داريا... حلقة جديدة من مسلسل التهجير لإقامة "سورية المفيدة"

28 اغسطس 2016
داريا باتت خالية من سكانها (عبدالغني العريان/الأناضول)
+ الخط -
تعيد عملية الترحيل الجماعي لما تبقى من سكان مدينة داريا الواقعة قرب دمشق إلى مناطق مختلفة في محيط العاصمة ومدينة إدلب، إلى الواجهة من جديد الحديث عن التغييرات الديمغرافية التي يُعتقد على نطاق واسع أنها تدخل في صلب استراتيجية النظام السوري، ومن خلفه إيران وحزب الله، في الحرب السورية المتواصلة منذ خمس سنوات.
وقد وصل، أمس السبت، المئات من المقاتلين الذين غادروا مدينة داريا مع عائلاتهم إلى محافظة إدلب، تنفيذاً للاتفاق المبرم مع النظام، والذي بدأ تنفيذه الجمعة، ونُقل بموجبه أيضاً نحو 500 من المدنيين إلى منطقة حرجلة، في غوطة دمشق الغربية. ويقضي الاتفاق الذي تم التوصل إليه الخميس، بتهجير أربعة آلاف مدني، وهم آخر السكان الأصليين المتبقين في داريا إلى خارج مدينتهم، إضافة إلى ألف عسكري. وسيغادر هؤلاء إلى مناطق في الغوطة الغربية لدمشق، فيما سينتقل المقاتلون بسلاحهم الفردي وبرفقة أسرهم إلى محافظة إدلب، حيث تم تجهيز أماكن استضافتهم في منطقة باب الهوى، قرب الحدود السورية مع تركيا.
وكان عدد سكان داريا يبلغ نحو 300 ألف نسمة، لكن هذا العدد تقلص تدريجياً مع نزوح عشرات الآلاف خلال السنوات الخمس الماضية، نتيجة قصف قوات النظام شبه اليومي على المدينة، التي سيطرت عليها المعارضة أواخر عام 2012.

عمليات تغيير ديمغرافي
عملية تهجير سكان داريا تُعدّ الأحدث في سلسلة عمليات مشابهة جرت خلال السنوات الماضية، بدءاً من مدينة حمص مروراً بريف دمشق ووصولاً إلى حلب وريفها والمناطق الشرقية من البلاد التي يتشارك فيها النظام والمليشيات الكردية تنفيذ هذه السياسة وإن كان لأهداف مختلفة.

