تستمر جهود الوساطة الأفريقية لنزع فتيل الصراع العسكري المحتدم منذ عامين في إقليم تيغراي في شمال إثيوبيا، والذي أدى إلى مقتل الآلاف من سكان الإقليم وتشريد الملايين، فضلاً عن تدمير البنية التحتية لإقليم تيغراي، الذي يعاني من أوضاع إنسانية قاسية بفعل غياب الخدمات الأساسية. ولكن السؤال المطروح اليوم هو إلى أي مدى يمكن أن تتمخض هذه الجهود عن نتائج تنهي النزاع، خصوصاً في ظل معطيات برزت في الأيام الأخيرة أضفت مزيداً من الشكوك حول مآل محادثات السلام.
وكان الاتحاد الأفريقي قد دعا طرفي النزاع إلى محادثات في جنوب أفريقيا بوساطة مبعوث الاتحاد للقرن الأفريقي أولوسيجون أوباسانجو. وأنعشت وساطة الاتحاد الأفريقي، بعد نحو عامين من اندلاع الصراع في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، الآمال بوجود فرصة لإنهاء القتال الدامي بين الحكومة الإثيوبية الاتحادية و"جبهة تحرير شعب تيغراي"، وجلوس الطرفين على طاولة المفاوضات في جنوب أفريقيا.
صعوبات أمام الاتحاد الأفريقي لإنهاء نزاع تيغراي
غير أن هذه الوساطة بدا أنها تواجه تحديات وعقبات كثيرة في الأيام الأخيرة، تجعل فرص نجاحها ضعيفة. فسرعان ما أكدت مصادر دبلوماسية لوكالتي "رويترز" و"أسوشييتد برس"، يوم الجمعة الماضي، أن هذه المحادثات التي كانت مقررة نهاية الأسبوع الماضي لن تجرى كما هو مخطط لها وتم تأجيلها لأسباب "لوجستية".
كما أعلن الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، وهو فاعل رئيسي في الجهود التي يقودها الاتحاد الأفريقي لإحلال السلام في إثيوبيا، يوم الجمعة الماضي، أنه لن يحضر المفاوضات، قائلاً في رسالة إلى رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد "سأكون ممتناً لو تلقيت مزيداً من الإيضاح بشأن هيكلية المحادثات وصيغتها".
جاء ذلك بالتزامن مع تواصل المعارك والهجمات بين الجانبين، وآخر ما أفيد عنه شن غارة جوية على قرية في إقليم تيغراي، يوم الجمعة الماضي، ما أدى لمقتل 5 أشخاص وإصابة 37 آخرين. وتعقّد هذه التطورات مهمّة التوصل إلى حل دائم لإنهاء النزاع بين الأطراف الإثيوبية في الإقليم، وفق مراقبين.
مسؤولون أميركيون توجهوا الشهر الماضي، في مهمة سرية، إلى إقليم تيغراي ثم إلى جيبوتي بهدف إجراء محادثات سلام
كذلك، بدت جهود سرية قامت بها الولايات المتحدة في الأشهر الماضية لعقد محادثات سلام غير مجدية. وقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في تقرير لها يوم السبت الماضي، أن "مسؤولين أميركيين توجّهوا الشهر الماضي، في مُهمة سرية، إلى إقليم تيغراي الإثيوبي ثم إلى جيبوتي بهدف إجراء محادثات سلام إثيوبية".
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين غربيين وآخرين في تيغراي قولهم إن "طائرة عسكرية أميركية صغيرة أقلت دبلوماسيين رفيعي المستوى، بينهم المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي مايك هامر، توجهت في مهمة سرية إلى إقليم تيغراي الشمالي بهدف إجراء محادثات لوقف إراقة الدماء في إثيوبيا". وأضاف المسؤولون أن "الطائرة المذكورة اتخذت إجراءات لتجنب اكتشافها، وتوجهت أولاً إلى تيغراي ثم إلى جيبوتي بهدف إجراء جولة من محادثات السلام".
