"نافالني سُمم في بلد، وعاد إلى بلد آخر، وقضى في بلد ثالث"، هكذا يلخّص عضو المجلس الإقليمي لحزب "يابلوكو" (تفاحة) الليبرالي المعارض في موسكو، أليكسي كرابوخين، التغييرات التي طرأت على السياسة الداخلية الروسية منذ واقعة تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، عام 2020، مروراً بعودته إلى روسيا ووصولاً إلى وفاته في ظروف غامضة في المستعمرة العقابية "الذئب القطبي" ذات النظام الخاص، يوم الجمعة الماضي.
وأعلنت أرملة نافالني، يوليا نافالنايا، أول من أمس الاثنين، مواصلة كفاح زوجها، متهمة السلطات الروسية بإخفاء جثته لأنها "تنتظر لكي يختفي أثر سم نوفيتشوك من جسم نافالني"، في إشارة إلى محاولة تسميم تعرض لها نافالني بالغاز نفسه في عام 2020.
وأضافت في فيديو نُشر على مواقع التواصل: "بوتين قتل زوجي". من جهته ذكر فريق نافالني، أول من أمس، أن المحققين سيجرون على مدى 14 يوماً على الأقل "فحصاً" لجثة نافالني قبل تسليمها، إذ مُنعت والدته ليودميلا نافالنايا من الوصول إلى الجثة طيلة الأيام الماضي.
في المقابل، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، أول من أمس الاثنين، إن الكرملين لا يقرّر ما يحصل لجثة نافالني ولا موعد تسليمها، فيما اعتبر، أمس الثلاثاء، أن اتهامات نافالنايا "باطلة"، وأن بوتين لم يشاهد فيديو الأخيرة.
وقال بيسكوف أمام الصحافيين: "بالطبع إنها اتهامات باطلة وفظة بحق رئيس الدولة الروسية. لكن نظراً إلى أن يوليا نافالنايا باتت أرملة قبل بضعة أيام، لن أعلّق" على الأمر.
ورغم إشارته إلى أنه ليس على دراية ببيان نافالنايا، اعتبر بيسكوف أنه إذا كان بيانها يحتوي على مثل هذه الاتهامات (استخدام غاز الأعصاب)، فهي "اتهامات لا أساس لها، لأنها غير مدعومة بأي شيء، ولم يتم تأكيدها".
أليكسي كرابوخين: لم أتوقع أن تصل الأمور إلى درجة وفاة نافالني
ويقول كرابوخين في حديث لـ"العربي الجديد": "كنت أتوقع أن نافالني سيبقى خلف القضبان طالما بوتين في السلطة، ولكنني لم أتوقع أن تصل الأمور إلى درجة وفاته".
ويحمّل السلطات الروسية المسؤولية عن تدهور صحة نافالني، سواء عن عمد أو بالتقصير، مضيفاً أنه "بعد تعرضه لأخطر عملية تسميم تتطلب فترة نقاهة طويلة، كان نافالني يتعرض فعلياً لتعذيب على مدى ثلاث سنوات، وكان يتم إيداعه رهن الحبس الانفرادي بشكل مستمر".
وحول رأيه بتداعيات وفاة نافالني على السياسة الداخلية الروسية، يتابع: "زادت وفاة نافالني من حالة الخوف في المجتمع الروسي، بعد عامين من توسع رقعة القمع التي تجعل من الصعب ظهور زعيم جديد للمعارضة غير النظامية يستطيع توحيد أنصاره، بعد أن بات أبرز رموزها إما في السجون وإما في المنفى".
وبذلك يهيمن حدثان رئيسيان على مشهد السياسة الداخلية الروسية مع حلول الذكرى الثانية لبدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا، هما الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في منتصف مارس/ آذار المقبل، وواقعة وفاة نافالني، وذلك وسط غياب لأي صوت مؤثر مناهض للحرب داخل البلاد بعد إغلاق أبرز وسائل الإعلام المستقلة خلال أيام معدودة بعد بدء أعمال القتال.
في ظل التوقعات المؤكدة بفوز الرئيس الحالي فلاديمير بوتين بنسبة كبيرة في الانتخابات، بات أبرز رموز المعارضة "غير النظامية" الروسية إما خلف القضبان وإما في المنفى، وصولاً إلى وفاة نافالني، الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى الوجه الأبرز للمعارضة الروسية في الداخل.
وتقتصر المشاركة في الانتخابات الرئاسية على أربعة مرشحين، هم بوتين، بالإضافة إلى نيكولاي خاريتونوف مرشحاً للحزب الشيوعي الروسي، والذي يعد ثاني أكبر قوة سياسية في البلاد بعد حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، وليونيد سلوتسكي عن "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، وفلاديسلاف دافانكوف عن حزب "أناس جدد" المتمثل في البرلمان للمرة الأولى (انتخابات 2021)، وهم جميعاً لا يعارضون الكرملين في القضايا الحيوية.
