اتسمت العلاقة بين إدارة الرئيس الأميركي الخاسر دونالد ترامب وبين مؤسسات الأمم المتحدة بالتوتر الشديد وحتى العداوة. ومن أجل مد الجسور مع هذه المنظمة ومؤسساتها، سيحتاج الرئيس المنتخب جو بايدن، إلى إصلاح ما أفسده سلفه وإدارته في قائمة طويلة من الملفات، ومن بينها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن الاتفاق النووي الإيراني، وتقديم طلب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وعدم الانضمام لمبادرة "كوفاكس" (المعنيّة باللقاحات للوقاية من كوفيد-19) برعاية منظمة الصحة العالمية، فضلاً عن الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم الثقافية "اليونيسكو"، ووقف تمويل صندوق الأمم المتحدة للسكان، وفرض عقوبات على أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، والانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعدم الانضمام إلى الاتفاق العالمي بشأن الهجرة، وكذلك عدم دفع جميع مستحقات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ووقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وغيرها.
وقد تبدو العودة إلى هذه المؤسسات والاتفاقيات سهلة للوهلة الأولى، لكن التفاصيل تظهر عدداً من التحديّات التي تواجه بايدن. في ما يخصّ اتفاقية باريس للمناخ مثلاً، صادف دخول الانسحاب من الاتفاقية حيّز التنفيذ رسمياً بعد يوم من الانتخابات الأميركية، أي في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وبذلك أصبحت أول دولة في العالم تقبل على هذه الخطوة. ومن المتوقع أن يوقّع بايدن في اليوم الأول لتوليه الرئاسة على مرسوم رئاسي يعيد انضمام بلاده للاتفاقية، لكن التحدي الأكبر يكمن في تنفيذ أهدافها. ومن ضمن هذه الأهداف خفض معدل ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى ما دون الدرجتين المئويتين، وتعزيز الاستجابة العالمية لخطر التغيير المناخي. وهذا يعني تجنيد الشركات الأميركية للالتزام بتلك الأهداف، كما رصد الأموال الطائلة والاستثمار في الطاقة النظيفة والبنية التحتية اللازمة. ووعد بايدن باستثمار تريليوني دولار في هذا السياق، وخفض صافي الانبعاثات في الولايات المتحدة إلى صفر بحلول 2050. وهو لأجل ذلك سيحتاج إلى كونغرس يقف متحداً خلفه إذا أراد أن ينفذ هذه الأهداف ويضع التشريعات للازمة التي تجبر الشركات الأميركية على الالتزام بها. ومن غير الواضح مدى قدرة الاقتصاد الأميركي على التعافي، في ظلّ تبعات أزمة كورونا.
العودة إلى الاتفاقية النووية الإيرانية معقدة لأسباب عدة
أمّا العودة إلى الاتفاقية النووية الإيرانية، فهي معقدة لأسباب عدة من بينها فرض إدارة ترامب لعدد كبير من العقوبات على إيران، وقد يواجه بايدن تحديات داخلية في رفعها جميعها أو عدد منها. كما أنّ الجانب الإيراني، بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاقية عام 2018، رفع من قدرته على تخصيب اليورانيوم وزاد من معدلات مخزونه من اليورانيوم المخصب ليصل إلى أضعاف الحد المسموح به بحسب الاتفاقية. ويبقى السؤال ما إذا كان هناك استعدادٌ عند الجانبين الأميركي والإيراني للتفاوض على شروط جديدة للاتفاقية؟
في يونيو/حزيران 2018، انسحبت الولايات المتحدة من عضويتها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بحجة أنه "معاد لإسرائيل" ويركّز على خروقات الأخيرة لحقوق الفلسطينيين، على الرغم من أنّ تلك الادعاءات غير صحيحة، إذ يوثق المجلس خروقات حقوق الإنسان حول العالم. وتطالب منظمات حقوق إنسان أميركية بايدن بالعودة إلى المجلس. وفي سياق منفصل، كانت إدارة ترامب قد أدرجت عدداً من القضاة في المحكمة الجنائية الدولية على قائمة العقوبات، من بينهم المدعية العامة للمحكمة، فاتو بنسودا. ويعود ذلك لعدد من الأسباب، من بينها تحقيق مكتب المدعية بجرائم حرب محتملة ارتكبها جنود أميركيون في أفغانستان، وأخرى ارتكبها جنود إسرائيليون في فلسطين. ومن غير المتوقع أن ينضم بايدن إلى نظام روما الأساسي (تأسست بموجبه المحكمة الجنائية الدولية) ومعه المحكمة، ولكن من المتوقع أن يخفف من حدة العداء للمحكمة وربما رفع أسماء القضاة عن قائمة العقوبات الأميركية التي يدرج عليها عادة مجرمو حرب وتجار المخدرات والبشر ومرتكبو الجرائم، وليس قضاة يحاكمون هؤلاء. وكان التوجه الأميركي عند تأسيس المحكمة عام 2002 معادياً بشدة لها، إلا أنه في نهاية إدارة الرئيس جورج بوش الابن، والرئيس باراك أوباما بعدها، أظهرت الولايات المتحدة دعماً أكبر لدور المحكمة.