وأوضحت أن الاجتماع حضره رضوان حسين مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، ووزير العدل جيديون تيموثيوس، إلى جانب مسؤولين من تيغراي. وبحسب "نيويورك تايمز"، فقد عقدت الولايات المتحدة منذ مارس/ آذار الماضي ثلاثة اجتماعات سرية خارج إثيوبيا، في جيبوتي وسيشل، جمعت القادة المتحاربين لأول مرة منذ اندلاع الحرب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
وكانت الحكومة الإثيوبية أعلنت الأسبوع الماضي استعدادها للدخول في محادثات سلام مع "جبهة تحرير تيغراي"، وذلك وفق بيان لرضوان حسين، الذي قال في تغريدة على "تويتر"، إن الحكومة المركزية وافقت على دعوة الاتحاد الأفريقي، وهي متمسكة "بمواقفها السابقة" في أن تتم المحادثات من دون شروط مسبقة.
كذلك، أعلنت "جبهة تيغراي" الأربعاء الماضي استعدادها للمشاركة في محادثات السلام في جنوب أفريقيا، معربة عن التزامها "بحل سلمي للصراع الحالي". لكنها طلبت إيضاحات بشأن بعض القضايا، نظراً لعدم التشاور معها قبل توجيه الدعوة، وفق بيان صحافي للجبهة.
وتأتي استجابة الجبهة، بعد إعلانها في سبتمبر/ أيلول الماضي عن هدنة مشروطة من جانب واحد، واستعدادها للدخول في محادثات سلام برعاية الاتحاد الأفريقي بعدما كانت تتحفظ على رعاية الاتحاد لهذه المفاوضات.
فقد قال زعيم "جبهة تيغراي"، ديبرتسيون جبريمايكل، في رسالة مفتوحة وجهها إلى مجلس الأمن الدولي الشهر الماضي، إن "رفع الحصار عن الإقليم وسحب جميع القوات الإريترية هو أمر أساسي للوقف المستدام لإطلاق النار، وكذلك السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم، وإرجاع الأراضي التي هي معترف بها دستورياً إلى تيغراي، وإعادة الخدمات الأساسية إلى الإقليم".
ترى بعض الأطراف أن المفاوضات لن تأتي بنتائج ملموسة على أرض الواقع
شكوك إثيوبية حول مفاوضات السلام
في السياق، يقول الصحافي والباحث الإثيوبي، عبد الشكور عبد الصمد، في حديث مع "العربي الجديد"، حول مسار التفاوض الحالي برعاية الاتحاد الأفريقي، إن "هناك شكوكاً من قبل بعض الأطراف التي ترى أن المفاوضات لن تأتي بنتائج ملموسة على أرض الواقع، باعتبار أن الدعم الذي تجده جبهة تيغراي من أطراف إقليمية ودولية، قد يطيح بكل سبل إجراء المفاوضات، وبالتالي ستكون تأثيرات هكذا عملية غير إيجابية وبلا جدوى في الداخل الإثيوبي".
ويضيف "في المقابل، هناك أطراف إثيوبية تؤمن بأن المفاوضات إذا بدأت، ستؤدي على الأقل لوقف نزيف الدم في إقليم تيغراي، وهذا ما يمكن أن يمهّد مستقبلاً لمحادثات سلام أوسع بين الحكومة الإثيوبية والجبهة".
وبحسب عبد الصمد، فإن "ما سيعقّد محادثات السلام، هو ماذا بعد المفاوضات من خيارات؟ فالجبهة لا تريد أن تلقي سلاحها وترى أنه الضامن لتحقيق مطالب الإقليم، بينما تبدو الحكومة الإثيوبية حريصة على نزع سلاح الجبهة حتى لا تتحوّل مستقبلاً إلى كيان موازٍ للدولة".
ويرى المتحدث نفسه أن "الحكومة الإثيوبية بحاجة إلى هدنة وسلام في إقليم تيغراي، بحسب ما يمكن قراءته من التصريحات الصادرة عن القيادات في الحكومة، كما أن جبهة تيغراي بادرت سابقاً إلى إعلان استعدادها للدخول في محادثات سلام مع الحكومة المركزية، لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية فرض السلام بين الجانبين في ظل صراع متأصل".
