انضمّ وزير الدفاع البريطاني بن والاس إلى أكثر من 40 نائباً في البرلمان أعلنوا نيّتهم التنحّي قبل الانتخابات العامة المقبلة والمقررة بعد عام ونصف على أبعد تقدير. إلا أن والاس ليس كغيره من النوّاب البريطانيين، فهو الأكثر شعبية على الإطلاق منذ بدء الغزو الروسي على أوكرانيا، كما أنه ظلّ حتى وقت قريب "البديل المشتهى" للزعيم الأسبق بوريس جونسون ثم لخليفته ليز تراس، مع أنه سارع للإعلان عن عدم رغبته في خوض السباق إلى الزعامة لأن "التهديد الحالي يتطلّب مني البقاء في منصب وزير الدفاع".
بعد مرور أكثر من سنة، لم يتبدّد التهديد الروسي، لا بل وثمة تهديدات إضافية حذّر منها والاس في لقائه مع صحيفة "صنداي تايمز" عندما أشار إلى تصاعد خطر "الانجرار إلى حرب في أفريقيا" حيث تنظيمي "القاعدة" و"داعش" يهددان "مستقبل الدول القومية"، إضافة إلى حديثه عن أنشطة الصين في بحر الصين الجنوبي ورغبتها في الاستيلاء على تايوان التي "تنتج 90 بالمائة من أقوى الرقاقات في العالم في مصنع واحد فقط، حرفياً، ما يجعلنا ضعفاء للغاية على أعتاب حرب باردة".
وبرغم استمرار التهديدات والتحديات، قرّر والاس الانسحاب بعد أيام قليلة من التصريح المثير للجدل الذي "أغضب" الأوكرانيين، حيث طلب منهم أن يبدوا "بعض الامتنان" لقاء الاستجابة الاستثنائية التي أبدتها المملكة المتحدة وحليفتها أميركا، قائلاً: "لسنا خدمة أمازون لتوصيل الأسلحة إلى أوكرانيا".
في حديث لـ"العربي الجديد"، قال كبير المحللين العسكريين والاستراتيجيين في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بن باري، إن أسباباً كثيرة تقف وراء هذا القرار المفاجئ من أكثر الشخصيات شعبية في حكومات "حزب المحافظين" المتعاقبة، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تراجع قدرة الحزب الحاكم على خوض الانتخابات العامة المقبلة و"تدهور غير مسبوق" في شعبيته وسط الناخبين اليائسين تماماً.
كما أشار باري إلى "الخيبة" التي شعر بها والاس بعد أن "فشلت" كل المساعي لتولّيه منصب أمين عام حلف شمال الأطلسي "ناتو"، إذ رفضت الولايات المتحدة دعمه، بينما فضّل الحلفاء الأوروبيون دعم أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، لا يستبعد باري أن يكون الانسحاب قد جاء "لأسباب شخصية" تماماً، الأمر الذي أكّده والاس نفسه في لقائه مع "صنداي تايمز"، حين قال إنه أمضى السنوات السبع الماضية "مع ثلاثة هواتف بجوار سريري"، معبّراً عن حاجته لقضاء الوقت مع أولاده الثلاثة، وعن رغبته في استعادة إيقاع الحياة الطبيعي بعد 24 سنة من العمل الحكومي.
"أفضل وزير دفاع"؟
وكان والاس (53 عاماً) قد شغل منصب وزير الدفاع قبل أربع سنوات، ليكون بذلك أول وزير دفاع في حكومات حزب المحافظين يتولّى المنصب كل تلك المدة، منذ ونستون تشرشل الذي شغله بالتوازي مع رئاسته الوزراء خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن والاس "أفضل وزير دفاع عرفته المملكة المتحدة خلال الخمسين سنة الفائتة" بحسب باري، حيث "سيذكره التاريخ كواحد من أفضلهم وأكثرهم تأثيراً".
وليست مسألة "الإنفاق الدفاعي" والاستجابة الاستثنائية ضد الغزو الروسي هي الإرث الوحيد الذي سيحمله والاس إلى "الحياة العادية" الخريف المقبل، فهو إلى جانب خدمته الأطول كوزير للدفاع، شغل منصب وزير الأمن من يوليو/تموز العام 2016 إلى يوليو/تموز العام 2019، وكان في مواجهة هجوم ويستمنستر الإرهابي وتفجير مانشستر وحوادث التسميم في سالزبوري وغيرها. كما أنه دائماً ما صوّت، وفقاً لموقع "ذا وورك فور يو" المتخصص بالشفافية البرلمانية، لصالح استخدام القوات البريطانية في العمليات القتالية الخارجية، بما فيها الضربات الجوية ضد تنظيم "داعش" في سورية والعراق.
