قمة براتيسلافا بلا بريطانيا: حتى لا يتحطم الاتحاد الأوروبي

16 سبتمبر 2016
تفاقم نقمة المواطنين على الاتحاد الأوروبي(بن ستانسال/فرانس برس)
+ الخط -
يبحث قادة 27 دولة من الاتحاد الأوروبي في اجتماع قمة، اليوم الجمعة، في العاصمة السلوفاكية براتيسلافا، القريبة من الحدود المجرية، عدداً من القضايا المصيرية. القمة التي تعقد ستكون للمرة الأولى من دون بريطانيا، التي دخلت رئيسة حكومتها تيريزا ماي في مسار الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن خطاب رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، بشأن "حالة الاتحاد" في ستراسبورغ، يوم الأربعاء الماضي، قد اتسم بطابع دبلوماسي، من خلال مطالبته بتحمل المسؤولية الجماعية "حتى لا يتحطم الحلم الأوروبي"، إلا أن تحديات جمة يواجهها هذا الاتحاد الذي يصفه كثيرون بـ"المترنح" وآخرون بـ"البطة العرجاء".

يدرك قادة الاتحاد أن معسكر المتشككين بين مواطنيهم يتسع، لذلك تتجه الأنظار نحو ما سيتخذه هؤلاء من قرارات وخطوات عملية، خلال قمتهم اليوم، لتقديم أجوبة على تلك التحديات. وهؤلاء، شأنهم شأن يونكر، يعرفون أن الشعارات لم تعد كافية، خصوصاً بعد الخروج البريطاني وتصاعد موجة فرنسية، وحتى ألمانية، ناتجة عن عزم أوساط يمينية طرح مسألة العضوية على استفتاء شعبي. وتنعقد القمة الأوروبية في ظل مواقف متناقضة بين ممثلي الدول الأعضاء، لا سيما بشأن أزمة اللاجئين، التي تفرض نفسها بقوة على جدول أعمال قمة اليوم.

تحديات ومصاعب
خلال السنوات الماضية واجه الاتحاد الأوروبي عدداً كبيراً من الأزمات التي وجد صعوبة في حلها. ولعل أبرزها الأزمة المالية مع تصدع القطاع المصرفي وتنامي البطالة وعدم الثقة بنظام الرعاية الاجتماعية. أما مشكلتا اللجوء و"الهجرة غير الشرعية" فتمثلان تحدياً جماعياً واختباراً حاسماً للعلاقات الداخلية الجديدة بين دول الاتحاد. فكثير من الدول تتجه أكثر نحو سياسة الانغلاق وانتقاد فتح الحدود، وهي مخالفة تماماً لنص وروح تأسيس الاتحاد. وتزامن انهيار سياسة الاندماج وظهور ما يسمى التحديات الأمنية (الإرهاب) مع مجموعة أخرى من التحديات العسكرية عند حدود الاتحاد، أبرزها اجتياح روسيا لمناطق أوكرانية، وهو ما أظهر مدى محدودية قدرات أوروبا الأمنية والسياسية خلال الأعوام الماضية.

يضاف إلى تلك التحديات، التي باتت محط تحليل ونقاش أوروبي شبه يومي هذه الأيام، تحد آخر يتعلق بالتعاطي الأوروبي مع العولمة. وأظهر مواطنون أوروبيون معارضة شعبية متزايدة للتجارة الحرة. وهو الأمر الذي يمكن تلمسه بوضوح في الموقف من خطط اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة في كل من ألمانيا وفرنسا، إذ ينظر إلى البلدين كحجر أساس لبقاء الاتحاد متماسكاً مع تحدي خروج بريطانيا منه.