ويتابع "لكن أعتقد أنه لا مفر من إجراء المحادثات بين الأطراف الإثيوبية، وتبدو القوى الدولية بدورها راغبة أيضاً في دفع جهود السلام نحو الأمام، من خلال الضغط على حكومة أبي أحمد لدفعها للتفاوض مع جبهة تيغراي".
ويرى عبد الصمد أن "فرص السلام حالياً هي أكبر بكثير مما كانت سابقاً، ولكن ما لم تحقق جهود الوساطة الراهنة، أي تقدم إلى الأمام، فإن المنطقة ستكون مقبلة على مخاطر أمنية كبيرة، ولهذا يستمر الضغط الدولي للدفع نحو السلام بين الجانبين، فالكل يدرك مخاطر انزلاق المنطقة بأكملها إلى أتون النزاعات والتوترات الأمنية من جديد".
الوساطة الأفريقية في إثيوبيا محكومة بعوامل عدة
من جهته، يقول الباحث الإريتري، عبد القادر محمد علي، المتابع لحرب إقليم تيغراي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "بالنظر إلى أداء الوساطات في المرحلة الماضية، يمكننا القول إن حظوظ أولوسيجون أوباسانجو، لناحية تحقيق اختراق ما في جدار الأزمة، تبقى محل شكّ، وذلك نتيجة لعيوب جوهرية شابت الوساطة الأفريقية منذ البداية".
ويضيف أن "نجاح الوساطة من عدمه، مرتبط بعوامل مختلفة أهمها رغبة الطرفين، في تقريب المسافات والوصول إلى حلول تفاوضية، وهو ما لم يتبلور إلى الآن".
وبحسب عبد القادر، فإن "جبهة تيغراي لديها مجموعة شروط ترى أنها غير قابلة للتفاوض، وتتعلق في مجملها برفع الحصار عن الإقليم وإعادة الخدمات الأساسية، وانسحاب القوات الإريترية والأمهرية (من إقليم أمهرة المجاور) من أراضي غربي تيغراي، وعودة الأوضاع إلى ما قبل تاريخ اندلاع الحرب في 4 نوفمبر 2020".
ويتابع "غير أنها في بيانها الأخير في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، لم تطرح هذه المطالب، وإنما أكدت نقاطاً طرحتها في سبتمبر الماضي تتعلق بعملية ذات مصداقية، وتوسيع الوساطة لتضم مراقبين دوليين مقبولين من الطرفين، إلى غير ذلك مما يسهم في بناء إجراءات الثقة".
عبد القادر: جبهة تيغراي تفضّل الدخول في معركة عض أصابع لفرض وقائع تدعم موقفها في التفاوض حين يأتي أوانه
ويرى عبد القادر أن "استعادة الجبهة دورها في إثيوبيا مرتبط بنتيجة الحرب، وما إن كانت ستختتم باتفاق يتم عبره إعادة استيعابها في الحياة السياسية في البلاد".
ويعتبر المتحدث نفسه أن "خيارات الجبهة محدودة بين القتال حتى آخر جندي أو التنازل عن بعض مطالبها، ويبدو حتى الآن أنها تفضّل الدخول في معركة عض أصابع لفرض وقائع تدعم موقفها في التفاوض حين يأتي أوانه".
الدور الأميركي في الدفع نحو السلام في إثيوبيا
أما بخصوص جهود المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، مايك هامر، في إطار ممارسة الضغوط الدولية على أطراف الصراع لحثهم على التفاوض، فيرى عبد القادر أن المبعوث الأميركي "يعمل على إقناع الطرفين بسلوك طريق التفاوض مستخدماً ما بين يديه من أوراق قوة، والوساطة الأفريقية كواجهة، لكن الموقف الأميركي حرج وحساس بسبب العديد من الاعتبارات المرتبطة بديناميات الصراع الدولي على المنطقة وديناميات الصراع داخل إثيوبيا أيضاً".
