باتت ظاهرة السجون المؤقتة والدائمة التي تملكها الحكومة العراقية ووزاراتها الأمنية، أو تلك السرية منها التابعة للمليشيات، أمراً مألوفاً في أغلب مدن العراق. تجاوز عدد السجون أخيراً حوالي الخمسين بين صغير وكبير، بينها سبعة تابعة لمليشيا الحشد الشعبي، أمّا البقية فتابعة للحكومة ومؤسساتها، وتنتشر على طول مساحة الوجع العراقي المزمن. ولطالما بقيت قضية السجون أو ملف المعتقلين مادة دسمة للخلافات السياسية بين الكتل والمنظمات الدولية المحلية الحقوقية المعنيّة، التي وصفت وضع المعتقلين العراقيين بـ"الأحياء الأموات"، منددة بمنع السلطات العراقية زيارة المنظمات وفرق حقوقية لتلك السجون.
قد لا يكون العراق الدولة الوحيدة التي تضم هذا العدد من السجون، لكنّه من بين أبرز الدول من حيث عدد المعتقلين الذين يرقدون بين جدران السجون منذ سنوات بلا محاكمة. ويكشف مسؤول عراقي رفيع في حكومة العبادي، "عن وجود ما لا يقل عن 140 ألف معتقل في سجون موزعة في مختلف مدن العراق، تشرف عليها وزارات العدل والداخلية والمخابرات والدفاع والأمن الوطني، فيما تتولى ثلاث مليشيات نافذة الإشراف على سبعة سجون مستقلة من أصل خمسين سجناً بالعراق".
وعلى الرغم من أنّ غالبية المعتقلين في تلك السجون متهمون بالإرهاب، أو مساعدة الإرهاب، كما دأبت قيادات ما بعد الاحتلال في العراق على ذكرها، لم تستطع تلك السجون إنشاء قاعدة بيانات للنزلاء وتفاصيل عن حالاتهم. لهذا السبب، ظلّت أرقام السجناء العراقيين تقريبية.
اقرأ أيضاً: التعذيب الوحشي في سجون العراق لم يتوقف بعد العبادي
يقول وزير عراقي في حكومة العبادي، إنّ "العدد الإجمالي التقريبي للسجناء في العراق يبلغ أكثر من 140 ألف معتقل من بينهم 78% لم يعرضوا على القضاء ولم تُحل أوراقهم للمحاكم حتى الآن على الرغم من مرور أشهر طويلة، وبعضهم سنوات، على وجودهم في تلك السجون. فيما سجّل العام الماضي، وفاة نحو 650 منهم بعد اقتحام داعش للمدن. وقد قُتلوا قبل انسحاب القوات من السجون، بأوامر صادرة من رئيس الحكومة السابق نور المالكي لمنع داعش من تحريرهم، على الرغم من أنّ عدداً كبيراً منهم كان محتجزاً مؤقتاً داخل مراكز شرطة، بسبب مخالفات مرورية وسرقة وتعاطي كحول". ويضيف الوزير، أنّ "وثائق وأدلة تثبت ذلك وتدين المالكي، هُرّبت من قبل ضابط عراقي رفيع إلى الأردن، واشتراها رجل أعمال عراقي بارز ويسعى لتقديمها إلى محاكم دولية". وحول عدد المعتقلين، يشير إلى أنّ "وزارة العدل تملك 39 ألفاً و450 معتقلاً، مبيّناً أنّ 36 ألفاً منهم متهمون بالإرهاب، والبقية جرائم جنائية عادية".
ويلفت الوزير إلى أنّه "يقبع في وزارة الداخلية العراقية 43 ألف معتقل لم يحاكموا جميعهم، وبعضهم مضى على اعتقاله أكثر من ثلاث سنوات، بينما تحتفظ وزارة الدفاع العراقية بالنصيب الأكبر من عدد المعتقلين الذي يصل إلى 56 ألف معتقل موزعين بين القواعد العسكرية والثكنات الداخلية للجيش ومواقع قيادات العمليات للقوات البرية، وهم غير مسجلين رسمياً، وعادة ما يعتقلون ويطلق سراحهم بأمر من آمر الوحدة الميدانية أو قائد الفرقة خلال حملات الاعتقال العشوائية التي تشوبها الفساد، إذ بات الاعتقال مصدر رزق لهم. ويتقاضى الضابط أو القائد العسكري مبالغ مالية تصل إلى نحو 50 ألف دولار لقاء إطلاق سراح المعتقل الواحد.
