لافتة هي أوجه الشبه بين بدايات الاجتياح السوفييتي لأفغانستان في 1979، ونسخته الروسية لأوكرانيا، التي دخلت أسبوعها الثاني. من أبرزها، أن كليهما واجه منذ دخوله مقاومة فعالة انتشرت بسرعة وأربكت انطلاقة الغزو. في الحالة الأولى سارعت واشنطن إلى احتضان "المجاهدين" المحليين، ولاحقاً متعددي الجنسية، ومدّهم بالدعم الذي أنهك موسكو، واضطرها إلى الانسحاب بعد عشر سنوات. والآن تتجه إدارة بايدن نحو تكرار تلك التجربة في أوكرانيا.
الوزير أنتوني بلينكن في جولة أوروبية الآن، يبدو من أجواء الإدارة أن مهمته الرئيسة فيها وضع المداميك الأولى لمثل هذه المواجهة التي يتوقع عسكريون مثل الجنرال المتقاعد باري ماكغفري، أن تستمر "عشر سنوات". المدة نفسها التي استغرقتها المواجهة مع السوفييت في أفغانستان.
في الأيام الأخيرة، جرى التركيز في واشنطن بشكل بارز على جولات القتال التي خاضتها القوات العسكرية والمدنية الأوكرانية في أكثر من منطقة، والتي حسب التقارير، كبّدت القوات الروسية خسائر كبيرة نسبياً، اعترفت موسكو ببعضها. ومنها سقوط قرابة 500 في غضون أسبوع من الجنود الروس، وفق أرقام وزارة الدفاع الروسية. وقد أفاض المراقبون والعسكريون في الإشادة والإعجاب بمدى "فعالية وشجاعة" التصدي لقوات "متفوقة في العدّة والعدد".
كذلك تسلطت الأضواء على الرئيس زيلينسكي، ودوره القيادي "المفاجئ وغير المتوقع في استنهاض" المقاومة. آخر إشادة رددها رئيس الأركان الجنرال مارك ميلي، أمس خلال اجتماعات حلف "الناتو" في بروكسل. ويأتي هذا الكلام على خلفية وعود الإدارة قبل الاجتياح "بدعم أي تمرد يقوم ضد القوات الروسية لو دخلت أوكرانيا". وياتي بالترافق مع تكرار التعهّد، وبلسان الرئيس بايدن، بعدم المشاركة أو القيام بأي دور عسكري أميركي مباشر ضد الروس، ولا فرض حظر جوي فوق أوكرانيا، بل الاكتفاء بالمساندة"، وتوفير المعلومات الاستخباراتية والمساعدة الأمنية لتمكين أوكرانيا من الدفاع عن نفسها". وبذلك ترسم واشنطن إطار المواجهة القادمة بما هي صراع مسلح بين قوة محتلة وقوة محلية تقودها "حكومة في المنفى"، وانضمام عناصر الجيش إليها "بعد انحلاله" كمؤسسة، حسب بعض الجهات. وهكذا تبدو الأمور أنها في طريقها إلى أفغنة أوكرانيا كما حصل ضد السوفييت قبل 42 سنة. وثمة مراهنة ضمنية في هذا الخصوص، إذا حافظت المقاومة على زخمها وبقيت حنفيات الدعم والاحتضان مفتوحة لها، من الإشارات المشجعة حسب هذه القراءة، أن الاجتياح كشف عن "فقر في التخطيط، وخاصة اللوجستي، وخطأ في الحسابات". فالانهيار العسكري والسياسي "لم يحصل بالسرعة المتوقعة"، ولا العمليات العسكرية مضت "كما كان مخططاً لها".
وقد أعطيت إشارات متضاربة، منها ترك قافلة شحنات عسكرية "بطول 40 ميلاً" في الانتظار لأيام. ومنها أيضاً التحوّل من قصف المواقع والمراكز العسكرية إلى استهداف المجمعات والأمكنة المدنية، وهذا تكتيك اعتمدته موسكو في أوائل دخولها إلى أفغانستان، لكن من غير جدوى. وفي التقدير أن وضع روسيا بين فكي كماشة العقوبات القاسية، التي قد تشمل الطاقة كما تنذر واشنطن، من جهة، والمقاومة من جهة ثانية، لا بد أن يفاقم النزف الذي لا تقوى موسكو على تحمّله لفترة طويلة.
لكن مثل هذا السيناريو قد لا يخلو من النظرة الرغبوية والتهويل. ففي الواقع، هناك محاذير يعرفها أميركيون بحكم أن الساحة مختلفة، وكذلك الكرملين وحساباته. هناك شبه إجماع على استبعاد تراجع بوتين، وعلى أن المسالة طويلة، والفرج المتوقع بعيد، ولن يأتي قبل المزيد من تدهور الوضع. وعليه لا وهم بأن لعبة عض الأصابع فيها ستكون مؤلمة. وبقدر ما سيكون هناك تعب في الجانب الروسي، سيقابله تعب أيضاً في الجانب الأوروبي، ولو أن هذا الأخير مسستنفر أكثر بحكم أن الحرب أيقظت لديه مخاوف الحرب العالمية الثانية. والأخطر أن الكرملين هزّ عصا الرعب النووي، وأرسل أمس على ما يبدو رسالة من هذا النوع، عندما ضربت القوات الروسية أطراف محطة نووية لتوليد الطاقة، تبين أنها كانت على الأرجح إنذاراً بأن صواريخه قادرة على ضرب مثل هذا الهدف في أوكرانيا أو في جوارها الأوروبي، لو اشتد عليه الضيق وكثرت الضغوط.
جولة بلينكن الأوروبية التي تشمل عدة بلدان من "الناتو" مجاورة لمسرح الحرب، ومنها مولدوفا المحايدة، تجمع بين محاولة شد العصب والتحضير لمرحلة حرب العصابات الصعبة والمكلفة، بين القوات الروسية الغازية والشعب الأوكراني، بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن التحالف الأوروبي – الأميركي. التخوف ألّا تبقى، أو بالأحرى، ألّا يبقيها بوتين كذلك.
المناطحة ما زالت في أول الطريق. خيط الأمل الرفيع المتمثل باستمرار الحوار بين موسكو وكييف، في معظمه لرفع العتب من زاوية تلبية الأغراض الإنسانية الطارئة. ما عدا ذلك تقرره مجريات الصراع الميداني المخيف.