مرّ عام ونصف العام على الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022. وعلى الرغم من أن الانخراط الغربي المتدرج، لكن المتصاعد، في دعم جهود كييف العسكرية والمالية مستمر، وعلى الرغم من المظهر العام لوحدة الموقف الغربي، بما فيه حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، وفي مجموعة السبع الكبار، إلا أنه بين سطور السياسة الغربية ثمّة اختلافات شبه مكتومة، يُعبّر عنها أحياناً في الغرف المغلقة وفي "زلّات" لسان بعض المسؤولين الغربيين.
صحيح أن الخطوة الأخيرة في كل من الدنمارك وهولندا بالتبرع لأوكرانيا بنحو 60 مقاتلة أف 16، (هناك تقارير صحافية ترفع الرقم إلى أكثر)، ينظر إليها بحماسة كبيرة، إلا أنها تكشف أيضاً بعضاً من صورة غياب التوافق التام في الغرب حيال مستوى دعم كييف. فتلك الطائرات بالطبع لن تحسم الحرب أو تلجم روسيا عن مواصلتها، رغم اعتبار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن المقاتلات "ستحفز جنودنا"، أثناء التقاط صورة له في قمرة قيادة إحدى طائرات الـ"أف 16" برفقة رئيسة حكومة الدنمارك ميتا فريدركسن.
"أف 16"... رمز للتردد
فقصّة هذه المقاتلات الأميركية مثّلت رمزاً للضعف والتردد الغربي في مساعدة أوكرانيا، وفقاً على الأقل لقراءات المندفعين نحو مواجهة أوسع مع روسيا. فقبل أن يمنح الأميركيون، منتجو ومصدرو تلك الطائرات، الإذن لكوبنهاغن وأمستردام الأسبوع الماضي بإرسالها إلى أوكرانيا، ظلت مواقف واشنطن مترددة، ما أخّر برنامج التدريب وتأهيل الأوكرانيين لاستخدامها.
ظلت مواقف واشنطن مترددة بشأن تسليم "أف 16"، ما أخّر برنامج التدريب وتأهيل الأوكرانيين لاستخدامها
ويثير موقف واشنطن، على الأقل، بعض الغضب المكتوم في دوائر أوروبية منذ مارس/ آذار الماضي، حيث فرض البيت الأبيض قيوداً على بولندا في مسألة تبرعها لأوكرانيا بنحو 29 طائرة ميغ 19 من الحقبة السوفييتية. برر الأميركيون حينها ذلك بأنها هذه المقاتلات "لن تحدث فارقاً كبيراً" في الميدان، وتنطوي على "خطر كبير" بجذب حلف الأطلسي إلى الحرب.
حتى فكرة إرسال طائرات أف 16 الأميركية، التي ارتفعت أصوات مطالبة بمنحها لأوكرانيا منذ خريف العام الماضي، ظلّ الرئيس الأميركي جو بايدن يردد بشكل قاطع جواب "لا" لإرسالها. بل في فبراير/ شباط الماضي، كرّر بايدن اعتقاده أن أوكرانيا ليست بحاجة إلى هذه المقاتلات "الآن"، ما يعني أن الغرب أضاع فعلياً عاماً كاملاً من التردد (باعتبار أن تلك الطائرات لن تدخل الخدمة حتى العام المقبل 2024) في إحداث فرق في الحرب التي يشيع أن أوكرانيا تخوضها نيابة عنه، ولمنع وصول شررها إلى دول أخرى.
الأطراف المندفعة نحو ضرورة اجتياز خطوط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحمراء، وعدم الاكتراث إلى تهديداته باستخدام السلاح النووي، تركز على ضرورة عدم التردد في منح أوكرانيا كل ما تحتاجه تحت عنوان: الفوز في الحرب.
البعض في أوروبا، ومنهم في دول الجوار الروسي كمنطقة بحر البلطيق وإسكندنافيا وبعض دول شرق القارة، يخشون أيضاً من "تآكل الدعم السياسي للقضية الأوكرانية"، بعد مرور عام ونصف العام على الغزو الروسي.
