المخطوفون والمفقودون اللبنانيون: الحرب الأهلية لم تنتهِ

25 ديسمبر 2014
الأهالي يواصلون معركتهم منذ 32 عاماً (رمزي حيدر/فرانس برس)
+ الخط -
تستمر مأساة أهالي المخطوفين والمفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية بعد أعوام المعاناة الطويلة. نجح الموت في تغييب عددٍ من الأمهات، وأقعد المرض عدداً آخر. لم يعد يقوى المرضى منهم على المشاركة في نشاطات لجنة أهالي المخطوفين. قُتلت والدة أحد المخطوفين، وتدعى أوديت سالم، بحادث سير أثناء توجهها إلى أحد اعتصامات اللجنة في بيروت.
انطلقت لجنة "أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" بمبادرة من زوجة المخطوف عدنان حلواني، وداد، عام 1982. دقت حلواني الأبواب الرسمية خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ــ 1990) لتقديم الشكاوى والسؤال عن مصير زوجها المخطوف، قبل أن تنشر إعلاناً في الإذاعات والصحف تدعو فيه ذوي المفقودين للتجمع في منطقة "كورنيش المزرعة" في "بيروت الغربية" (ذات الغالبية المسلمة)، كما كانت تسمى إبان الحرب الأهلية.

اتخذ التحرك طابعاً نسائياً بامتياز مع خروج النساء بحثاً عن أزواجهن وأبنائهن. تقول حلواني في حديث لـ "العربي الجديد" إنّها توقعت رؤية عدد قليل من الأشخاص، لكنها فوجئت "بعشرات الزوجات والأمهات والأطفال، لبنانيات مسلمات ومسيحيات، وفلسطينيات اجتمعن بناءً على النداء، وسرنا معاً باتجاه مقرّ الحكومة في منطقة الصنائع" في حينه، وهو المقرّ الذي انتقل من الصنائع إلى المتحف ثم وسط بيروت.

تعرّضت القوى الأمنية والعسكرية للمسيرة، فطلبت السيدات، تتقدّمهن حلواني، لقاء رئيس مجلس الوزراء شفيق الوزان "الذي استقبلنا وودّعنا بعبارة العين بصيرة واليد قصيرة". تبعت زيارة الوزان سلسلة زيارات قامت بها اللجنة إلى رؤساء الأحزاب لطلب دعمهم، فكانت المفاجأة، بحسب حلواني، "طلب رئيس أحد الأحزاب ضم اسم قريبه إلى ملفاتنا كمفقود، في حين أشبعنا آخرون بالوعود والدموع".

عجز رسمي ومعارك قانونية
يختصر العجز الذي عبّر عنه الوزان وعدم اهتمام الطبقة السياسية، حال التعاطي الرسمي مع ملف المفقودين؛ عجزٌ انسحب على كل الحكومات، التي حكمت بعد اتفاق الطائف مطلع تسعينيات القرن الماضي. يقول مصدر متابع لملف المفقودين طلب عدم نشر اسمه نظراً لحساسية الملف، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الاستغلال السياسي فعل فعله، إلى جانب العجز الرسمي؛ فبعض الجمعيات المعنية بالمفقودين، أسسها سياسيون ثم عطلوا عملها بسبب طموحاتهم الخاصة، وانفتاحهم على النظام السوري المسؤول عن عدد كبير من عمليات الخطف. حتى المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 كانت عرضة للتجاذب بين فريقي 8 (الموالي لسورية) و 14 آذار (المعارض لسورية) من دون احترام لمشاعر الأهالي الذين تعلقوا بأمل العثور على رفات مفقوديهم".

الرقم الذي يتم التداول به "مجازياً" لعدد المفقودين هو 17 ألف شخص، لكن عدد مَن فُتحت باسمهم ملفات موثقة يناهز الـ3 آلاف شخص ينتمون إلى مختلف الطوائف والأحزاب.

بدأ الحديث عن المقابر الجماعية العائدة لفترة الحرب في عام 2000، إذ ذكر تقرير اللجنة الحكومية التي دعا رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص، إلى تشكليها، ثلاثة مدافن مقسمة حسب التوزيع الطائفي ــ المناطقي، بحسب المصدر.


تقع الأولى في منطقة مار متر في الأشرفية في بيروت، والثانية في مدافن جميعة المقاصد الإسلامية في منطقة الحرج، والثالثة داخل مدافن الإنجليز (تعود للحرب العالمية الثانية) في نفس المنطقة. ويشير محامي لجنة الأهالي نزار صاغية في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الدولة لم تبادر إلى أي إجراء لفحص الرفات، ولا حتى تأمين الحماية لموقع المقابر كمسرح جريمة يساعد في كشف مصير المفقودين، ما دفعنا لمراجعة قاضي الأمور المستعجلة في محاولة لتثبت حق الأهالي في الكشف على المقابر بعد إقرار إنشاء بنك معلومات الحمض النووي".

