من مفارقات السياسة الأميركية أن المرشح الرئاسي الذي قد يصبح أول رئيس يهودي للولايات المتحدة في تاريخها، بيرني ساندرز، مؤهل أيضاً لأن يصبح أشد الرؤساء الأميركيين تقريعاً لحكومة إسرائيل وساستها.
فمن المؤشرات الدالة على ذلك على سبيل المثال أنه في شهر مارس/آذار الماضي، رفض السيناتور ساندرز حضور خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي، مفضّلاً البقاء في مكتبه ومقاطعة الزائر. وهاجم ساندرز رئيس الحكومة الإسرائيلية بشدة متهماً إياه بالتدخّل في الشؤون الأميركية وتحويل الكونغرس إلى لعبة في يديه. ولولا الانتماء اليهودي الذي يجمع بين نتنياهو وساندرز، لما سَلِم ساندرز من تهمة معاداة السامية التي تُلصق بكل من يجرؤ على معارضة الحكومة الإسرائيلية.
وعندما أبلغ ساندرز في الشهر التالي لمقاطعته خطاب نتنياهو، وكالة "أسوشييتد برس" نيته خوض السباق الرئاسي ومنافسة الوزيرة السابقة هيلاري كلينتون على ترشيح الحزب الديمقراطي، حذر منذ البداية الجمهوريين والديمقراطيين قائلاً: "عليهم ألا يستهينوا بي". لكن السياسيين الأميركيين في الحزبين الكبيرين استهانوا بالرجل ولم يأخذوا ترشيحه على محمل الجد، بل اتهموه بأنه نفسه غير جاد في خوض المنافسة، وإنما أراد من المشاركة أن يرفع أسهمه لاحقاً في تولي موقع تنفيذي عالي المستوى في الإدارة المقبلة ديمقراطية كانت أم جمهورية.
ومن العوامل التي دفعت العديد من المراقبين للتقليل من جدية ترشيح ساندرز، اعتقادهم أن المجتمع الأميركي ليس جاهزاً بعد لانتخاب رئيس يهودي لهم. وهو ذات الرأي الذي تردد في انتخابات 2008 عن عدم جاهزية الأميركيين لانتخاب رئيس أسود، وثبت لاحقاً عدم صوابية هذا الاعتقاد.
الدين أقوى من العرق؟
ولكن الناشط الأميركي الشاب ديفيد باكمان، يرى أن الأميركيين متسامحون في ما يتعلق بالأصل والعرق واللون والجنس، ولكن الديانة ستظل عاملاً مهماً في تقييم رؤسائهم، ولو لم يكن الرئيس الحالي باراك أوباما بروتستانتياً لما نجح في الوصول للبيت الأبيض.
وحتى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كان الناشط باكمان لا يزال عند اعتقاده بأن معاداة السامية والديانة تؤدي دوراً مهماً في التأثير على مزاج الناخبين الأميركيين، واستبعد لهذا السبب أن ينجح أي يهودي أميركي في الوصول للرئاسة في هذه الآونة، معيداً التذكير بأن المرشح الديمقراطي آل غور، خسر أمام الرئيس السابق جورج بوش الابن عام 2000 لمجرد أنه اختار نائباً يهودياً له هو السيناتور جوزيف ليبرمان، فكيف إذا كان المرشح للرئاسة نفسه يهودياً!
وبعد حوالي شهرين من هذا التشاؤم، أظهرت استطلاعات الرأي العام تفوقاً متصاعداً للسيناتور اليهودي على جميع المرشحين المحتملين للرئاسة الأميركية بلا استثناء، الأمر الذي دفع المحلل السياسي الأميركي برينت بودوسكي إلى القول بأن حركة شبابية تقدّمية واسعة بدأت بالبزوغ في الولايات المتحدة سوف تعصف بالقيادات السياسية التقليدية وسيلمس هؤلاء مدى اتساعها في انتخابات الرئاسة المقررة العام الحالي.
وأسفرت ردود الفعل العصبية من قِبل حملة كلينتون الانتخابية ضد ساندرز، عن تزايد الاعتقاد باحتمال فوز ساندرز بترشيح الحزب الديمقراطي، وقد يصبح بعد ذلك أول يهودي أميركي يُنتخب رئيساً للولايات المتحدة منذ تأسيسها، ولكن على حساب حلم آخر هو انتخاب أول رئيسة للولايات المتحدة في التاريخ الأميركي.
وقبل أيام فقط من موعد التصفيات الحزبية الأولية في ولايتي آيوا ونيوهامشاير، أظهر استطلاع لآراء الناخبين المحتملين أجرته شبكة "سي إن إن" الأميركية اتساع الفارق بين ساندرز ومنافسته الرئيسية على تمثيل الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون إلى 27 نقطة لصالح ساندرز. كما تفوّق ساندرز على متصدر مرشحي الحزب الجمهوري دونالد ترامب بحوالي 15 نقطة بين عموم الناخبين الأميركيين، وهو ما يعني أن ساندرز أصبح القادر على هزيمة ترامب وليس كلينتون التي يخشى منها الجمهوريون أكثر من غيرها، وركزوا ضدها في حملات مرشحيهم أكثر من تركيزهم على ساندرز.
