"واشنطن بوست": عمليات إعدام خارج القانون نفذها الاحتلال في جنين

27 مايو 2023
تحديد ما يشكل خطراً على جنود الاحتلال أمر غامض بموجب القانون الإسرائيلي (ناصر اشتية/Getty)
+ الخط -

في يوم الخميس الموافق لـ 16 مارس/ آذار الماضي، وبينما كان الفلسطينيون يستعدون لقدوم شهر رمضان المبارك، نفذت قوات الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية في منطقة تجارية مكتظة بالمدنيين بوسط مدينة جنين، شماليّ الضفة الغربية، قتلت فيها أربعة شبان فلسطينيين، ومن ضمنهم كان الطفل عمر محمد عوادين.

وتعيد صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في تحقيق لها، صدر الجمعة، رسم ما جرى في 16 مارس وتقدم عبر إعادة بناء ثلاثية الأبعاد تفاصيل المشهد وعملية قتل الطفل عوادين، وذلك عبر مزامنة 15 مقطع فيديو واستعراض العشرات من مقاطع الفيديو الأخرى، بما في ذلك لقطات كاميرات المراقبة من الشركات المحيطة، وتحدثت الصحيفة أيضاً مع تسعة شهود، وحصلت على شهادات من أربعة آخرين.

"وحدة اليمام"

تبدأ الأحداث مع مرور رجل يدفع أمامه عربة أطفال، متجاوزاً سيارة مدنية فضية اللون كان عملاء سريون إسرائيليون بداخلها يستعدون لتنفيذ عملية ضد ناشطَين فلسطينيَّين كانا يسيران في مكان قريب والطفل عوادين، البالغ من العمر 14 عاماً، يركب دراجته. وبعد لحظات، نزل أربعة عناصر إسرائيليين في ثياب مدنية من السيارة وبدأوا بإطلاق النار.

نفذت الغارة ما تُسمى "وحدة اليمام"، وهي وحدة النخبة في شرطة الحدود الإسرائيلية، وتقول الصحيفة إن تحليلها للغارة أسفر عن ثلاث نتائج رئيسية:

قتلت القوات الإسرائيلية عمر، ولم تعلّق سلطات الاحتلال علناً على وفاته، وكان عمر من بين 16 مدنياً على الأقل في المنطقة، حيث استخدم العناصر الإسرائيليون بنادق من طراز AR ومسدسات، وأطلقوا أكثر من 20 رصاصة، وقتلوا "المسلحَين" اللذين لم يكن أي منهما مسلحاً بشكل واضح، وأشارت إسرائيل إلى النشطاء على أنهم "مشتبه فيهم مسلحون" في بيان أولي، لكنها لم تقدم أي دليل يدعم مزاعمها.

كذلك أطلقت القوات الإسرائيلية النار على أحد "المسلحين" عدة مرات، بعد أن أصبح عاجزاً نتيجة إصابته، وهو ما يعني أنه إعدام خارج نطاق القانون، وقال الخبراء للصحيفة إنه "قد ينتهك القانون الإسرائيلي".

وتنتشر مثل هذه الغارات التي تعتمد على التسلل إلى المدن الفلسطينية بثياب مدنية بشكل متزايد في الضفة الغربية التي يعيش فيها أكثر من 3 ملايين فلسطيني تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي.

وكانت العمليات العسكرية الإسرائيلية تحدث عادة في الليل، لكن في هذا العام، وفي ظل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، نُفِّذ عدد متزايد من التوغلات خلال النهار في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان مثل جنين.

وتضيف الصحيفة أنه حتى 15 مايو/ أيار قُتل 108 فلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، بمن فيهم مسلحون ومدنيون على أيدي القوات الإسرائيلية، ضمنهم ما لا يقل عن 19 طفلاً، وفقاً للأمم المتحدة، أي أكثر من ضعف حصيلة العام الماضي عن ذات الفترة.

وقالت الشرطة الإسرائيلية في رسالة بالبريد الإلكتروني، رداً على أسئلة الصحيفة عن مقتل عمر، إن "موضوع التحقيق الخاص بك لعب دوراً نشطاً في أعمال الشغب العنيفة، بينما عرّض حياة الجنود للخطر"، ومن غير الواضح بحسب الصحيفة ما هي أعمال الشغب التي تشير إليها شرطة الاحتلال، حيث إن الأدلة المرئية التي استعرضتها "واشنطن بوست" أظهرت عدم وجود أي أعمال شغب قبل وقوع إطلاق النار.

الغارة

أنهى عمر عمله في إيصال الطرود إلى متجر والده للمستلزمات الطبية في ذلك اليوم حوالى الساعة 3:10 مساءً، وسلّم طرده الأخير في صيدلية قريبة كما تُظهر لقطات كاميرات المراقبة. وتقول والدته إن عمر هو الأكبر بين أبناء الأسرة، وكان لطيفاً بشكل استثنائي، ويحب المزاح، وكان يذهب للسباحة أو التنزه في أيام إجازته.

بعد أن غادر المحل، مرّ بالدراجة متجاوزاً والده الذي كان يقود سيارته في الاتجاه المعاكس، وقال والده محمد: "التقينا بالصدفة. طلب 10 شيكل لشراء بعض الملابس، لكن كان هناك ضابط شرطة خلفي، لذلك لم أستطع التوقف"، عندما عاد عمر إلى متجر والده، بدأت الغارة.

