بإعلان الملك السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز، تعيين أول حفيد من أحفاد المؤسس للسعودية في نسختها الثالثة، الأمير محمد بن نايف، في أعلى منصب في المملكة يخوله تولي سدة الحكم مستقبلاً، وهو منصب ولي ولي العهد، فإن الحديث عن انتقال صراع السلطة إلى الجيل الثاني فتح على مصراعيه.
وظل ذلك الباب موصداً سابقاً في ظل توافر عدد من أبناء المؤسس وهم يتمتعون بصحة جيدة في حينها، إلا أن طول بقاء الملك فهد بن عبد العزيز، خامس الملوك السعوديين، قرابة 25 عاماً في سدة الحكم، جعل القلق يسري بين أروقة النافذين المعنيين، متسائلين عن مستقبل الأسر الحاكمة بعد هذين العقدين والنيف، والتي حكم منها فعلياً أخيه عبد الله بن عبد العزيز من منصبه كولي للعهد، قرابة 15 عاما نظراً لمرض الأول وعدم قدرته على ممارسة سلطاته بذهنية عالية.
القدر الذي حرم عبد الله سابقاً من تنصيبه ملكاً، هو ذاته الذي مهد له أيضاً أن يكتب تاريخاً حديثا للسعودية، ولكن هذه المرة عبر كسر التراتب الأفقي في حصر اختيار الملك من أبناء المؤسس، والتهيئة لأول ملك يتم اختياره عمودياً، ويكون من سلالة عبد الله نفسه، وهو ابنه متعب وزير الحرس الوطني. والأخير كانت كافة القراءات والتسريبات تشير إلى دنوه من سدة الحكم، إلا أن القدر ذاته قلب الطاولة على هذا المخطط بوفاة الملك عبد الله، ليتأجّل الصراع إلى بضعة أعوام قليلة مقبلة.
"السديريون"... أحفادهم مجدداً
للملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن زوجات كثر، تذكر بعض المصادر أن عددهن 37 امرأة. إلا أن أشهرهن وأكثرهن حظوة عنده كانت حصة بنت أحمد السديري، والتي أنجبت له بالإضافة إلى البنات، كلاً من فهد وسلطان وعبد الرحمن وتركي الثاني ونايف وسلمان وأحمد. وبرز هؤلاء السبعة كتكتل في شجرة العائلة الملكية، وعرفوا بين الشعب بـ "السديريين السبعة" نسبة إلى أمهم ودورها في تربيتهم وتحضيرهم لتولي مناصب الدولة الفتية في حينها. ونجح ذلك الغرس في أن تولى فهد وزارة الداخلية وبعدها أصبح ملكاً، ليتناوب على ذات الوزارة اثنان من أخوته، وهما نايف وأحمد، فيما حافظ سلطان على منصبه وزيراً للدفاع والطيران نصف قرن، وكان نائبه أخاه من أمه وأبيه تركي الثاني ثم عُزل ووُضع أيضاً أخوه عبد الرحمن. وبمجرد أن فارق سلطان الحياة ومنصبه في آن واحد، حلّ محله سديري أيضاً وهو أخوه سلمان، والذي ظل هو الآخر نصف قرن أميراً على العاصمة الرياض قبل هذا المنصب الذي تولاه لعامين، والآن هو على هرم السلطة ملكاً سابعا للعرش السعودي.
وعلى الرغم من هذا النفوذ السديري في السيطرة على مقاليد الحكم، إلا أن حصتهم في العرش، بناءً على عددهم ومناصبهم لم تكن بالعدد المرضي، فلم يحكم منهم إلا فهد والآن سلمان، فيما كان يتوقع أن يدخل العرش السعودي نفق السديريين من فهد مروراً بسلطان ثم نايف وأخيراً سلمان، إلا أن الخطة لم يكتب لها النجاح بسبب ما قام به الملك فيصل، وما أخفاه القدر للأسرة. عمد الملك فيصل في نهاية سنوات حكمه إلى إبراز الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي لم يكن موجوداً على الخريطة السياسية من ذي قبل، وقدمه كوجه جديد لم يكن في الحسبان كاسراً به التراتبية السديرية بحكم عمره من جهة، إضافة إلى التمهيد له لتوليه شؤون قطاع الحرس الوطني لاحقاً، وهي قوية عسكرية لا يستهان بها.
ظل هذا الهاجس في ذهن عبد الله بن عبد العزيز وهو في سدة الحكم، ما دفعه إلى العزم على إحداث نقلة كالنقلة التي غيرت مجرى حياته، تتجاوز فرع السديريين في الحكم، والذين مات اثنان منهم وهو حاكم، وهما سلطان ونايف، إلى التسليم بضرورة تولي الجيل الثاني الحكم. وعمل على التمهيد لولده متعب بدءاً من تولي الأخير شؤون الحرس الوطني أيضاً، ثم ترقية الحرس الوطني ليصبح وزارة، إلا أن القدر هذه المرة قال كلمته. وبوفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الذي ووري الثرى أول من أمس، تم الانتقال، لكن ليعود الحكم من جديد إلى دائرة السديريين عبر بوابة الجيل الثاني.
