في قرارها يوم الأربعاء بإرسال ثلاثة آلاف جندي إلى أوروبا (1000 إلى رومانيا و1700 إلى بولندا و300 إلى ألمانيا، 1700)؛ شددت الإدارة على أن هذا الإجراء "مؤقت، وأن القوات لن تدخل أوكرانيا". مع ذلك أثارت الخطوة بعض اللغط والتحفّظ، ولو بأصوات خافتة أو ضمنية، علماً بأن الإجماع السياسي الواسع في واشنطن متوفر حول "ضرورة التصدي" للرئيس بوتين. لكن عندما يصل الأمر إلى التدخل العسكري، ولو رمزيا وبمهمة دفاعية رادعة كما قال البنتاغون؛ عندئذ تنتعش الهواجس. فالذاكرة الأميركية لم تنسَ بعد أن التدخّل في فيتنام بدأ بحفنة صغيرة من القوات بذريعة توفير المساندة لسايغون، لكنها جرّت إلى دفعات انتهت إلى تورّط بنصف مليون جندي. ولا شك في أن الظروف وطبيعة الصراع مختلفة الآن، ولا تصحّ مقارنتها مع الحالة الأوكرانية الراهنة، ولا خصومة اليوم بين موسكو وواشنطن هي ذاتها التي كانت آنذاك. لكن المكتوي بالتدخل وكلفته وتداعياته منذ فييتنام وأفغانستان والعراق؛ لا ينسى ولا يحتمل أن يأخذ بسهولة أي محاولة تعيد فتح دفتر التدخلات.
الاعتراض بالصوت العالي اقتصر لغاية الآن على قلة من الجمهوريين المناصرين للرئيس ترامب في الكونغرس، وبخاصة في مجلس الشيوخ. حيث تبنّوا موقف ترامب نفسه، بأن على أوروبا الدفاع عن نفسها. أما الغالبية من الحزبين فترى أن هذه فرصة لإعادة تعزيز وحدة حلف "الناتو" الذي تزعزت روابطه في عهد الإدارة السابقة. كما أن الشريحة الواسعة، والتي ما زالت تتعامل مع موسكو بذهنية الحرب الباردة؛ متوجسة من نوايا بوتين، "الذي يسعى إلى استعادة حجم الإمبراطورية السابقة ومكانتها"، كما يقول بعض رموزها.
استندت الإدارة إلى هذه الأجواء أساساً في حيثية قرارها الذي بدا وكأنه يتوسل الحشد العسكري على غرار ما فعل بوتين؛ لانتزاع التنازلات. فالكرملين استخدم هذه الورقة بدهاء وغموض حيّرا واشنطن وما زالا. نشر مئة ألف جندي على حدود أوكرانيا، وطرح مطالبه، مكرراً أنه لا يزمع اجتياح أوكرانيا. لكن كلما تعثرت جولات المحادثات عمد إلى حشد المزيد من القوات من دون أن يتزحزح عن شروطه التي أبقاها على الطاولة التفاوض. رده مع الوزير لافروف على المقترحات الأميركية؛ زاد العملية ضبابية. رفضها من باب أنها "لم تأخذ الهواجس الروسية في الاعتبار"، لكنه وعد بتسليمها خطياً في الأيام المقبلة مع ترك باب التفاوض مفتوحاً.
الإدارة في هذه الأثناء بدت كمن يلهث وراء التطورات، من دون القدرة على التأثير فيها أو في موقف الكرملين.
في هذا السياق، جاءت خطوة "الدعم والردع"، التي أعلنها البنتاغون الأربعاء. ولكي تكون فعالة؛ تقول الإدارة إنها قد ترسل قوة الـ8500 جندي التي وضعتها قبل أيام في حالة تأهب إذا استدعى الأمر ذلك. بل قد تدفع بالمزيد من القوات الإضافية إذا قضت الحاجة.
وقد فتح ذلك العيون على احتمال أن يكون في الأمر فخ لاستدراج المزيد من القوات الأميركية إلى المسرح الأوروبي الشرقي، وبما يدخل بايدن في دوامة يطول الدوران فيها. ولذلك يقال إنه يجري التركيز بمعاونة الأوروبيين على محاولة إحياء اتفاق "مينسك"، الذي كان تم التوصل إليه في فبراير/شباط 2015 برعاية فرنسا وألمانيا. والذي يدعو إلى فيدرالية أوكرانية تضمن الحكم الذاتي لإقليم دونباس، بعد تجريد الانفصاليين من السلاح، وسحب المتطوعين الروس منه. وقضى الاتفاق أن يصار إلى تضمين هذا الترتيب في دستور أوكراني معدّل. لكن أحداً من الأطراف لم يلتزم بالشق المتعلق به، كما لم تقم واشنطن بالضغط على أوكرانيا للالتزام بالاتفاق.
ومن الخيارات المطروحة، العمل على التوصل إلى "معاهدة" بضمانة أميركية - روسية - أوروبية، تصبح أوكرانيا بموجبها "دولة محايدة"، لكن هل لمثل هذه المبادرة حظ وسط قعقعة السلاح حتى لو انتفت نية استخدامه لدى الجانبين؟
الوظيفة الدبلوماسية للحشود تبقى باستمرار مهددة بالخروج عن القصد أو بالوقوع في مطب أو بحصول خطأ في تقدير التعويل على دور أوروبي للعثور على مخرج، ولو أن الصقور في واشنطن ناقمون على "عدم تطابق" كبار حلفائهم الأوروبيين مع الموقف الأميركي، وخاصة لناحية العقوبات.