- اعتقل دقة بتهمة قتل جندي إسرائيلي وحُكم عليه بالسجن 37 عامًا، تزوج وأنجب خلال فترة اعتقاله، مما يعكس إصراره على الحياة والأمل رغم الأسر.
- كأديب ومثقف، استخدم دقة الكتابة كوسيلة للتعبير والصمود، حاصلًا على درجات علمية ومخلفًا إرثًا أدبيًا يعكس تجربته ونظرته للقضية الفلسطينية، مبرزًا دور الأدب في النضال من أجل الحرية.
في رسالته التي كتبها إلى المفكر العربي عزمي بشارة، بعد أن أمضى عشرين عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وحملت عنوان "الزمن الموازي"، قال الأسير وليد دقة (62 عاما) الذي أُعلن اليوم استشهاده داخل مستشفى آساف هروفيه الإسرائيلي إثر تدهور حالته الصحية: "أعترف بأني لم أخطط لأي شيء، لا أن أكون مناضلاً أو عضوًا في فصيل أو حزب ولا حتى أن أتعاطى السياسة، ليس لأنّ كل هذا خطأ، أو أنّ السياسة أمر منكر ومبغوض كما يحلو للبعض أن يراها، بل لأنها كانت بالنسبة لي مواضيع كبيرة ومعقدة، أنا لستُ مناضلاً أو سياسيًا مع سبق الإصرار والترصد، بل أنا ببساطة كان من الممكن أن أكمل حياتي كدهان أو عامل محطة وقود كما فعلت حتى لحظة اعتقالي.. وكان من الممكن أن أتزوج زواجًا مبكرًا من إحدى قريباتي كما يفعل الكثيرون، وأن تنجب لي سبعة أو عشرة أطفال.. كل هذا كان ممكنًا، إلى أن شاهدت ما شاهدته من فظائع حرب لبنان وما أعقبها من مذابح صبرا وشاتيلا".
هكذا رسمت حرب لبنان ومذابح صبرا وشاتيلا طريقا مغايرا لذلك الذي كان من الممكن لوليد دقة أن يقنع به ويرتضيه لنفسه، هكذا يختار "الزمن الموازي" الفلسطيني قبل أن يختاره هو. ومع هذه الكيفية استشهد وليد دقة، الأسير القائد المصاب بسرطان النخاع الشوكي المعتقل منذ عام 1986، بعد سنوات واجه فيها سلسلة طويلة من الجرائم الطبية، ومن مفارقات "الزمن الموازي"، أن اسشهاد وليد دقة، جاء بعد يوم واحد من مطالبة منظمة العفو الدولية، الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق سراحه، على خلفية تعرضه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي للتعذيب والإهانة، فالزمن الموازي منفصل عن الواقع على الدوام، أو أنه يتسق معه بعد فوات الأوان.
وليد دقة.. "ميلاد" بحثا عن المستقبل
في بلدة باقة الغربية، التي كانت تابعة لقضاء طولكرم قبل النكبة عام 1948، ثم أصبحت تابعة لقضاء حيفا في دولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد شطرها عن باقة "الشرقية"، ولد وليد نمر أسعد دقَّة في الأول من 18 يوليو/تموز 1961. ونشأ في أسرة فلسطينية مكونة من 6 أشقاء و3 شقيقات، تنحدر من جنوب غرب وادي الحوارث.
واعتقل وليد في الخامسة والعشرين من عمره، واتهمه الاحتلال مع الشهيد إبراهيم الراعي ورشدي أبو مخ وإبراهيم بيادسة، بقتل الجندي موشي تمام. وحكم عليه بالإعدام في البداية، قبل أن يخفف الحكم عليه إلى السجن 37 عامًا بالإضافة لسنتين إضافيتين بقضية ضلوعه في قضية إدخال هواتف نقالة للأسرى. وتزوج من الإعلامية سناء سلامة، بعد أن انتزع زفافا لمدة 3 ساعات داخل أروقة سجن عسقلان عام 1999، وهو الزواج الأشهر في تاريخ الأسرى الفلسطينيين.
ومثلما ناضل وليد دقة في كل تفاصيل حياته، امتد هذا النضال رفقة زوجته لمدة 12 عاما لينالا قرارا يسمح لهما بالإنجاب، قبل أن يتمكن من "تحرير نطفة" عام 2019، إنها النطفة التي بشرت بـ "ميلاد"، هكذا سمى دقة ابنته التي وُلدت في الثالث من فبراير/شباط 2020، لعله كان يستبشر بالاسم أن يكون ميلادا جديدا له ولابنته، إذ قال عن سبب التسمية في رسالة كتبها من داخل السجن: "أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا". إلا أن الأسر ظل حائلا بين حنان الأب وبر البنت والمستقبل المُشتهى.
وليد دقة.. الأديب الذي كانت الكتابة خلاصه من الأسر
حصل الشهيد وليد دقة على الثانوية العامة عام 1979، من مدرسة "يمه" الثانوية الزراعية التي كانت تتبع لقسم التربية والتعليم الإسرائيلي. ومنذ بداية سجنه انخرط في جلسات ومحاضرات ثقافية، واهتم بالترجمات المتنوعة لبرامج وكتابات عسكرية وثقافية وغيرها خدمة للأسرى أو لاستخدامها في مقالات للنشر. وفي عام 2010 حصل على درجة البكالوريوس في دراسات الديمقراطية المتعددة التخصصات، من "الجامعة المفتوحة الإسرائيلية". وفي عام 2016، حصل على درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية "مسار الدراسات الإسرائيلية " من جامعة القدس. وظل حلم الدكتوراة الذي راوده طويلا أسيرا لـ"ميلاد المستقبل المشتهى".
انضم الشهيد وليد دقة إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1983، وفي عام 1984، كان من بين 3 عناصر من مجموعته تم اختيارهم لتلقي تدريبات عسكرية وأمنية. وساهم في تشكيل جهاز عسكري سري يعمل في الداخل المحتل، حيث سافر إلى سورية، وتلقى تدريبات لمدة شهر في أحد المعسكرات التابعة للجبهة قرب الحدود الأردنية. وكانت مهمة الجهاز، جمع المعلومات حول قادة ومسؤولين إسرائيليين شاركوا في اجتياح لبنان، وارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا؛ فضلا عن اختطاف عسكريين بهدف مبادلتهم بأسرى فلسطينيين وعرب معتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
وعقب اعتقاله، صار وليد دقة عضوا في اللجنة المركزية لحزب التجمع الوطني الديمقراطي في الداخل الفلسطيني المحتل، الذي تأسس عام 1995.
كان وليد دقة شغوفا بالكتابة الأدبية التي قال إنها تساعده على الصمود داخل الأسر، والنفق الذي يحفره تحت أسواره ليبقى على صلة مع الحياة، وكان من أشهر ما كتب "يوميات المقاومة في جنين"، الكتاب الذي وثق فيه شيئا من تاريخه النضالي، وآرائه في تجربة فلسطين المحتلة عام 1948، وكفاحها المسلح.
أنهى دقة فترة محكوميته البالغة 37 عاما منذ 24 مارس/آذار 2023 ، لكنه ظل معتقلا بشكل تعسفي، وظل الاحتلال الإسرائيلي يتعمد الإهمال الطبي لصحته ليحرمه من صورة "القدّيس الشهيد" (كما تسمّى في الأدبيات الإسرائيلية)، من أجل مشهدية كهذه يكون فيها دقة رهينة إعدام بطيء. حالما بـ"ميلاد" مستقبل حر لم يره، لكنه سيجيء ولو بعد حين، وسيظل "القديس الشهيد" رغم أنف الاحتلال.