ويقبع في سجون المخابرات 3 آلاف معتقل، وهم مسجلون رسمياً، وأوضاعهم أكثر راحة من أقرانهم في السجون الأخرى، ممّا يسجّل مفارقة واضحة، كون المخابرات في كل دول العالم معروفة بقسوتها على عكس المؤسسات الأمنية الأخرى.
في المقابل، تحتفظ المليشيات المسلحة "الحشد الشعبي" بعدد من المعتقلين يتراوح تقريباً بين 5 إلى 9 آلاف معتقل موزّعين على السجون السبعة الخاصة، غالبيتها في بغداد وبابل، وليست سجوناً قانونيّة، بل معامل قديمة أو قواعد عسكرية للجيش السابق. ومن العدد الإجمالي للمعتقلين، يوجد أكثر من 400 معتقل عربي، معظمهم من الجنسيّة السعوديّة والسوريّة والكويتيّة واليمنيّة، وفقاً للمصدر نفسه.
اقرأ أيضاً: العراق: اتفاق لـ"تبييض" سجون المالكي
يدفع عدد كبير من أهالي المعتقلين المال لمسؤولين فاسدين، ليس بهدف إطلاق سراحهم بل لإحالتهم إلى القضاء فقط، إذ عادة ما تكون الإحالة، نهاية لقصة اعتقالهم بالسلب أو الايجاب، وهو ما يمنح راحة للمعتقل وذويه للتخلص من الوضع المعلّق، ويطلق عليهم بـ"أهل الأعراف". وغالباً، ما يكون مبلغ الإحالة أقل من المبالغ التي تدفع لإطلاق سراحه.
من بين المعتقلين الذين أطلق سراحهم، كان أمير تنظيم داعش بالعراق، الشيخ شاكر وهيب المعروف باسم أبو وهيب، كما يصرّح رئيس مجلس إنقاذ الأنبار حميد الهايس. ويقول الهايس إنّ "أبو وهيب والي الأنبار حالياً في داعش، أطلق سراحه بمبلغ 50 ألف دولار برشوة شارك بها مسؤولون فاسدون، بعد أن تم اعتقاله ونقله تحت حماية مشددة إلى سجن مطار المثنى ببغداد، ليفك قيده مقابل 50 ألف دولار، ويعتبر اليوم، من أخطر الشخصيات في داعش".
ملف السجناء في العراق بات مصدر دخل مالي كبير لقادة الأمن والمسؤولين العراقيين، وفقاً لما يذكره رئيس منظمة السلام لحقوق الإنسان محمد علي، مشيراً إلى أنّ ضابطاً في الداخلية دفع رشوة قدرها 100 ألف دولار لنقله إلى سجن الكاظمية لـ"الاستفادة". ويضيف علي لـ"العربي الجديد" أنّ "نحو 9 آلاف طالب جامعي معتقلون، إضافة إلى أكثر من 3 آلاف مهندس و1900 طبيب، وفضلاً عن 13 ألف ضابط بالجيش العراقي السابق، علماّ أن الآخرين هم مواطنون من الكسبة وغالبيتهم من الطبقة الفقيرة". ويبيّن علي أنّه يملك وثائق عن وفاة معتقلين بشكل مستمر جراء التعذيب الممنهج، وأنّ عملية تلقي المال لم تتوقف على إطلاق السراح أو إحالة أوراق المعتقل إلى القاضي بل وتلقّي الرشوة من الأهل للسماح لهم برؤية سجينهم لدقائق فقط، وأحياناً لرؤيته من دون السماح لهم بالتحدّث إليه أو حتى سماع صوته عبر هاتف الضابط".
ومن أبرز السجون العراقية حالياً وفقا لمحمد، "سجون التاجي والتسفيرات والمطار والمثنى وبغداد والكاظمية والمشتل والصدر والأحداث، وهذه السجون كلّها في بغداد، إضافة إلى سجون الناصرية وسوسة وديالى والرمادي والحلة والنجف والبصرة والمعقل والعمارة والمنصورية".
