استمع إلى الملخص
- هوكه يثير جدلاً بتصريحاته المثيرة، مثل وصفه للنصب التذكاري للهولوكست بأنه "نصب تذكاري للعار"، مما يسبب انقساماً في الرأي العام الألماني.
- هوكه، مدرس التاريخ، يستخدم التاريخ لتعزيز قناعاته القومية، مشيراً إلى ضرورة افتخار الألمان بإنجازاتهم، رغم الانتقادات والمحاكمات.
ليس غريباً أن تقتحم بعض الأسماء المغمورة رتابة الحياة السياسية، الحزبية الأوروبية، خاصة في أقصى اليمين، حيث يتحول بعضهم إلى جزء منها وآخرون على هامشها. وتقدم تجارب الإيطالية جورجيا ميلوني والهولندي خييرت فيلدرز والفرنسية مارين لوبان، من بين أسماء أخرى كثيرة، بعضهم آت من خلفيات شبه فاشية ونازية، قبل ارتداء ربطات عنق واستخدام بارع للخطاب الشعبوي، أمثلة على التحول إلى جزء من الحياة السياسية المحلية والأوروبية. ولألمانيا، البلد الأكبر والمؤثر في حياة شعوب الاتحاد الأوروبي، نصيبها من تلك المعادلة، حيث يبرز اسم القيادي في حزب البديل لأجل ألمانيا، اليميني المتطرف، بيورن هوكه، بعد تحقيقه الأحد الماضي فوزاً انتخابياً في ولايته تورينغن، شرق ألمانيا.
فمن حافة طرده من الحزب عام 2017، بعد خطاب شهير له في دريسدن، يعود هوكه مرة أخرى متحدياً الإدارة السياسية في برلين، أو الدولة العميقة كما يسميها معسكره. وفي ولايته تورينغن المحكومة من الحزب المسيحي الديمقراطي يسمح نعته بالفاشي. ففي دريسدن، قدم الرجل نفسه آنذاك خطيباً مفوهاً في استدعاء رومانسية القومية الألمانية الماضوية، مركزاً على مفردات الفخر والجمال والعظمة.
وبعد نجاته من الطرد لم يعد يتقيد بسقف أو حدود لياقة حزبية سياسية. فعند النصب التذكاري للهولوكست في برلين خاطب الألمان ذات يوم قائلاً: "نحن الألمان الشعب الوحيد في العالم الذي زرع نصباً تذكارياً للعار في قلب عاصمتنا، ليعبر عن عقلية الشعب المهزومة تماماً"، حيث تصوراته تقوم على "التحول 180 درجة" في علاقة الألمان بماضيهم، وبالتركيز على ثقافة الافتخار القومي والذاكرة الحية لما يسميه بـ"الانجازات العظيمة لمن سبقونا".
وألمانيا، المنقسمة أكثر من أيام وحدتها بين شرق وغرب في 1989، تنقسم أيضاً حيال تفوهات بيورن هوكه. بعضهم يدينها كلغة نازية، كما يفعل اليسار ويمين ويسار الوسط في تورينغن، بينما يراها المجلس المركزي اليهودي في ألمانيا "معاداة للسامية"، على الرغم من علاقة "البديل" الطيبة جداً بالاحتلال الإسرائيلي. وقوته داخل الحزب وفي الشارع تترسخ. فزعيمة "البديل" السابقة فراوكه بيتري التي اعتبرته عبئاً على الحزب، والرئيس التنظيمي للحزب سابقاً، يورغ ميوثن، الذي اعتبر أن ما يجري هو تأسيس لعبادة الفرد، وجدا نفسيهما خارج الحزب، بمساهمة من هوكه، الذي حاصر شخصيات بارزة أخرى فيه توصف بأنها أكثر واقعية.
التاريخ كحقل معركة على العقل الألماني
وحين ظفر بيورن هوكه بـ"نصر تاريخي"، بتحقيقه 33% في انتخابات تورينغن، بدا واضحاً أنه لم يعد من أحد في صفوف "البديل" يرفع صوته ليعتبره مضراً بالحزب. أما على مستوى السياسية الحزبية التقليدية فثمة من يعتبره معضلة قومية ألمانية، إذ إن صعوده الصاروخي يذكرهم بحقبة غير مريحة أثناء صعود أدولف هتلر والنازيين في ثلاثينيات القرن الماضي، كمخلصين للأمة من مشاعر الهزيمة بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
ولأن بيورن هوكه (مواليد 1972) هو مدرس تاريخ، فإن التاريخ عنده حقل مهم في المعركة على الوعي الألماني بذاته القومية. حليفه وزعيم الحزب سابقاً، ألكسندر غاولاند، اعتبر أن له "أهمية خاصة في مجال التاريخ والذاكرة". وبالمناسبة، غاولاند هذا قامت الدنيا عليه ولم تقعد حين شبه الحقبة النازية وهتلر بـ"لطخة براز طائر (كناية عن الحظ في الموروث الشعبي) في قلب ألف عام من تاريخ ألمانيا الناجح".