توعّد غربي لروسيا
ومنذ وفاة نافالني برزت مواقف غربية عدة منددة، وسط توعد بعقوبات جديدة تحديداً من دول الاتحاد الأوروبي. واستدعت كل من السويد وفنلندا وألمانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، أول من أمس، سفراء روسيا لديها، لطلب توضيحات بشأن وفاة نافالني، فيما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، أول من أمس، أنه "ينظر في فرض عقوبات إضافية" على موسكو بعد وفاة نافالني في السجن، علماً أنه سبق أن حمّل بوتين و"زمرته" المسؤولية المباشرة عن وفاته.
من جهته تعهد مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الاثنين بمساءلة بوتين عن وفاة نافالني بعد أن التقى أرملته. وكتب على منصة "إكس"، "لقد أعربنا ليوليا نافالنايا عن خالص تعازي الاتحاد الأوروبي. وستتم مساءلة فلاديمير بوتين ونظامه عن وفاة أليكسي نافالني".
وكان وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون قد قال، السبت الماضي، إن بلاده ستتخذ إجراءات بشأن وفاة المعارض الروسي.
مع ذلك، يقول الخبير في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى، إيفان بريوبراجينسكي، إن الغرب لا يمتلك أوراق ضغط قوية على الكرملين.
ويضيف بريوبراجينسكي، والذي يحمل درجة الدكتواره في العلوم السياسية، في حديث لـ"العربي الجديد" من العاصمة التشيكية براغ، إنه "لا شك في أن نافالني اغتيل، أياً كان السبب المباشر للوفاة الناتجة عن سنوات طويلة من الاعتقال في ظروف أشبه بتعذيب، وفي غياب العون الطبي وتحت الضغط النفسي الدائم".
إيفان بريوبراجينسكي: الغرب الجماعي غير مستعد للذهاب إلى إجراء أكثر حزماً ضد بوتين
ومع ذلك، يجزم بأن المتسببين في وفاة نافالني سيفلتون من العقاب، مضيفاً: "يُعرب القادة الغربيون عن سخطهم، ويتوعدون السلطات الروسية. ولكن ما هي الأدوات التي يملكونها لذلك؟".
ويلفت إلى أنه "قد فُرضت على بوتين عقوبات تصل إلى حد إدراجه على قائمة المطلوبين التابعة للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن الغرب الجماعي غير مستعد للذهاب إلى إجراء أكثر حزماً كاعتبار وجوده على رأس السلطة غير شرعي، مثلاً".
ويتوقع أن "الكرملين لن يُعاقب وسيواصل الحرب مع أوكرانيا"، فيما يخلص إلى أن "بوتين أظهر للجميع بوضوح أنهم سيضطرون للحديث معه عن أوكرانيا حتى وإن كانوا يعتبرونه مجرماً وقاتلاً".
تغيير السلطة عبر الانتخابات
بموازاة ذلك، يعتبر المدوّن المعارض الهارب، مكسيم كاتز، أن "روسيا وصلت اليوم إلى مأزق سياسي في ظل بلوغ نظام حكم الفرد ذروته، وانعدام النصر في الحرب، وزيادة عمر الحاكم المستبد"، البالغ 71 عاماً، متوقعاً أن "نهاية النظام القائم باتت قريبة".
وفي مقطع فيديو بعنوان "تغيير السلطة بالقوة. هل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري في روسيا؟"، والذي حظي بأكثر من مليون مشاهدة على منصة "يوتيوب"، منذ الأربعاء الماضي، يرى كاتز أن الطريقة الأسهل والأكثر أماناً للجميع هي تغيير السلطة عبر الانتخابات.
مكسيم كاتز: روسيا وصلت اليوم إلى مأزق سياسي
ويستدرك: "لكنها تكاد تكون مستحيلة الآن"، مرجحاً أن "السيناريوهات الأكثر واقعية هي الانقلاب البيروقراطي أو انقسام النخب وتفكيك النظام أو احتجاجات جماهيرية". ومع ذلك، يلفت كاتز إلى احتمال آخر في زمن الحرب "هو حدوث انقلاب عسكري -طريقة منتشرة للغاية في أميركا اللاتينية- وإن كانت غريبة بالنسبة إلى روسيا".
وتجدر الإشارة إلى أنه رغم استقرار الأوضاع السياسية الداخلية الروسية على مدى العامين الأخيرين، إلا أن تمرد زعيم مرتزقة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، في يونيو/ حزيران الماضي، هز روسيا بعد أن سارت قواته نحو العاصمة موسكو قبل أن تهدأ الأمور نسبياً حتى شهر أغسطس/آب من العام نفسه عندما أعلن عن مقتله في تحطم طائرة كانت تقله وتعمد السلطات الروسية إلى إخضاع المرتزقة بشكل كامل لوزارة الدفاع.