في منطقة محظورة تشهد نشاطاً للمسلحين. ولم تكن حادثة السياح المكسيكيين هي الأولى في الواحات بالصحراء الغربية، ففي أغسطس/ آب 2014 أعلن الجيش المصري مقتل 4 جنود من القوات الجوية بعد سقوط طائرتهم أثناء مطاردة مسلحين بالقرب من واحة سيوة بالصحراء الغربية. وفي يوليو/ تموز 2014، شنت جماعة "أنصار بيت المقدس"، التابعة لـ "داعش"، هجوماً على نقطة تفتيش عسكرية تابعة لقوات حرس الحدود في الفرافرة أسفر عن مقتل 22 عسكرياً.