كابوس عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بسبب مواقفه المعلنة من بوتين وعدم حماسته لمواصلة صرف المال الأميركي لدعم أوكرانيا، ماثل أمام القوى الأوروبية، والغربية عموماً، ليس فقط لما سيسببه ذلك من تصدع في جدار وحدة مواقفهم، بل في تشجيع قوى قومية متشددة في القارة العجوز على رفع صوتها عالياً ضد استمرار تدفق المال والسلاح لكييف.
فمن دون وجود رأي عام مؤيد في الغرب لمواجهة روسيا، يصعب تسويق ذلك الدعم المالي والعسكري، وإن كان من حيث العمليات الحسابية لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من الناتج المحلي الإجمالي في الغرب. ويأمل هؤلاء أن يشكل تسارع دعم أوكرانيا، بعد مقاتلات أف 16 وصفقة مروحيات الأباتشي لبولندا، كنوع من مقايضة للدفع بمزيد من منظومات تسليح إلى أوكرانيا، ما يمكن تسميته "نقطة تحول" في المواقف الغربية.
أكثر 10 دول داعمة
وتأتي أوروبا في مقدمة داعمي أوكرانيا، ثم الولايات المتحدة، إن على شكل منح وقروض أو ضمانات. ومقارنة بعدد السكان ونسبة الناتج المحلي الإجمالي، تحتل دولة إستونيا (دولة سوفييتية سابقة صغيرة من دول البلطيق: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) مقدمة الدول الغربية في مجال الدعم العسكري، حيث تخصص نحو 0.86 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، تليها لاتفيا بنحو 0.75 في المائة منه، ثم على التوالي بولندا وبريطانيا وليتوانيا وسلوفاكيا وكندا والنرويج والتشيك واليونان والبرتغال والدنمارك، ثم ألمانيا ففرنسا.
تخشى قوى غربية مؤيدة لمواصلة الحرب من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض
لا يعني ذلك أن الدول الصغيرة جغرافياً وسكانياً تدعم أوكرانيا أكثر من الكبيرة، بل على سبيل المثال إن تقديم أميركا أكثر من 76 مليار دولار لأوكرانيا (بينها 46 ملياراً كدعم عسكري) وهي نسبة توازي 0.21 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي البالغة قيمته (نحو 21 ألف مليار دولار) تساهم بفعالية في بقاء أوكرانيا صامدة بعد 18 شهراً من الحرب. وهو ما ينسحب على اقتصاد بريطانيا (تخصص 0.24 في المائة من الناتج الإجمالي لدعم كييف)، وكذلك الكندي والفرنسي والألماني.
ولا يتعلق الدعم الغربي لأوكرانيا بمدّها بالسلاح فحسب، بل بدعم مالي يعوض خسارة البلد الذي تعصف به الحرب أكثر من 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 وتوقعات بخسائر أكبر (نحو 40 في المائة) في العام الحالي. قبل الحرب (2021-2022) كان الناتج المحلي الإجمالي لكييف نحو 200 مليار دولار وتضخم بنسبة 10 في المائة في العام الماضي وحوالي 26 في المائة حالياً، بحسب أرقام البنك الوطني الأوكراني وتقديرات صندوق النقد الدولي.
والتزم الاتحاد الأوروبي بدفع 1.5 مليار يورو شهرياً إلى أوكرانيا خلال عام 2023 (إجمالي 18 مليار يورو). بالإضافة إلى ذلك، تعهدت الولايات المتحدة بالتبرع بمبلغ 1.1 مليار دولار لكل شهر من الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي (9.9 مليارات دولار في المجموع بحسب الأوكرانيين أنفسهم).