وعلى الرغم من أن انتماء ساندرز الديني لا يكاد يُذكر في حملته الانتخابية أو في حملات مهاجميه، بالمقارنة مع انتمائه الفكري إلى الليبرالية السياسية، إلا أن الرجل لم يتنصل إطلاقاً من انتمائه لليهودية، لكنه انتماء ثقافي أكثر منه دينياً. ويرى بعض المعلّقين أن الانتماء الحقيقي لساندرز هو لطائفة من الرؤساء الأميركيين المتهمين من قبل خصومهم بالإلحاد. وتتضمن القائمة: توماس جيفرسون، أبراهام لنكولن، وليام هوارد تافت، وباراك أوباما. ولم يعترف أحد من هؤلاء علناً بالإلحاد بل كانت المسيحية البروتستانتية هي ديانتهم الرسمية.
يشار إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، كان أول وآخر رئيس أميركي لا ينتمي للأغلبية البروتستانتية. وباستثناء كينيدي الذي ينتمي للأقلية الكاثوليكية، فقد فشل جميع مرشحي الرئاسة الأميركية ممن لا ينتمون للطائفة البروتستانتية في الوصول للبيت الأبيض، بمن فيهم مرشح الحزب الجمهوري عام 2012 ميت رومني الذي ينتمي دينياً لطائفة المورمان، ومن قبله مرشح الحزب الديمقراطي وزير الخارجية الحالي جون كيري، الذي فشل عام 2004 في أن يكرر تجربة كينيدي ويصبح ثاني رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة منذ تأسيسها.
اقرأ أيضاً: تفوق مفاجئ للمرشح بيرني ساندرز على هيلاري كلينتون
محاربة العنصرية
نادراً ما يتحدث ساندرز عن ديانته لكنه كثيراً ما يردد أنه ابن مهاجر يهودي بولندي أبيدت أسرته في المحرقة النازية. وأثناء إحدى جولات ساندرز الانتخابية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في ولاية فرجينيا، أحيا فعالية في جامعة جورج مايسون التي يقصدها العديد من الطلبة العرب والمسلمين، وصعدت إلى المنصة فتاة محجبة سمراء اسمها ريماز عبد القادر تتحدث عن استيائها من موجة العداء التي يجاهر بها بعض المرشحين للمسلمين، وعن تأثرها الشخصي من التصريحات المحبطة لطموحها في إحداث تغيير في هذا المجتمع. وسألت ساندرز عن رأيه في تصريحات دونالد ترامب وبن كارسون، فما كان من ساندرز إلا أن تقدّم إليها واحتضنها ثم سحبها من يديها إلى وسط المنصة المحاطة بحشود الطلبة الشباب وقال: "أنا يهودي، وأسرة والدي أبيدت في محارق النازية، ولهذا سأعمل كل ما بوسعي عمله لإنقاذ هذا البلد من بشاعة العنصرية التي حاربتها لسنوات".
وتابع قائلاً: "دعيني أقول لك شيئاً. لقد بلغت من العمر ما يجعلني أدرك أن العنصريين يمارسون سياسة فرّق تسد، مثل تحريض البيض على السود، والمثليين على غير المثليين والرجال على النساء، وضرب كل مجموعة بأخرى، ومهمتنا هي أن نقف معاً كشعب واحد ضد العنصرية".
وعاد ساندرز للتوجّه إلى الفتاة قائلاً لها: "أنت فعلاً محقة بأن هناك من يعمل على خلق الكراهية ضد المسلمين في هذا البلد وضد المهاجرين، وإذا كان واجبنا أن نقف معاً ضد أي شيء، فعلينا أن نقف ضد كل أشكال العنصرية، وهذا ما سأفعله عندما أصبح رئيساً للولايات المتحدة". وكان ساندرز قد صرح سابقاً بوجوب "التصدي بقوة للتعصب المعادي للإسلام".
وتشير السيرة الذاتية لساندرز الذي يمثّل ولاية فيرمونت في مجلس الشيوخ، إلى أنه من مواليد حي بروكلين في نيويورك عام 1941، أي أن مدينة نيويورك وحدها هي ما يجمعه بالمرشح دونالد ترامب. بعد إنهائه التعليم الثانوي في بروكلين، انتقل إلى جامعة شيكاغو حيث درس علم النفس، وحصل على البكالوريوس عام 1964.
أولى الوظائف العامة التي انتخب ساندرز لتوليها كانت عام 1981 عندما رأس بلدية برلنغتون، وفاز عام 1990 بعضوية الكونغرس ممثلاً وحيداً لولاية فيرمونت، وعمل قبل ذلك مدرساً في جامعة هارفارد وفي كلية هاملتون.