مواجهة متأخرة...
يرى خبراء بالشأن الأوروبي أن التحديات الصعبة التي يواجهها زعماء وقادة دول الاتحاد، اليوم، في سلوفاكيا، تظهر تحدياً آخر يتمثل في "غياب روح الفريق الواحد، خصوصاً مع خروج بريطانيا وظهور تحالفات جديدة في جسمه القائم"، وفق قول مدير مركز الفكر الأوروبي، بياركا موللر، في حديث لقناة دنماركية يوم الأربعاء الماضي. وأضاف "نحن أمام شيء من هذه التحالفات، التي دفعت البعض، منذ نشوء أزمة اللاجئين، إلى توجيه نقد لاذع لدول شرقية كالمجر، وخروج أصوات تطالب بطردها من عضوية الاتحاد"، بسبب التدابير الأحادية التي اتخذتها بوجه تدفق اللاجئين.


ويعاني الاتحاد الأوروبي من غياب الوحدة الداخلية الحقيقية على صعيد القرارات السياسية وتنفيذها. وتجسد ذلك في التخبط حول مسائل الهجرة واللجوء وتقاسم المهام بين دوله بهذا الشأن. وتسعى ألمانيا إلى بناء تحالفات جديدة داخل الاتحاد لتعويض غياب بريطانيا. ويذهب موللر إلى قراءة هذا الشكل الجديد من الانقسام الناشئ في أوروبا، مشيراً إلى وجود "توجه ألماني أكبر نحو فرنسا وبدء نقاشات مع دول الشمال للاستعاضة عن التحالف الذي كان قائماً، وهذا واحد من الخطوط الفاصلة الجديدة في حياة الاتحاد". وهذا الاستقطاب الواضح بدأ يظهر مع أزمة اللاجئين وقطع بعض الدول الطريق على الحلول الجماعية، خصوصاً في شرق أوروبا وبعض الدول الاسكندنافية، كالدنمارك.

لكن تدني شعبية الاتحاد بين مواطنيه تعتبر عائقاً في محاولات تثبيته. وليس سراً أنه في كل من فرنسا وإيطاليا واليونان والسويد، وفقاً لاستطلاعات الرأي، هناك حالة من الإحباط نتيجة هذه التحديات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين، سواء في ما يتعلق بضمان الشيخوخة أو على صعيد التدخل في أبسط القضايا المتعلقة حتى بالقطاع الزراعي في تلك الدول. وهناك مؤشرات على تدني شعبية الاتحاد الأوروبي. وتمثل نتيجة الاستفتاء البريطاني في يونيو/ حزيران الماضي حول الخروج من أوروبا، دليلاً ساطعاً على ذلك، في وقت تسعى فيه الحركات المناهضة للاتحاد إلى تنظيم استفتاء مماثل في دولها (في فرنسا وهولندا مثلاً). وبعض الدول، كالمجر، ستذهب بالفعل إلى استفتاء شعبي يتعلق بسياسة اللجوء.

استشراف المستقبل
المثير في قراءة تحديات هذا الواقع الأوروبي، يتمثل في كيفية قراءة بعض الأوروبيين للتحديات ومخارجها. وفي محاولة لاستشرافها، قال مدير "مختبر الديمقراطية الأوروبية"، أستاذ السياسة في جامعة الدانوب، أولريك جيرو، لصحيفة "أنفورماسيون" الدنماركية، يوم الأربعاء الماضي، إن "البريطانيين سيفقدون الحق في حرية التنقل، ووفقاً لما قاله عالم الاجتماع الفرنسي، بيار روسنفالونس، فإن الاتحاد الأوروبي بُني على كذبة. فقد وُعد المواطنون الأوروبيون بمواطنة أوروبية، وهو أمر لم يتم". وأضاف "ينبغي لنا بناء اتحاد للمواطنين والدول. فكل المواطنين البريطانيين الذين استأجروا بيوتاً في فرنسا يدفعون الضرائب في الخارج أو يعملون في شركات ألمانية، وهؤلاء سيفقدون حقوقهم الاجتماعية. فلم يعد هناك من مجال لتقديم حجج اقتصادية، كما يفعل جان كلود يونكر عندما يتحدث عن مشاريع الاستثمار". واعتبر أنه قد حان الوقت "لنفكر باتحاد أوروبي يكون اتحاداً للمواطنين، وعلينا الاستفادة من مأساة الخروج البريطاني".