ويلفت محمد إلى أنّه "بالإضافة إلى هذه السجون، هناك مراكز الاعتقال الرئيسية والتي تعتبر غير مدرجة ضمن سجلات الصليب الأحمر الدولي أو البعثة الدائمة للأمم المتحدة في العراق وهي، "لواء بغداد والاستخبارات العسكرية والمخابرات العراقية، البناية الصفراء، لواء 54 والشعبة الخامسة، ولواء 56 واستخبارات الداخلية، والفرقة السادسة وجرائم العامرية وجرائم حي العامل وجرائم الدورة ودائرة تحقيق الرضوانية، والفرقة السابعة، والفرقة 17، وجرائم اللطيفية ودائرة تحقيق كربلاء ودائرة تحقيق النجف ودائرة تحقيق البصرة (العشار)". ويتابع، "فيما تمتلك المليشيات سبعة سجون أبرزها، الزعفرانية والصدر والشعلة وجسر ديالى وطويريج بمحافظة بابل مسقط رأس المالكي".
المحامي الجوكر
بسبب انتشار تلك السجون والمعتقلات، اتسعت ظاهرة ما يعرف بالمجتمع العراقي بـ"المحامي الجوكر"، وهو المحامي الذي يمتلك علاقات شخصية مع الضباط والمسؤولين ويمكنه الترافع بقضايا إطلاق سراح المعتقلين، مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين 30 ألفاً و50 ألف دولار، وفي حالات المعتقل الصعبة والمؤهلة لحكم الإعدام، تصل إلى نصف مليون دولار. لذا اتسعت ظاهرة صناديق وحملات المساجد والدواوين العشائرية التي يطلق عليها حملة "فكو العاني"، وهو مصطلح إسلامي قديم يطلقه العراقيون على من يريدون فك أسره. ويجمع المالَ صاحب المعتقل أو أهله من أجل دفعه للمحامي الجوكر.
وحول الموضوع، يقول والد أحد المعتقلين أبو أحمد (اسم مستعار) وعمره 49 عاماً: "اعتقل ابني في حملة الاعتقالات العشوائية قبل انعقاد القمة العربية في بغداد عام 2013، من صالة بلياردو يعمل بها، وأنفقت 3 آلاف دولار لمعرفة مكانه. واليوم أسعى لجمع 40 ألف دولار من أجل إطلاق سراحه، بعد اتهامه زوراً".
ويضيف "بعت كل شيء، واقترضت والدته المال من أقربائها، لكن كل ما جمّعته غير كاف، لذا جئت إلى المسجد وطلبت من الخطيب أن يدعم الحملة. وهذا ما حصل، واستطعت جمع المبلغ من المتبرعين".
اقرأ أيضاً: "حقوق الإنسان" العراقية أحكام بإعدام 720 مداناً
في هذا السياق، يقول أحد أعضاء منظمة الصليب الأحمر الدولية بالعراق، عربي الجنسيّة (فضّل عدم ذكر اسمه) لـ"العربي الجديد"، "باختصار، الوضع مزر، وقد تكون أسوأ السجون التي شهدها العالم في تاريخه الحديث، موجودة في العراق". ويضيف "مُنعنا من دخول السجون أو لقاء النزلاء. فقد استطعنا زيارتهم مرتين فقط خلال العامين الماضيين. وعلى الرغم من ذلك، تردنا معلومات سيئة للغاية، عن التعذيب والوفاة، والأمراض الجلدية نتيجة عوامل عدة، والاغتصاب، وإجبارهم على توقيع اعترافات عن جرائم لم يرتكبوها، وأيضاً عن مرحلة بيع المعتقل".
ويوضح القيادي بجبهة الحراك الشعبي العراقية محمد عبد الله لـ"العربي الجديد"، "لم نعد نطالب بتبييض السجون أو إصدار عفو عام، لأنّنا نعلم أنّ الملف أكبر من كل السياسيين، وبتنا نطالب اليوم بإخضاع كل المعتقلين لقضاء عادل ومهني، ونعتبر ذلك مفتاح مصالحة حقيقية في العراق، وإلّا سيعمد عدد كبير من الأهالي إلى دفع الرشاوى مقابل الإعفاء عن معتقليهم، أو عدم تعذبيهم".