ولعل مدينة حمص الواقعة وسط البلاد هي أوضح مثال على هذه السياسة. ويُقدّر أن أكثر من مليون شخص من سكان حمص باتوا اليوم بلا مأوى بعد تهجيرهم من بيوتهم، إذ توزعوا على بقية المدن أو غادروا خارج البلاد، باستثناء حي الوعر الذي تحاصره اليوم قوات النظام، وفيه أقل من مائة ألف من السكان فقط، وذلك بعد إخراج مقاتلي المعارضة من حمص القديمة باتجاه الريف الشمالي، ومن ثم إخراج جزء من مقاتلي حي الوعر إلى مدينة إدلب.
هذا التهجير، بحسب أوساط المعارضة السورية، هو الهدف الأساسي للحرب الشرسة على حمص من قِبل قوات النظام طوال سنوات الثورة، في إطار محاولاتها إعادة تشكيل الخريطة الديمغرافية للمدينة ذات الأغلبية السنّية أصلاً، والتي زحفت إلى أطرافها منذ نهاية الستينات موجات هجرة من الريف العلوي استوطنت في بعض الأحياء، مثل عكرمة والزهراء، التي استخدمت خلال الثورة كمراكز انطلاق لهجوم قوات النظام ضد الأحياء المعارضة في المدينة.
ورغم ذلك، لا يشكّل أبناء الطائفة العلوية في حمص أكثر من 15 في المائة من سكان المدينة. وتشير التقديرات إلى أن ربع مساكن مدينة حمص تم تدميرها بالكامل، بالترافق مع مجازر عدة بحق سكانها منذ انطلاقة الثورة، مثل كرم الزيتون وحي الرفاعي وحي الشماس والحولة وغيرها، فضلاً عن عمليات الاغتصاب الممنهج، إذ شهدت المدينة أكبر نسبة من عمليات العنف الجنسي. وكل ذلك بهدف دفع سكانها للمغادرة، بالترافق مع الإحراق المتعمد للسجلات العقارية في المدينة بهدف تضييع الملكيات وعدم إتاحة الفرصة لسكان المدينة للمطالبة بحقوقهم مستقبلاً. والواقع أن محاولات التغيير الديمغرافي في حمص ظهرت بوادرها قبل اندلاع الثورة من خلال عمليات استملاك الأراضي الواسعة في عهد المحافظ السابق إياد غزال، في ما سمي مشروع "حلم حمص"، الذي كان يستهدف كما يبدو تمكين الموالين للنظام من الوصول إلى قلب المدينة وأحيائها القديمة وألا يبقوا على أطرافها.
وتُعتبر حمص هدفاً استراتيجياً لقوات النظام أيضاً كونها تقع في منتصف الطريق بين دمشق ومعاقل النظام في الساحل، والوجود السنّي (المعارض) فيها يعرقل التواصل الحيوي للنظام بين هاتين المنطقتين، خصوصاً إذا ساءت الأحوال واضطر النظام للانسحاب من دمشق باتجاه الساحل في إطار ما يعرف بخيار "الدولة العلوية"، كحل أخير قد يلجأ اليه النظام إذا تمكنت المعارضة من طرده من دمشق.
وطاولت هذه السياسة بعض القرى التابعة لمحافظة حمص، إذ أقدمت قوات النظام في يوليو/ تموز الماضي، على تهجير بعض أهالي بلدتي قزحل وأم القصب ذات الأغلبية التركمانية بريف حمص الغربي، عبر إخراجهم بحافلات إلى ريف حمص الشمالي. كمآ تُشكّل مدينة بانياس مثالاَ آخر على ما يُعتقد أنها سياسة "تطهير طائفي" يتّبعها النظام للحصول على مناطق "نظيفة" طائفياً في إطار الدولة العلوية المفترضة، أو حتى في إطار الإجراءات الوقائية في الظروف الراهنة، على اعتبار أنه ينظر إلى أهل المناطق السنّية كطابور خامس للمسلحين المعارضين. ومدينة بانياس هي أكبر مدن محافظة طرطوس الساحلية، ويزيد عدد سكانها عن 170 ألفاً، منهم نحو مائة ألف من العلويين مقابل نحو خمسين ألفاً من السنّة والباقي من المسيحيين، لكن انضمام السنّة فيها للثورة في وقت مبكر عرّضهم لحملات انتقام عديدة توجّت بارتكاب عدة مجازر ذهب ضحيتها المئات قتلاً وذبحاً وحرقاً، خصوصاً في قرية البيضا وحي رأس النبعا، بينما تتواصل المضايقات الأمنية بحق من بقي من سكانها بهدف دفعهم للمغادرة، على الرغم من أن المدينة تخلو من أي نشاط مسلح معارض.


