لبنان: عام الحدود المشتعلة مع سورية

28 ديسمبر 2014
لا يزال مصير العسكريين المخطوفين رهن تعثّر المفاوضات (الأناضول)
+ الخط -


يتسلّل لهيب نار الحرب السورية إلى الداخل اللبناني عبر الحدود، بإذن رسمي وحزبي وسياسي، أو بتسهيل طائفي أو بدون ذلك كلّه، بفعل الترابط الجغرافي والاجتماعي في هذه المناطق الحدوديّة. لم يشكّل النهر الكبير على الحدود الشماليّة وسلسلة لبنان الشرقيّة، جداراً يعزل لبنان عن أحداث سورية. وفي الأساس، لم تترك الحركة الأمنيّة والعسكريّة لحزب الله خلف الحدود، أيّ مبرّر يبقي ما في سورية في سورية وما في لبنان في لبنان.

منذ عام 2012 وإلى اليوم، ينقل حزب الله المقاتلين والسلاح والعتاد، ذهاباً وإياباً، إلى ومن سورية دفاعاً عن النظام فيها، إلا أنّ عام 2014 شهد ردّ أعداء هذا النظام بالمثل. باتت مجموعات المعارضة السوريّة، الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، تُدخل مجموعاتها وانتحارييها وسيّاراتها المفخّخة عبر الحدود نفسها، فتستهدف المناطق اللبنانيّة المحسوبة على الحزب، أو أينما تيسّر لها ذلك، على النقاط الأمنيّة المنتشرة في بيروت أو في الأطراف (تحديداً في البقاع، شرقي لبنان).

وكانت المحصلة المبدئيّة لانتقال الحرب إلى الداخل اللبناني، تنفيذ عشر عمليات انتحاريّة تبنّاها كلّ من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة النصرة، وكتائب عبد الله عزام (الجناح اللبناني لتنظيم القاعدة) في مناطق نفوذ الحزب. ومع توقّف هذه العمليّات الانتحاريّة، أو انحسارها في يونيو/حزيران الماضي، تحوّلت المعركة بين حزب الله من جهة، والمجموعات السوريّة من جهة أخرى، إلى معركة فعليّة على الحدود، تحديداً الشرقيّة. تمثل ذلك من خلال معركة عرسال (شمالي مدينة بعلبك، ذات الأغلبية السنيّة والداعمة للمعارضة السوريّة)، مطلع أغسطس/آب الماضي، والتي تمكّنت من خلالها، مجموعات "داعش" و"النصرة"، من خطف عشرات العسكريين اللبنانيين، الذين لا يزال مصيرهم رهن المفاوضات المتعثّرة بين الخاطفين والدولة اللبنانية.

عرسال "أم المعارك"
من منطقة الهرمل إلى مدينة بعلبك (البقاع الشمالي)، حيث الخزّان الشعبي الفعلي لحزب الله، بات الحزب منتشراً على طول الحدود مع سورية. فيحاصر من خلال هذا الانتشار، بلدة عرسال التي يتّهم الحزب المتحكّمين بقرارها، بتشكيل بيئة حاضنة لـ"النصرة" و"داعش"، أي لـ"الإرهاب"، وبتمرير الانتحاريين والسيارات المفخّخة إلى لبنان. وبعيداً عن ذلك كلّه، تشكّل عرسال امتداداً طبيعياً وجغرافياً واقتصادياً واجتماعياً لجرود القلمون السورية، على طول ستين كيلومتراً، حيث يتحصّن مقاتلو المجموعات السورية الذين لجأوا إلى هذه الجرود، بعد دخول حزب الله والجيش السوري إلى قرى فليطا ويبرود ومعلولا. وبالتالي يكون الحزب قد أحكم السيطرة على هذه المجموعات من الجهة السوريّة واللبنانيّة، علّه ينجح في حسم ما بات يُعرف بـ"معركة القلمون" المستمرة منذ سبتمبر/أيلول 2013.

وبينما يصعب إنهاء هذه الجبهة، بفعل طبيعة المنطقة وصعوبة القتال فيها، يبدو أنّ جبهة الحرب انتقلت فعلياً إلى الداخل اللبناني من خلال العديد من التفجيرات والاقتحامات التي نفذتها مجموعات "النصرة" و"داعش" داخل البقاع، في بلدة رأس بعلبك (شمالي عرسال) وفي جرود قرى يونين ونحلة وبريتال (جنوبي عرسال). تنتشر في هذه المنطقة مجموعات من هذين التنظيمين، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الجيش السوري الحر، ينحسر دورها يوماً تلو الآخر نتيجة عوامل ماليّة وعسكريّة. وتتولّى هذه المجموعات ضرب مراكز لحزب الله أو للجيش اللبناني، بهدف "تنفيس" الضغط والحصار المفروضين عليها. وتحوّلت مراكز الجيش المنشرة في عرسال أو في جردها إلى صيد سهل لها، كما باتت مواقع الحزب في جرود بعلبك صيداً ثميناً، فلم تتأخر في تكرار الهجوم عليها للسيطرة على بعضها أو لاستهدافها بالسيارات المفخخة.