ثالوث الصراع
في مارس/آذار من العام الماضي استحدث الملك عبد الله منصباً جديداً في السلطة السعودية وهو "ولي ولي العهد". ولأن المغزى من هذا المنصب إحداث نقلة تمهيدية، كان لا بد من تكرار ذات التجربة التاريخية وإبراز وجه جديد غير سديري، ولم يكن يزاحم للمنافسة على الحكم، فوقع الاختيار على مقرن وهو أصغر أبناء المؤسس. ونص قرار تعيينه بأنه "لا يجوز بأي حال من الأحوال تعديله أو تبديله بأي صورة كانت من أي شخص كائناً من كان، أو تسبيب، أو تأويل". الأمير مقرن فهم من تنصيبه أنه تم قطع كل ما له صلة بأبناء المؤسس للمنافسة على الحكم، وفيه تنحية لآخر السديريين الراغبين في المنافسة وهم بلا منصب، أي الأمير أحمد الذي خلف أخاه نايف في وزارة الداخلية بعد وفاته، إلا أنه لم يدم في موقعه كثيراً وتم عزله بعدها بشهور.
وجود مقرن كملك قادم رسم ملامح المعسكرات بين الأحفاد وبدء تعزيزها، واتضح أن القوى لا تنحصر فقط بالجدارة، ولكن أيضاً بما يمتلك كل طرف من قوة عسكرية من جهة، وقربه من الحليف الأميركي من جهة أخرى.
وتنحصر المنافسة في ثلاثة معسكرات، الأول وزير الداخلية محمد بن نايف الذي يمتلك أهم قطاع عسكري في البلد، ويتمتع بتقدير خاص لدى الولايات المتحدة بحكم تصديه لمحاربة الإرهاب في السعودية واليمن على وجه الخصوص. والجميع تنبأ بعلو مرتبته بين بقية الأحفاد بعد أن استقبله الرئيس الأميركي باراك أوباما في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2013. وبالفعل تم اختياره أول من أمس ولياً لولي العهد. أما المعسكر الثاني فيمثله متعب ابن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، والذي اتخذ من منصب والده سبيلاً للوصول، إضافة إلى سلطته في قطاع عسكري قوي وهو الحرس الوطني. وقد قام خلال فترة تولي أبيه الحكم فعلياً أو قبل التنصيب بعشرة أعوام، في بناء تحالفات وتحييد عدد من الأسماء. ومتعب كسابقه يمتلك رصيداً ممتازاً عند الأميركيين، ولا سيما بعد زيارته الأخيرة لواشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي. أما الأخير، هو محمد ابن الملك الجديد سلمان، والذي قبل أن يعينه أبوه وزيراً للدفاع ضمن قائمة التعيينات التي أصدرها يوم الجمعة الماضي، كان نائباً لذات الوزارة عندما كان أبوه وزيراً لها. ويقال إنه هو الآمر الناهي بها، إلا أن كافة المؤشرات تثبت أنه لا يمتلك أي ولاء خاص له بين أفراد العسكر، بحكم صغر سنه وقلة خبرته. ولا يعرف لمحمد بن سلمان أن قام بأي زيارة رسمية من قبل للولايات المتحدة الأميركية.
أجنحة الأحفاد الثلاثة، محمد بن نايف ومتعب بن عبد الله ومحمد بن سلمان، خلصت بعد تنصيب سلمان بن عبد العزيز ملكاً إلى تفوق "السديريين" حتى في جيل الأحفاد على غيرهم، إذ تولى الأول منصب ولي ولي العهد وظل محافظاً على حقيبة الداخلية، وظفر الثالث الذي يتمتع بحظوة أبيه من دون بقية أخوته الذين يكبرونه سناً بحقيبة الدفاع، فيما فشل مخطط الثاني أن يطول عمره والده الملك عبد الله بن عبد العزيز، وينجح إما في تنحية الأمير سلمان آنذاك من منصب ولاية العهد لظروفه الصحية، أو يقول القدر كلمته كما قالها في حق سلطان ونايف واختصر الطريق أمامه، وبكل الأحوال يبقى والده ملكاً والأمير مقرن ينصب ولياً للعهد وهو ولي لولي العهد.
وعلى الرغم من وجود أحفاد آخرين للمؤسس، إلا أن العمل على تنصيب متعب بن عبد الله كأول حفيد على العتبة الأولى لسدة الحكم ساهم في تهميشهم وتقليص دورهم. ومن هؤلاء أبناء الملك فيصل، وهم سعود الذي يشغل منصب وزير الخارجية ويحظى باحترام الأسرة كأقدم وزير سعودي، إلا أنه مستبعد من الحكم. وتركي الذي شغل منصب رئيس الاستخبارات العامة الأسبق؛ وهو الآن لم يعد لاعباً فعلياً في الساحة السياسية، أما أخوهم خالد فقد عين وزيراً للتربية والتعليم لإنهاء مسيرته في أعقد قطاع خدماتي وتصادمي مع القوى المحافظة في البلد. ويضاف إليهم أبناء ولي العهد الأسبق الأمير سلطان وهم؛ خالد بن سلطان الذي كان نائباً لوزير الدفاع وكان يأمل أن يظفر بحصة والده وأن يتولى الوزارة، إلا أن وجود الأمير سلمان سابقاً عجّل في رحيله وتعيين ابنه محمد خلفاً له. بينما بندر بن سلطان الأمين العام لمجلس الأمن الوطني فقد فضل بعد مشوار طويل أن يدعم تقدم متعب بن عبد الله نحو العرش بصمت وتفاهمات سرية مع بعض أفراد الأسرة. أخيراً، يبقى الملياردير الوليد بن طلال، والذي لحقت به خطيئة والده في إنشاء تنظيم الأمراء الأحرار في جعله خارج اللعبة رغم كل ما يملك من نفوذ. في ما عدا ذلك، فلا يعتقد المراقبون أن هناك من بين الأحفاد من يستطيع أن ينافس على العرش السعودي خلال العشرين عاماً المقبلة على أقل تقدير، ما لم تطرأ مستجدات تقلب الأمور كافة.