عارض عام 1991 منح الكونغرس الموافقة لاستخدام القوة العسكرية في حرب الخليج، محذراً من "أن المنطقة لن تكون أكثر سلاماً واستقراراً بعد الحرب". كما عارض قانون "باتريوت" لمحاربة الإرهاب، وقال: "نريد حماية الشعب الأميركي من الهجمات الإرهابية، لكن بطريقة لا تقوّض الحريات الأساسية". ورفض عام 2002 الحرب التي أعلنها بوش الابن على العراق، وحذر من أنها ستخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة.
بات عضواً في مجلس الشيوخ عام 2006، وأعيد انتخابه عام 2012 بنسبة عالية. وعمل خلال عضويته في مجلس الشيوخ في عدد من اللجان في مجلس الشيوخ كلجنة الميزانية، ولجنة شؤون المحاربين القدامى واللجنة الاقتصادية المشتركة. وشدد ساندرز في عمله بمجلس الشيوخ على قضايا التأمين الصحي لقدامى العسكريين المتقاعدين ولشؤون البيئة ومحاربة الاحتباس الحراري والتغيير المناخي. كما أنه كان مدافعاً عن حق المواطنين بالتأمين الصحي.
يصف ساندرز نفسه بالاشتراكي الديمقراطي أحياناً، وبالديمقراطي المستقل أحياناً أخرى، فيما يصفه بعض المراقبين بأنه من أقصى اليسار الأميركي. ويفاخر بأنه ترشّح خارج نطاق الحزبين وتغلب أحياناً كثيرة على الديمقراطيين والجمهوريين معاً وعلى مرشحين مدعومين بأموال كثيرة.
جرأة على إسرائيل
في الوقت الذي أبدى فيه ساندرز منذ بداية حملته الانتخابية حرصاً شديداً على مشاعر الأقليات الدينية والعرقية الأخرى، وكان حريصاً كذلك على عدم مناصبة الأغلبية البروتستانتية العداء، وابتعد عن التهجّم الشخصي على منافسيه، فقد أفصح عن جرأة غير مسبوقة في الاختلاف مع من يجمعهم به الانتماء الديني. فخلافاً لما يتبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من رأي سلبي تجاه الاتفاق النووي الدولي مع إيران، فقد أعلن ساندرز تأييده القوي للاتفاق في أول مؤشر على تغليبه للمصلحة الأميركية العليا وفقاً لرؤيته على مصلحة إسرائيل وفقا لرؤية ساستها. وقاطع ساندرز خطاب نتيناهو في الكونغرس الأميركي تعبيراً منه عن الانحياز إلى رئيس الولايات المتحدة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي. وقال ساندرز في تصريحات تلفزيونية إن السياسة الخارجية للولايات المتحدة يقررها الرئيس الأميركي وليس رئيس الحكومة الإسرائيلي. وكان ساندرز قد عاش لبعض الوقت في إحدى المستوطنات في فلسطين المحتلة، لكنه عاد للاستقرار في ولاية فيرمونت.
حلم المرأة الأميركية
يكفي ساندرز الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي هذا العام لإجهاض حلم هيلاري كلينتون للمرة الثانية في أن تصبح أول رئيسة للولايات المتحدة منذ تأسيسها عام 1776، ليكرر بذلك ما فعله أوباما الذي أجهض حلم كلينتون المرة الأولى في 2008 عندما فاز عليها بتمثيل الحزب الديمقراطي قبل أن يصبح أول رئيس أسود في البيت الأبيض.
لكن تمثيل مرشح يهودي للحزب الديمقراطي في انتخابات 2016، بقدر ما يعني تأجيل حلم المرأة الأميركية في الوصول للرئاسة والقضاء نهائياً على طموح هيلاري كلينتون الرئاسي، فإنه لا يضمن بالضرورة إيصال مرشح من الأقلية اليهودية لرئاسة الولايات المتحدة، كما لا يضمن دعم يهود أميركا لهذا المرشح، إذ إن البعض منهم ينظر إليه كيساري ليبرالي من فيرمونت أكثر مما يعتبرونه يهودياً.
ومثلما أن اليهود الأميركيين لا يهمهم أن يكون الرئيس منهم بقدر ما يهمهم أن تكون بيدهم أدوات الضغط على صنع القرار، فإن النساء الأميركيات أيضاً أصبحن ينظرن بواقعية أكثر بأن سياسات ساندرز الليبرالية قد تعود عليهن بالفائدة أكثر من سياسات كلينتون. وتردد المناصرات لحملة ساندرز أن مكاسب عموم الأميركيات أهم من مكسب رمزي لامرأة واحدة.
لكن من المفارقات السياسية أيضاً أن ساندرز، السبعيني البازغ نجمه في سباق 2016 الرئاسي، يقود حركة شبابية تقدّمية واسعة وجيلاً أميركياً جديداً يرفض وضع أدنى اعتبار للأصل العرقي أو الديني أو المذهبي أو الجنسي في الخيارات السياسية، التي لا يزال جيل ساندرز والجيل الذي يليه يتمسّك بها على خلاف ساندرز نفسه.
اقرأ أيضاً: العدّ العكسي للانتخابات الأميركية: اشتداد المنافسة قبيل الجولة التمهيدية