الحل كما يراه جيرو يتمثل إذاً في "اتحاد مواطنين". وهو أكد أن تحقيق ذلك ممكن من خلال "العودة إلى ما وعدنا به في معاهدة ماستريخت في عام 1991، إذ نكون جميعاً متساوين أمام القانون". وتابع أنه "يجب ضمان حرية الحركة للأشخاص مع بقاء التأمين الصحي للجميع في دول الاتحاد وإنشاء ضمان بطالة مشترك، وبذلك يُربَط الاتحاد بمصالح المواطنين المباشرة ويُخلَق إحساس بالهوية المشتركة والانتماء إلى مشروع كبير"، وفق رأيه.


في سياق متصل، دعت رئيسة تحرير مجلة "استراتيجية أوروبا"، الباحثة في مركز "كارنيغي أوروبا"، جودي ديمبسي، في برلين، إلى عدم استخدام "الخروج البريطاني كعذر للتراجع في الاتحاد"، معتبرةً أن "مشكلة اللاجئين لن تنتهي، وإن كانت تسببت بهذا التشتت الأوروبي، إذ إن التضامن والعدالة انهارتا، وهذا ما يجب إصلاحه". ورأت مديرة مركز السياسات الأوروبية وبرنامج المستقبل الأوروبي، الباحثة الإيطالية تانيا ماروكتشي، أن الإشكالية الكبرى التي تواجه الاتحاد تتمثل "في غياب الثقة بالفكرة لدى الجيل الشاب. فهؤلاء باتوا ينسحبون من الاقتراب إلى صناديق الاقتراع"، مضيفةً أن خروج بريطانيا أظهر "غياب الاستماع لصوت الشباب، فهؤلاء الشباب الأوروبيون هم الأقل ثقة بفكرة الاتحاد الأوروبي، لأنه لا يعبّر عن مشاكلهم". وتابعت أن الشباب "يعارضون السلطة في الاتحاد وعلى الصعيد الوطني بعدما ضربتهم الأزمة الاقتصادية في عام 2008، وتدهور حقوق العمالة، وأصبحوا أكثر عرضة للفكر الشعبوي"، مشيرة إلى "تراجع الإيمان بالديمقراطية التمثيلية وتزايد التشكيك فيها"، الأمر الذي "يستدعي تفكيراً عميقا في المستقبل"، وفق تعبيرها.

وأكدت ماروكتشي أن الخروج من مأزق الاتحاد مع الشباب يتطلب منه "أن يصغي جيداً إليهم، لاستعادة الثقة، ولكي يصبح الاتحاد جزءاً من الحل لا المشكلة". وأضافت أن "ذلك ينطبق على الأحزاب السياسية والمجموعات الأخرى لإشراك الجيل الشاب، وهو أمر بسيط جداً يتمثل في إعطاء هؤلاء مكانتهم في صنع السياسات"، بحسب قولها. ولفتت الباحثة الإيطالية إلى أن "جان كلود يونكر لم يذكر مرة واحدة هذه الإشكالية ولم يتوجه للشباب للحديث معهم بشأن مشاكلهم، فهؤلاء إذا لم يشعروا بأن الاتحاد يفكر فيهم ويقلق عليهم، فإنهم لا يقلقون عليه وعلى مستقبله"، على حد تأكيدها.

في غضون ذلك، رأى مدير مركز "أوروبا الحكيمة"، البولندي ووجسيك بيالوزيت، أن التحدي الكبير يتمثل في "إعادة هيكلة الاتحاد تنظيمياً"، لكنه لفت إلى أنه "في حال فازت (زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة) مارين لوبن بالرئاسة في فرنسا، فسنكون أمام سيناريو خروج فرنسا، ما سيعني تغيّراً ضخماً"، بحسب قوله. وأضاف أنه "في ألمانيا سنواجه معضلة تصاعد قوة الأحزاب الشعبوية، فألمانيا مفتاح حل أزمة اللاجئين وقوة بقاء الاتحاد على قيد الحياة". والحاجة لإعادة الهيكلة بالنسبة لبيالوزيت تعني أيضاً "طريقاً لتفادي تفكك الاتحاد الأوروبي، فالاتحاد بات يفتقد إلى الشرعية الديمقراطية، وهو أمر يحتاج لتقوية من خلال تغيير طريقة اتخاذ القرارات، بتعزيز دور البرلمان الأوروبي، أو بتغيير عملية اتخاذ القرارات". وخلص إلى أنه "يجب الاستمرار في دعم الأعضاء الجدد بالمستوى ذاته المقدم للأعضاء الآخرين، لأن الحاجة إلى تكامل في السياسات والاقتصاد كبيرة".