هدن للتهجير

كما تدخل منطقة ريف دمشق في صلب سياسة النظام الرامية إلى حماية العاصمة، وتنظيف محيطها من خطر المسلحين و"بيئتهم الحاضنة". وتهجير سكان داريا هو الأحدث في سلسلة طويلة من الممارسات المشابهة في محيط العاصمة. وكان الأكثر شهرة ما عُرف باتفاق "الزبداني والفوعة وكفريا" الذي تم برعاية الصليب الأحمر والأمم المتحدة. وبموجبه غادر الجرحى والمدنيون مدينة الزبداني باتجاه ريف إدلب، وذلك بعد حصار استمر عامين، في إطار سعي النظام وحزب الله اللبناني لخلق بيئة غير سنّية على طرفي الحدود السورية - اللبنانية، في إطار بناء ما يُعرف بـ"سورية المفيدة" التي تشمل المناطق التي يريد النظام ومعه إيران وحزب الله، بقاءها تحت سيطرته، وإبعاد سكانها إلى "سورية غير المفيدة" التي يتم يومياً استهدافها بالقصف والبراميل المتفجرة.
وجاء اتفاق الزبداني - الفوعة - كفريا في سياق الهدن التي يعقدها النظام في العديد من المناطق منذ نحو ثلاثة أعوام، وشملت مناطق مثل برزة والقابون وتشرين، شمالي العاصمة، وبلدات بيت سحم ويلدا وببيلا والقدم والعسالي في جنوبها، ليصبح جنوبي دمشق خالياً من مقاتلي المعارضة، باستثناء حي التضامن، إضافة إلى حي الحجر الأسود ومخيم اليرموك اللذين سيطر عليهما تنظيم "داعش" وفصائل أخرى.
وشملت الهدن أيضاً مدناً ومناطق غرب دمشق، مثل مدينة معضمية الشام المجاورة لمدينة داريا في الغوطة الغربية للعاصمة، فيما يسعى النظام إلى تسويات وهدن في بلدات وادي بردى، مثل: بسيمة، وعين الفيجة، ووادي مقرن، وكفير الزيت، وصولاً إلى مضايا. والبند الثابت في هذه الهدن يشمل إخراج مقاتلي المعارضة، وهم غالباً من أهالي المنطقة، مع عائلاتهم إلى مناطق بعيدة، والاستفراد بمن يتبقى من أهلها بوسائل الترهيب والاعتقال بهدف إجبارهم على الرحيل.
كما تضع قوات النظام في قائمة الاستهداف منطقة الهامة، في الضواحي الشمالية لمدينة دمشق بالقرب من قدسيا، إذ تحاصرها بين الحين والآخر وتضيّق على السكان فيها، ما دفع قسماً كبيراً منهم إلى الرحيل، على الرغم من عدم وجود معارضة مسلحة فيها. وفي مطلع سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، حصل اتفاق يقضي بإخراج مقاتلين من مدينة قدسيا، شمال شرقي دمشق، إلى ريف إدلب، بعد حصار وتجويع قوات النظام للمدينة. كما بدأ النظام في الشهر نفسه في تنفيذ خطة لإخلاء السكان الأصليين الدمشقيين من منطقة بساتين المزة وإجبارهم على ترك منازلهم بحجة إعادة إعمار المنطقة حسب مخطط تنظيمي جديد، ومنح النظام تعويضاً لكل منهم مبلغ 15 ألف ليرة سورية، ما يعادل أقل من 40 دولاراً أميركياً.
ومن أبرز المناطق التي تم الاستيلاء عليها بصمت بحجة أن فيها مقامات للطائفة الشيعية، هي منطقة السيدة زينب، شرقي دمشق، والمناطق المحيطة بها، مثل الذيابية والبحدلية وشبعا وحجيرة وصولاً إلى السبينة، وهي مناطق كانت تضم مئات آلاف السكان، ومعظمهم من النازحين من منطقة الجولان المحتلة، ولم يسمح لسكانها بالعودة إليها رغم استعادتها من جانب قوات النظام منذ نحو ثلاث سنوات بعد أن كانت تحت سيطرة قوات المعارضة.
ويبقى التهجير الأكبر في دمشق نفسها، حيث هرب الكثير من أبنائها الذكور من شبح التجنيد الإلزامي، فيما زجّ النظام بالآخرين في جبهات القتال، حتى باتت توصف بأنها "مدينة بلا شباب".

مشروع "سورية المفيدة"

قيل الكثير عن خطط النظام ومعه إيران، لبناء "سورية المفيدة"، والتي تقوم على إفراغ المناطق الواقعة على خط السويداء، درعا، دمشق، حمص، حماه، وصولاً إلى الساحل السوري، من كل وجود سكاني "غير مرغوب فيه" قد يشكّل بيئة حاضنة لمعارضة النظام. وجاءت عمليات القصف والقتل والاغتصاب والحصار والتجويع وصولاً إلى التهجير بحق أبناء هذه المناطق بغية تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي. وتُستكمل هذه الخطط بعمليات شراء الأراضي وإحراق السجلات العقارية أو العبث بها، في إطار محاولات الإحلال السكاني على طول هذا الخط من الجنوب إلى الشمال، إذ يتم توطين عائلات لمقاتلين أجانب في مناطق مختلفة من العاصمة، وفي مناطق من حمص ودرعا والسويداء.
وتشمل هذه الاستراتيجية، وفق مصادر عدة، ربط "سورية المفيدة" مع مناطق في البقاع اللبناني الشمالي - الشرقي، ومنطقة بعلبك - الهرمل الخاضعة لنفوذ حزب الله. واللافت أن معظم الهدن وعمليات التهجير المنظّمة تمت برعاية منظمات دولية، مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، وهو ما يشكّل سابقة في تاريخ هذه المنظمات التي أصبحت في سورية لا تراقب جرائم النظام وحسب، بل تشارك فيها.

المساهمون