كذلك يبدو أن للتاريخ نصيبه في تكوين شخصية بيورن هوكه. فعائلته تنحدر من شرق بروسيا السابقة، وانتقلت إلى بلدة صغيرة في شمال الراين وستفاليا، قرب الحدود مع بلجيكا. لذا حين يتحدث عن التاريخ بوصفه أستاذاً فيه فلا تغيب الشكوى من أن مصير الألمان في شرق أوروبا (بروسيا السابقة) قد محي، معتبراً أن ذلك يؤدي إلى أنه "لم يعد هناك ضحايا ألمان، بل فقط جناة ألمان". وعليه، راحت الصحافة الألمانية تمحص في عقل هوكه وطفولته، لتكشف، كما فعلت صحيفة داي تسايت، تأثير والده في طفولته بقصصه عن الوطن المفقود، وبأنه عاش في أسرة تنكر الهولوكست.
وخلال فترة تدريسه طلاباً من خلفيات عرقية غير ألمانية خارج فرانكفورت، قبل انتقاله في 2008 نحو الشرق، توصل إلى قناعة ضمنها في كتابه (Nie zweimal in Denselben Fluß) "أبداً ليس في نفس النهر مرتين" عن فشل مشروع التعددية الثقافية في ألمانيا. ومنذ عام 2013 انخرط بتأسيس الفرع الإقليمي لحزب البديل من أجل ألمانيا - تورينغن. وفي 2015 أسس داخل الحزب مجموعة ساهمت بدفعه باتجاه المزيد من اليمينية المتطرفة، وفقاً لما كشف موقع تسايت أونلاين.
من الواضح أيضاً أن تطرفه المتصاعد لم يتأثر بانتقاد وإدانة تصريحاته العنصرية وإيمانه بنظرية الاستبدال العظيم التي يروج لها اليمين المتطرف، باعتبار اللجوء والهجرة مؤامرة، وغيرها من مواقف متطرفة بحسب ما كشفته مجلة دير شبيغل. بل إن بيورن هوكه لا يرى أن حزب الحركة النازية، الوطني الديمقراطي الألماني (تأسس 1964)، متطرف. كيف لا وقد ضبط الرجل وفقاً لما نشرته صحيفة داي تسايت في 2010 يردد هتافات وشعارات النازيين في مسيرتهم وسط دريسدن.
أمام المحاكم الألمانية اشتهر في دفاعه عن نفسه عند ملاحقته بسبب استخدامه عبارات من قبيل "الكل لأجل ألمانيا" Alles für Deutschland التي كانت تستخدمها القوات الخاصة النازية، محاججاً أنه لا يمكن إلغاء اللغة الألمانية لأن النازيين تحدثوها. ولم تنل محاكماته المتعاقبة من شعبيته، بل توسعت مع توسع نفوذه في حزبه البديل لأجل ألمانيا، ويقدم نفسه على أنه مضطهد، مقارناً نفسه بيسوع وسقراط وجوليان أسانج (ناشر موقع ويكيليكس).
في كل الأحوال، يبدو أن بيورن هوكه فهم التعامل مع سيكولوجية الألمان، وعلى وجه الخصوص في الشرق، بخطاب شعبوي - قومي، مانحاً إياهم مشاعر الاعتزاز والافتخار بتاريخهم، بما فيه النازي. ويبقى من المهم ملاحظة ما إذا كان سيتمكن من اختراق جدران الخريطة السياسية الحزبية السميكة، بداية من صرف نجاحه في ولايته تورينغن، أم أنه سيتحول إلى مثيل ليورغ هايدر النمساوي، الذي قتل في حادث سير في أكتوبر/تشرين الأول 2008، بعد أن دخل المستشارية في النمسا من أوسع أبوابها قبل أن تعزله وتقاطعه أوروبا.