في المقابل، صوّت والاس ضد مطلب "الشروط" الواجبة قبل أي عمل عسكري رداً على استخدام نظام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية في سورية. أما فيما يخص الحرب على العراق فقد صوّت والاس دائماً لصالح إجراء تحقيقات حولها. يبقى أن الإنجاز الأكبر بالنسبة إليه شخصياً هو "إنهاء فترة طويلة من التخفيضات في وزارة الدفاع" وإقناع "داونينغ ستريت" بأن الدفاع هو "جوهر".
"العودة إلى الحياة الطبيعية"
يدافع والاس اليوم عن رغبته في العودة إلى ما سمّاها "الحياة الطبيعية"، مع أن مسيرته المهنية التي بدأها في سن مبكرة لم تكن عادية ولا "طبيعية" في أي مرحلة من المراحل، إذ ترك المدرسة مبكراً ليعمل مدرب تزلج في النمسا قبل أن ينضم إلى القوات المسلحة الاسكتلندية في سن العشرين حيث خدم خلال التسعينيات في أيرلندا الشمالية وألمانيا وقبرص وأميركا الوسطى، ثم طرق باب السياسة كعضو في البرلمان الاسكتلندي عام 1999 والبرلمان البريطاني عام 2005 قبل أن يشغل العديد من المناصب من بينها وزير الأمن ثم وزير الدفاع. وبرغم إصراره على أن التنحّي لا علاقة له بالأزمة التي يعيشها المحافظون، إلا أنه لم يتردّد في الإفراج عن "وصيّته" للزعيم الحالي ريشي سوناك، متعهداً بالضغط عليه لكي يفي بوعوده المتعلقة بالانفاق العسكري. وهو إذ يطالبه بالوفاء بما وعد به، يلمّح إلى عدم وفاء الزعيم الشاب الذي توسّموا به خيراً، بكل ما تعهّد به مع وصوله إلى الزعامة، لا على الصعيد العسكري ولا الاقتصادي ولا المعيشي ولا الخدماتي ولا حتى في ملف الهجرة.
وما يؤكد نظرية "اليأس" من أداء الحزب الحاكم ويعزز الدوافع وراء الاستقالات التي فاقت الأربعين استقالة، هو كشف والاس النقاب عن "ورقة استراتيجية الدفاع" قبل أن تعلن عنها الحكومة، متحدثاً عن مخاوفه حيالها وعن عدم وجود أي أموال جديدة للقوات المسلحة على الرغم من الغزو الروسي على أوكرانيا.
يُذكر أن بريطانيا هي واحدة من عدد قليل من الدول التي لم تجر مراجعة لاستراتيجيتها الدفاعية وزيادة الإنفاق العسكري في ظل الغزو الروسي، كما أن المراجعة الأخيرة التي أعلن عنها سوناك قبل أشهر وصفت بأنها مجرد "تحديث مؤقت" مثيرة انتقادات "حزب العمال" المعارض، حيث وصفها وزير الدفاع في حكومة الظل جون هيلي بـ"غير الكافية" إذ "يتم تقليص حجم الجيش البريطاني إلى أصغر حجم له منذ نابليون، ولا توجد حتى الآن خطة لضمان الوفاء بالتزامات الناتو بالكامل".
وستحدّد الورقة الاستراتيجية للدفاع والتي من المقرر الإعلان عنها في البرلمان اليوم، كيفية تحديث الجيش والتكيف مع "المشهد العالمي المتغير"، إضافة إلى كيفية إعطاء الأولوية للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا.
"هروب جماعي"
يبقى أن استقالة والاس لا يمكن النظر إليها كأمر طارئ ومستقل عن أحداث السنتين الماضيتين، كما لا يمكن فصلها عن غيرها من الاستقالات التي يغلب عليها طابع "الهروب" و"النجاة" قبل غرق الحزب الحاكم بمن فيه. ومن الجدير ذكره أن 68 نائباً أعلنوا نيّتهم التنحي قبل الانتخابات العامة المقبلة، من بينهم 43 من "حزب المحافظين" وهي أكبر نسبة "هروب" من حزب حاكم في المملكة المتحدة منذ انتخابات العام 2010 عندما استقال 100 نائب من حزب العمال في أعقاب فضيحة النفقات.