كما تم الكشف عن عدد من المقابر الجماعية بشكل متفرق خلال الأعوام اللاحقة قرب وزارة الدفاع في اليرزة (شرق بيروت)، طرابلس (شمال لبنان)، صيدا (جنوب)، عنجر في البقاع (شرق)، والشبانية في جبل لبنان. تذكر حلواني مقبرة الشبانية بشكل خاص "فقد حاول بعض السياسيين إقناعنا أن العظام المكتشفة تعود إلى حيوانات نافقة! وذلك بعكس شهادة الشخص الذي اكتشف المقبرة، وأكد وجود بقايا جثة بشرية موضوعة في أكياس بلاستيكية". وكما باقي المقابر تم تجاهل الموضوع حكومياً و"تثبيت الحق" قانونياً من طرف الأهالي.

بنك المعلومات والحمض النووي
يحاول صاغية تثبيت حق الأهالي بانتظار إقرار قانون "إنشاء بنك معلومات الحمض النووي" الذي تقدّم به النائبان غسان مخيبر وزياد القادري بعد دمج مشروعها مع مشروع سابق تقدّم به النائب حكمت ديب. ويشير إلى "تضمين المشروع عدد من الاقتراحات التي قدّمتها لجنة الأهالي". غير أنّ إقرار المشروع لن يكون العقبة الوحيدة أمام الأهالي؛ فالحكومة اللبنانية لم توقع بعد على بروتوكل تعاون قدّمه الصليب الأحمر الدولي عام 2012 يقوم من خلاله بجمع عينات الحمض النووي من الأهالي وتخزينها لديه بانتظار إقرار القانون. ويؤكّد صاغية أن القيمة الفعلية "للملفات التي سلمتنا الحكومة بأمر قضائي ملزم، تكمن في استكمال البحث عن الأحياء في سورية وفلسطين المحتلة، ونبش المقابر الجماعية للأموات ومقارنة النتائج من خلال بنك معلومات للحمض النووي".

المفقود ميت في القانون
إلى جانب "معركة قانون الحمض النووي"، خاض الأهالي معارك قانونية عدة، ولكن على صعيد فردي. استفادت زوجة المفقود الشيوعي محيي الدين حشيشو (خطفه مسلّحون متهمون بالانتماء إلى حزب القوات اللبنانية عام 1982 من منزله في صيدا) من استثناء ورد في قانون العفو العام الذي أصدرته حكومة الحص "للجرائم المستمرة بعد انتهاء الحرب"، فادّعت على خاطفي زوجها من ميليشيا القوات اللبنانية في عام 1991. وبعد تأجيل الجلسات لمدة 23 عاماً، أصدر القاضي قراره بتبرئة الخاطفين لـ"عدم كفاية الأدلة".

شكّل الأمر انتكاسة لقضية المفقودين، عوض عنه الأهالي من خلال اعتماد مسار قانون جماعي للعائلات، بحسب المحامي صاغية. كما تحولت الإجراءات القانونية البسيطة، كنقل اسم المشترك في شبكة الهاتف أو دفع الرسوم والضرائب، إلى معركة فعلية مع إصرار أغلب العائلات على رفض "توفية" المفقود. لكن قلّة قليلة منهم أقرّت بوفاة أقربائهم "نظراً لضغوطات عائلية أو حاجة مادية للميراث"، كما تقول حلواني.

حقٌ ينتزع بالاعتصام
أمام هذا الواقع تحرّكت لجنة الأهالي على الأرض للوصول إلى "الحق في معرفة مصير المفقودين". جمعت اللجنة أسماء المخطوفين ونظمت لوائح اسمية لهم. كما واكب الأهالي عمل ثلاث لجان حكومية عيّنها مجلس الوزراء في الأعوام 2000، 2001، 2005. ثم كان إطلاق حملة "من حقنا أن نعرف" وتنظيم وقفات أسبوعية أمام مقرّ مجلس الوزراء في منطقة المتحف لتذكير الوزراء المجتمعين بقضية المفقودين. اتخذ بعدها التحرك طابعاً قانونياً مع شكاوى جماعية تقدّمت بها اللجنة أمام مجلس شورى الدولة ضدّ الحكومة لتسلميها ملفات تحقيقات اللجان الثلاث، والتي امتنعت الدولة طوال أربعة عشر عاماً (من 2000 إلى 2014) عن تسليمها للأهالي بحجة "إثارة نعرات مذهبية وطائفية".

تؤكّد حلواني أنّ أحد رؤساء الحكومات بعد الحرب اتهم اللجنة "بمحاولة إعادة إشعال الحرب الأهلية من خلال المطالبة بفتح ملف المفقودين". وفي مارس/آذار 2014 حكم مجلس شورى الدولة لصالح الأهالي، وهو حكم نهائي لا يمكن للحكومة أن تطعن به. وقد سلّمت لجنة الأهالي نسخة من الملف إلى ممثل الصليب الأحمر الدولي في لبنان لإعادة تحريك التحقيق.

تعوّل لجنة الأهالي اليوم على إقرار مشروع قانون "إنشاء بنك معلومات للحمض النووي"، وتوقيع الحكومة على اتفاق التعاون مع الصليب الأحمر الدولي في هذا المجال.