ويختم بالقول "في النهاية، الوصول إلى حل نهائي تفاوضي يبدأ من اقتناع أطراف الصراع بذلك، ولا سيما الطرف الحكومي، وعدم وجود هذه القناعة هو ما حال دون تحقيق أي إنجاز ملموس في هذا المضمار خلال قرابة عامين من الحرب".
وفي الإطار نفسه، يقول الباحث السوداني المقيم في أديس أبابا، عباس صالح عباس، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الإدارة الأميركية لديها أوراق ضغط حقيقية ونفوذ على طرفي الصراع، يمكن أن تغيّر من حساباتهما نحو تسوية ما تنهي الحرب بضمانات ورقابة دولية، ولكن لا تزال إدارة الرئيس جو بايدن منخرطة بمستوى أدنى، عبر مبعوثها الخاص إلى القرن الأفريقي".
ويضيف عباس أن "الراجح في ضوء الوساطة المطروحة، أنه من الصعب عدم تحقيق المطالب الخاصة بجبهة تيغراي، والمتمثلة في الإنهاء الفوري لحصار الإقليم، والسماح بمرور المساعدات من دون قيود وإعادة الخدمات، وكذلك لا يبدو أنها ستتحقق كشروط مسبقة، وحتى في أي مفاوضات مباشرة ستكون أيضاً هذه القضايا محل خلاف قد تعرقل التوصل لتسوية أو تطيل أمد المباحثات بين الجانبين".
عباس: السيناريو الأقرب للتحقق هو تفاهمات هشة يسهل لأي طرف خرقها أو التراجع عنها أو حتى انهيارها والعودة للقتال
تفاهمات إثيوبية هشة
وعلى الرغم من أن وساطة الاتحاد الأفريقي وجهود المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، لإخماد نار الحرب في إقليم تيغراي، تواجه صعوبات في آلية إقناع طرفي الصراع بالحوار، إلا أنه وفق مراقبين، فإن هذه الجهود يمكن أن تقود مستقبلاً إلى تفاهمات تمهّد لاتفاق حتى وإن كان لا يضمن كلياً إنهاء القتال بين الجانبين.
وفي هذا السياق، يقول عباس "إذا تحلّى طرفا الصراع بالإرادة اللازمة للتوصل لتسوية لإنهاء النزاع، فإن عملية الوساطة بوضعها الراهن لا أعتقد أنها ستنجح، لا سيما وأنها أصبحت محل تشكيك من جانب جبهة تيغراي، وبالتالي السيناريو الأقرب للتحقق هو تفاهمات هشة يسهل لأي طرف خرقها أو التراجع عنها أو حتى انهيارها والعودة للقتال".
ويشير عباس إلى أن "إقليم تيغراي دخل مرحلة جديدة من النضال السياسي، فلم تعد جبهة تيغراي هي الفاعل الرئيس والوحيد في ما يتعلق بمصير شعب الإقليم، وبالتالي لا الجبهة ولا القوى الأخرى تبدو مهتمة بالعودة إلى السلطة الفيدرالية كحكام، بل تفكيرها ينصب على البحث عن تسوية على المستوى الوطني، للدفاع عن نظام الفيدرالية الأثنية كقاسم مشترك مع قوى سياسية أخرى، ومن ثم إيجاد نظام كونفدرالي موسّع يضمن للإقليم ترتيبات سياسية مستقبلية".
وحول السيناريوهات المتوقعة للحرب في إقليم تيغراي، يعتقد عباس أنه "في حال لم تتحقق تسوية (عبر الوساطة الأفريقية) توفر للإقليم ضمانات مستقبلية وحماية من أي تهديدات لكيانه، سيكون الخيار الوحيد أمام قيادته هو الاستمرار في حرب استنزاف طويلة، والتكيّف مع هذا الخيار على الرغم من تكلفته الباهظة على كافة المستويات".