على بعد أمتار قليلة منه، سار ناشطان فلسطينيان، نضال خازم ويوسف شريم، جنباً إلى جنب على طول الشارع، اجتاز خازم وشريم السيارة الفضية الثانية، التي توقفت الآن في حركة المرور، حيث كان عملاء "اليمام" ينتظرون.

بعد بدء إطلاق النار بدأ يوسف شريم بالجري، كما يظهر في مقاطع الفيديو، وتبعه وابل من إطلاق النار، وتظهر مقاطع فيديو أن القوات الإسرائيلية أطلقت النار خمس مرات على الأقل بعد إصابته لأول مرة.

أما نضال خازم، فجثم عنصران إسرائيليان، أحدهما يحمل مسدساً والآخر يحمل بندقية، بجانب جسده وأطلقوا النار على رأسه من مسافة قريبة.

كانت يداه باردتين

كان عمر مستلقياً على الأرض، وقال صاحب محل مستحضرات التجميل في المبنى، عبد الله، للصحيفة: "ذهبت إلى عمر وسألته إن كان قد أصيب. فقال لا". ويتذكر عبد الله أنه لم يكن هناك دم حول عمر، ولكن بعد ذلك بدأ وجهه يتحول إلى اللون الأصفر وازرقت المنطقة المحيطة بعينيه، يضيف عبد الله: "كنت أمسك بيديه وكانتا باردتين مثل الجليد".

قام عبد الله ورجل آخر بقلبه واكتشفا أنه كان مصاباً برصاصة في ظهره، وفي أثناء محاولتهم مساعدته مرت إحدى السيارات التي تُقل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ولم تتمكن أي سيارة إسعاف من الوصول إلى مكان الحادث بسبب الازدحام والفوضى التي أعقبت المداهمة، لذا حمل عبد الله مع آخرين عمر في سيارة ونقلوه إلى المستشفى، ولكنه كان قد مات عند وصوله، بحسب تقرير المستشفى.

قُتل عمر نتيجة وابل الرصاص الذي أطلقه الجنود الإسرائيليون، وكان قد اتصل بوالدته بالفيديو نحو الساعة 11 في ذلك الصباح، وتقول أمه عن تلك المكالمة: "كان جالساً خلف مكتب والده، وكان فخوراً جداً بأن يُظهر لي مدى مسؤوليته".

القتل خارج نطاق القضاء

شاركت صحيفة "واشنطن بوست" النتائج التي توصلت إليها مع خمسة خبراء في القانون الدولي، وقالوا جميعاً إن "الغارة المميتة تبدو وكأنها تنتهك الحظر المفروض على عمليات القتل خارج نطاق القضاء".

وقال فيليب ألستون، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعنيّ بحالات الإعدام خارج القضاء بين عامي 2004 و2010، بعد مراجعة الأدلة التي قدمتها الصحيفة: "يمكن للمرء أن يقول بدرجة من الثقة إن هذه عمليات إعدام خارج نطاق القضاء".

كانت عمليات القتل هذه "غير قانونية إلى حد بعيد" بموجب المعايير الدولية، وفقاً لمايكل لينك، الذي شغل منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية حتى العام الماضي، وأضاف أن عدم المشروعية "زادها الاختيار الواضح لتنفيذ عمليات القتل المستهدف هذه في سوق مدنية مزدحمة".

وتشير الصحيفة إلى أن القانون الإسرائيلي يوفر مزيداً من الحرية لقواتها في أثناء ما تسميه "عمليات مكافحة الإرهاب" حتى حين لا تكون الأهداف مسلحة بشكل واضح، ولم يكن هناك تبادل لإطلاق النار، كما في هذه الحالة.

ووصف مايكل سفارد، محامي حقوق الإنسان الذي طعن في شرعية عمليات القتل المستهدف في المحكمة العليا الإسرائيلية، غارة جنين بأنها "نموذجية للغاية لكيفية تنفيذ إسرائيل لعمليات القوة المميتة".

وقال روني بيلي، المحامي بجمعية الحقوق المدنية في إسرائيل، إن المبدأ الأساسي هو أن "لا تفتح النار إلا إذا كنت في خطر"، لكن تحديد ما يشكل خطراً أمر غامض بموجب القانون الإسرائيلي، وهذا متعمد، كما تقول جماعات حقوق الإنسان.

وضع حكم أصدرته المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2006 تعريفاً واسعاً لعمليات استهداف "المسلحين" المزعومين وإضفاء الشرعية على استهداف الأفراد الذين تعتقد قوات الاحتلال أن لهم "صلات بجماعات مسلحة"، حتى لو لم يشكلوا تهديداً مباشراً وقت العملية.

لكن القانونين، الإسرائيلي والدولي، يتفقان على نقطة أساسية: بمجرد أن يكون الشخص لا يمثل تهديداً، لا يمكن استهدافه بالقوة المميتة. وقال خبراء في القانون الإسرائيلي إن "إطلاق النار على خازم في رأسه، رغم إصابته، من المحتمل أن يكون غير قانوني"، وهو ما يذكر بقضية في عام 2017 عندما حكمت محكمة إسرائيلية على مسعف عسكري بالسجن 18 شهراً لإطلاق النار على فلسطيني جريح ونزع سلاحه.

وخُفِضَت عقوبة المسعف أزاريا إلى 14 شهراً عند الاستئناف، وأُطلق سراحه بعد تسعة أشهر، ووصفه السياسيون اليمينيون المتطرف بالبطل. وكان من بين الذين دافعوا عن قضيته إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي الإسرائيلي حالياً، وهو يشرف على شرطة الحدود، بما في ذلك "وحدة اليمام".

المساهمون