مؤشرات مزعجة للغرب وكييف
وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة مؤشرات توحي بوجود ارتباك في مواقف الغرب. وينقسم الأوروبيون إلى 3 مجموعات متباينة في مواقفها من القضية الأوكرانية. ففي حين تتصدر دول شرق أوروبا ودول البلطيق، مع الدول الإسكندنافية (خصوصاً الدنمارك والنرويج)، الخط الأكثر تشدداً وصدامية مع موسكو، فإن ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، ودول أخرى، تحبذ مواجهة الغزو من دون المخاطرة في الانزلاق نحو التصادم مع موسكو، وتبقي على "شعرة معاوية" في بعض سياساتها مع الكرملين.
الطرف الثالث هو المتذمر من جعل القضية الأوكرانية أولوية السياسات الأوروبية والغربية، ويتصدره رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان وبعض أقطاب السياسة في بلغاريا ورومانيا، وأحزاب قومية متشددة وشخصيات ووزراء سابقون في إيطاليا وغيرها من دول القارة العجوز (بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وإسبانيا واليونان). وهؤلاء خليط ممن يحملون الغرب مسؤولية "دفع بوتين" إلى الحرب في أوكرانيا، وآخرون ينطلقون من مواقف شعبوية، وفيها رائحة ابتزاز للاتحاد الأوروبي، كما يُتهم أوربان وغيره من بين ساسة القارة.
والطرف الأخير يجد صعوبة كبيرة في تسويق مواقفه وسط بحر عائم من تيار عام تظهره استطلاعات الرأي الأوروبية في اعتبار روسيا خطراً جدّياً على مجتمعاتهم.
في الأسبوع الماضي، كُشف عن تصريحات أدلى بها ستين ينسن، الساعد الأيمن للأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، وتتلخص في إمكانية تخلي أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل ضمّها إلى الحلف، والتوصل إلى اتفاق سلام مع موسكو.
التصور أعلاه أثار مواقف حادة في كييف، حيث ذهب كبير المستشارين والمتحدثين باسم زيلينسكي، ميخايلو بودولاك، إلى حد اعتبار مقترح مقايضة أراض أوكرانية "بمثابة اختيار هزيمة الديمقراطية، وتشجيع مجرم عالمي، والحفاظ على النظام الروسي سليماً، وتحطيم القانون الدولي ونقل الحرب إلى الأجيال المقبلة". واعتبر بودولاك أن الأمر "لن يجلب السلام للعالم، ولكن سيجلب العار والمزيد من الحروب".
الامتعاض من عدم امتنان أوكرانيا لما يقدمه الغرب بات أمراً مزعجاً في دوائر غربية
بالطبع أثارت كلمات المسؤول الأطلسي، قبل أن يعلن الاعتذار عنها ويسحبها، مخاوف كثيرة ليس فقط لدى الأوكرانيين، بل في صفوف قوى أوروبية كثيرة تنظر إلى أوكرانيا كحائط صدّ بوجه روسيا. وتلك القوى، ومن بينها دول البلطيق السوفييتية السابقة، لاتفيا وإستونيا ولتيوانيا، ومجموعة دول الشمال وبولندا وجوارها الشرقي، تستشهد بتصريحات بوتين المتكررة عن "الخطأ" التاريخي في تفكك الاتحاد السوفييتي، وعن الأقليات الناطقة بالروسية. وفي تفكير الكرملين وسرديته لتبرير الخطوات العسكرية، أن أوكرانيا لم تكن دولة مستقلة، وأن حلف الناتو نكث بوعوده في منتصف تسعينيات القرن الماضي حين توسع إلى تخوم روسيا بدل حصرها في شرق ألمانيا بعد الوحدة بين شطريها.
سحب تصريح المسؤول الأطلسي، ينسن، لا يعني أن المواقف الغربية أقل توتراً. فحتى الدولة الجارة لأوكرانيا، وشريانها الحيوي لتدفق المعونات الغربية، بولندا، تشهد سجالات غير مبشرة.
فمع الحملة الانتخابية في وارسو (للانتخابات العامة المقررة في 15 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل)، باتت تظهر أخيراً مواقف ممتعضة من كييف، على ضوء تزايد التوتر مع الجارة بيلاروسيا، إثر نشر الأخيرة قوات مرتزقة "فاغنر" الروسية عند حدود بولندا.