واعتبر رئيس قسم السياسة الخارجية في مركز "الإصلاح الأوروبي"، من بريطانيا، إيان بوند، أن الهجرة تشكل تحدياً كبيراً للاتحاد الأوروبي "لأنها تمس عدة قضايا فيه، على صعيد السياسات الوطنية والسياسات الخارجية والجوار والحريات والأمن والعدالة". ورأى أن هذه المسائل تضاف إلى "التحديات الاقتصادية المتلازمة، ما يخلق توترات كبيرة بين الدول الأعضاء". وأعرب عن اعتقاده بأن حل مشكلة اللاجئين لا يكون عبر القوانين الداخلية في أوروبا، بل من خلال سياسات تهدف إلى "حل مشكلة اللاجئين في بلادهم كضرورة لأجل حل مشكلة من وصلوا إلى دول الاتحاد أو على حدوده". وأضاف في هذا السياق، أن "تلك الدول التي ترفض استقبال اللاجئين سيكون عليها الاعتراف بأن سياستها تلك سوف تزعزع استقرار أوروبا أكثر بكثير، إن لم نتمكن من التعامل مع الأزمة عن طريق إدماج الناس مع لغة ودين مختلفين وتلك ضرورة بالغة الأهمية". وانتقد قادة أوروبا "لأنهم جميعاً، مع بعض الاستثناءات لأنجيلا ميركل، لم يتحدثوا مع شعوبهم عن المشاكل التي تواجههم في أزمة اللجوء والهجرة وكأنها لم تكن موجودة قبل أن تتحول إلى ستاتيكو معقد".

وقال بوند إن الحل الحقيقي يكمن في عملية إصلاحية كبيرة تجريها الدول "حتى تكون قادرة على إصلاح الاتحاد الأوروبي"، مشيراً إلى أنه يترتب "على فرنسا وبلجيكا وإيطاليا أيضاً القيام بإصلاحات داخلية".

في كلمته عن حال الاتحاد الأوروبي، دعا يونكر إلى ضرورة أن تكون للأوروبيين فرصة ليحصلوا على "إنترنت مجاني للجميع"، وحاول طمأنة المشككين بالمشروع الأوروبي. لكن مواطني القارة العجوز تقلقهم قضايا عدة، تراوح بين أزمة اللاجئين والهجرة والأمن والقضايا الاقتصادية، بما فيها الأزمات وفضائح التهرب الضريبي والإفقار والضغط الاجتماعي الناتج عن استغلال اليد العاملة. ورأى مراقبون أن خطاب يونكر يشكل محاولة لرفع المعنويات قبل قمة سلوفاكيا اليوم. وقد أراد مخاطبة مشاعر الخوف لدى الأوروبيين، حين ذكّر بضرورة "حماية الحدود الخارجية". وأعطى انطباعاً بأن التعاون بين الدول الأوروبية يجب أن يشمل الجيوش، وراح يبشر بفكرة جيش أوروبي موحد.

واعتبر الباحث في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية، أدريان سكوت، أن التوجهات التي عرضها يونكر "تهدف فقط إلى تلبية رغبات ما يريد الجمهور سماعه"، لكن في الواقع، يبقى حال الاتحاد الأوروبي منقسماً "بين سياسيين في جانب وناخبين في جانب آخر يصرخون بوجه السياسيين الذين لا يبدو أنهم يفهمون كثيراً ما يجري".