ويوماً تلو الآخر، تتحول بلدة عرسال ومحيطها إلى "أم المعارك" على الحدود بين لبنان وسورية، باعتبارها المنطقة الأكثر توتراً وتأثيراً على مجريات واقع الحرب بين حمص ودمشق، أو الهرمل وبعلبك. وما يزيد التوتر من انفجار معركة عرسال أيضاً، خلاف من الطبيعي أن ينشأ بين "داعش" و"النصرة"، للسيطرة على الأرض والقرار فيها. عاش الطرفان فترة مساكنة تزيد عن عام ونصف العام، حيث نسّقا في أكثر من مناسبة ودعما بعضهما البعض، على الرغم من أنّ الأرض السورية شهدت معارك طاحنة ومجازر وتكفيراً متبادلاً بين الطرفين. وقد يكون حان الأوان اليوم لانفجار عرسال والقلمون، والجرد بينهما، من الداخل في معركة مماثلة.

النصرة في الجنوب
وإذا كان "داعش" بات التنظيم الأقوى والأكثر فعالية في عرسال ومحيطها، فإنّ جبهة "النصرة" تمسك بأكثر من مفصل حدودي في سائر المناطق البقاعيّة. الجبهة الحدودية المفترضة هي منطقة البقاع الغربي، (أغلبية سنية ووجود مسيحي) وصولاً إلى منطقة حاصبيا (أغلبية درزية) في الجنوب، أي مثلث لبنان فلسطين المحتلة والجولان المحتل.
على امتداد أكثر من ثلاثين كيلومتراً، بين معبر المصنع (شرقي لبنان) وراشيا في البقاع، يستمرّ القلق على الحدود بين البلدين. ففي الجرود المتروكة سابقاً للتهريب، تنتشر مجموعات من المقاتلين السوريين كما هي الحال في عرسال، إلا أنّ التوترات الناتجة من ذلك، تكاد لا تؤثّر على الداخل اللبناني. تسيطر جبهة النصرة والجبهة الجنوبية في الجيش السوري الحر على الميدان. لكن بنادقها مصوّبة نحو الشرق، أي نحو الداخل السوري، باعتبار أنّ لا أهداف عسكرية لها في هذا الجانب اللبناني. ومع سيطرة المعارضة السورية على القنيطرة والجنوب السوري المحاذي لفلسطين (مطلع سبتمبر/أيلول الماضي)، ساد الخوف لدى اللبنانيين من تحوّل البقاع الغربي إلى عرسال أخرى. علت النداءات السياسيّة والحزبيّة المشجّعة لظاهرة "الأمن الذاتي" أو تسليح الأحزاب لأبناء المنطقة، كما هي الحال أيضاً في منطقة رأس بعلبك (شمالي عرسال). وكان لافتاً في هذا الخصوص قول زعيم الطائفة الدرزية في لبنان، النائب وليد جنبلاط، إنّ "جبهة النصرة ليست إرهابية بل هم مواطنون سوريون ويجب التأقلم مع الواقع الجديد في سورية".

جاء كلام جنبلاط في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليطمئن الناس على طول تلك الحدود، بأنّ "الوحش" لن يأتي لقتلهم في منازلهم أو لتهجيرهم من قراهم. فتعامل جنبلاط بالروح نفسها التي يتعامل بها أبناء الطائفة الدرزيةّ في جنوب سورية مع الوضع القائم هناك، بمعنى أنّهم لن يعرقلوا سير إسقاط النظام، لكن سيبقون على مسافة من المشاركة الفعلية في إسقاطه. فتبقى هذه الحدود إلى حين يقرّر أي من الطرفين تفجير الوضع عندها، أو عند دخول طرف ثالث يكون من أهدافه افتعال جبهة أخرى.

خروقات سورية في الشمال
تبدو المنطقة الشمالية في لبنان الأكثر هدوءاً على الحدود، باعتبارها ممسوكة بشكل شبه كامل من الجيش السوري من جهة، ومن الدولة اللبنانية من جهة أخرى. ولم تشهد هذه المنطقة الممتدة في عكار من العريضة والعبوديّة الحدوديتين (أغلبية سنية) إلى القبيّات وأكروم (أغلبية سنية ومسيحية) سوى خروقات بسيطة لكن متكررة من الجانب السوري. سهّل ذلك على أفواج الجيش السوري المنتشرة على طول الحدود، استهداف المنازل والطرقات الرئيسة في عكّار بحجّة "تحرّكات مسلّحة في الجهة اللبنانية"، بحسب ما يقول مسؤولون أمنيون لبنانيون. واللافت في هذا القضاء، أنّه يضمّ تسع بلدات علويّة في محيط سني، يشكّل ٦٥ في المائة من المنطقة، ولم يتعرّض أهلها لحصار اجتماعي أو اقتصادي ولم يحصل فيها أي إشكال أو اعتداء. وسجّلت المنطقة ثلاثة اعتداءات على الجيش اللبناني في الأشهر الأربعة الماضية، من خلال إطلاق نار أو كمائن نصبت لعناصره، في محاولة للتخفيف عن الضغط الأمني الذي نفّذته الأجهزة الأمنيّة على مجموعات محسوبة على "النصرة" و"داعش" في طرابلس والمنية (جنوبي عكار). وبقيت الجبهة الشماليّة هادئةً لا يعكّرها سوى نوايا بعض ضباط الجيش السوري ورغبتهم باستهداف المدنيين اللبنانيين.

المساهمون