ولا يتعلق الأمر في بولندا بصورة مباشرة باستمرار الدعم العسكري، بقدر ما هو مرتبط بقضايا على صلة بالسياسة التفضيلية الأوروبية لصادرات أوكرانيا الزراعية. حيث يرى المعسكر القومي المحافظ، في حزب "القانون والنظام" الحاكم، أن أوكرانيا تدمر مصالح مزارعي البلد. وبالنسبة لزعيم الحزب، ياروسلاف كاتشينسكين، يتعلق الأمر بقاعدة انتخابية صلبة في صفوف فلاحي بولندا، الذين بات بعضهم يرفضون سياسات تفضيل الأوكرانيين. وينسحب ذلك على دول أخرى في شرق أوروبا، حيث تقترب المواقف المكتومة من مواقف رئيس حكومة المجر، فيكتور أوربان، من أوكرانيا والحرب فيها، ومن زاوية المصالح الاقتصادية، وتفضيله العلاقة بروسيا على الالتزام بسياسات أوروبية متشددة في العقوبات.
ويواجه هؤلاء تيارات تعبر عن نفسها أحياناً بتصريحات شبيهة بمواقف الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي عن شبه جزيرة القرم وتبعيتها لروسيا. يضاف إلى ذلك أن الامتعاض من "عدم امتنان أوكرانيا" لما يقدمه الغرب بات أمراً مزعجاً في دوائر غربية، وهو ما يرتفع في الكواليس البولندية والفرنسية والألمانية. بل إن وزير الدفاع البريطاني السابق، بن والاس، رغم أن بلده الأكثر حماسة لمواجهة كييف لروسيا، انتقد مواقف زيلينسكي بقوله إن بلده "ليست متجر أمازون" لإيصال السلاح إلى أوكرانيا. وتستغل قوى مؤيدة للطرف الروسي في الغرب ما يصفونه "استعلائية زيلينسكي وعدم امتنانه" للدعم الغربي، هذا إلى جانب اتهام سلطات كييف بأنها "دمى بيد الغرب"، مع استمرار دعم أوروبا وواشنطن لأوكرانيا.
في كل الأحوال، يتكرر الحديث من واشنطن وبرلين وباريس عن أنه على المستوى الاستراتيجي ستنتهي الحرب في أوكرانيا باتفاقية سلام، تجر معها ما يسمى "تنازلات إقليمية". وذلك ببساطة يعني أن الأضواء ليست خضراء دائماً لتحقيق الأوكرانيين ما يصفونه "انتصاراً على روسيا". ومع ذلك يبدو الغرب أكثر سعياً لتحقيق نقاط من مسألة حسم الحرب، ويتلمسون حرارة قوة وضعف الجانب الروسي لزيادة أو إنقاص مستوى الدعم، ورفع وخفض الحديث عن السلام.
بمعنى آخر، فإن الأمور في أغلبها لم تعد روسية - أوكرانية، بل خاضعة وفق منطق المصالح الاستراتيجية الكبرى لعوامل أخرى كثيرة، قبل الوصول إلى طاولة التفاوض.
وإلى حين أن تنضج الطبخة تستمر موسكو بالطبع في اللعب على الوقت بانتظار بروز تصدع في جدار وحدة موقف الغربيين، مع استمرار المراهنة على قوة تيارات قومية محافظة بدأت تتململ من دعم أوكرانيا.
في نهاية المطاف، وعلى الرغم من بروز اختلافات في المواقف الغربية، إلا أن الحرب الأوكرانية مستمرة نحو أفق مفتوحة. ودون أن يعني ذلك توقفاً لتدفق السلاح إلى أوكرانيا، إلا إذا جرى بالفعل انتقال في السلطة في البيت الأبيض على وجه الخصوص، وتبدل جدي وسلبي على مستوى الطبقات السياسية الحاكمة في أوروبا.