الولايات المتحدة مدينة لـ"اليونيسكو" بحوالي 600 مليون دولار
في ما يخصّ منظمة الصحة العالمية، فإن بايدن كان قد أعلن عن نيته إلغاء قرار ترامب بالانسحاب من المنظمة، والذي يدخل حيّز التنفيذ في 6 يوليو/تموز المقبل، أي بعد عام من تقديم الطلب. وكانت الولايات المتحدة من أكبر الداعمين مالياً للمنظمة ولعدد من البرامج التي تضطلع بها، ومن غير الواضح ما هو حجم الدعم الذي ستقدمه الآن إضافة إلى الميزانية العادية التي تشترك بها. ويطالب مختصون في الولايات المتحدة إدارة بايدن بالانضمام إلى مبادرة "كوفاكس" التي ترعاها منظمة الصحة العالمية ومن أهدافها تنسيق الجهود الدولية للحصول على لقاح ضدّ فيروس كورونا، كما تأمين توزيعه وحصول الدول الفقيرة على نصيبها منه وليس فقط الدول الغنية. وتحتاج المبادرة لعشرات المليارات من الدولارات الإضافية لضمان نجاحها. والولايات المتحدة، بالإضافة إلى روسيا، هي من الدول القليلة التي لم تنضم إليها.
وقد تعود الولايات المتحدة للانضمام إلى منظمة "اليونيسكو"، بعدما انسحب ترامب منها عام 2018، إلا أنّ الحيثيات قد تكون معقدة كذلك. ونظرياً، فإن الولايات المتحدة مدينة لـ"اليونيسكو" بحوالي 600 مليون دولار، بسبب توقفها عن دفع مستحقات المنظمة منذ عام 2011. إذ كانت إدارة أوباما قد جمدت عضويتها في المنظمة من دون أن تنسحب منها، ورفضت دفع مستحقاتها منذ ذلك الوقت. وجاء قرار إدارة أوباما آنذاك بسبب سماح المنظمة لفلسطين بالانضمام لعضويتها عام 2011. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه ليست المرة الأولى التي تنسحب فيها الولايات المتحدة من "اليونيسكو"، إذ حدث ذلك أيضاً في عهد الرئيس رونالد ريغان عام 1984، إثر خلافات حول برامج المنظمة في القارة الأفريقية، ثمّ عادت الولايات المتحدة للانضمام إليها في عهد بوش الابن عام 2002.
ولا تقتصر حرب إدارة ترامب والحزب الجمهوري على منظمات الأمم المتحدة التي قد تدخل السياسة بشكل ما في عملها. بل إنّ إدارة الرئيس الخاسر، وجميع الرؤساء الجمهوريين منذ عهد ريغان، توقفوا عن دعم صندوق الأمم المتحدة للسكان. ومن ضمن مسؤوليات الصندوق دعم الصحة الجنسية والإنجابية في جميع أنحاء العالم. وهذا يشمل دعم توفير خدمات تنظيم الأسرة للنساء، خصوصاً في الدول الفقيرة والنامية، كما دعم الولادة الآمنة للأطفال ولا سيما في المناطق التي تعاني من الأزمات الإنسانية. وعلى الرغم من أنّ الصندوق لا يقدم أي دعم مباشر لخدمات الإجهاض، إلا أنّ الجدل الداخلي الأميركي حول هذا الموضوع انعكس على الدعم المادي للصندوق.
الولايات المتحدة متخلفة عن دفع قرابة 900 مليون دولار لقوات حفظ السلام
ولم تسلم قوات حفظ السلام كذلك من تخلف الإدارة الأميركية عن دفع مساهماتها، والتي تحسب بالعادة وفق معدل دخل الفرد للدولة والناتج المحلي الإجمالي. وحتى الآن، فإن الولايات المتحدة متخلفة عن دفع قرابة 900 مليون دولار لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والتي تنتشر في 13 منطقة، ويصل عديدها إلى قرابة 80 ألف جندي من عشرات الدول حول العالم.
وفي التمويل كذلك، فإن الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، أوقفت تمويلها بالكامل لـ"أونروا"، في محاولة لإلغاء الوكالة ومعها حقوق اللاجئين الفلسطينيين. وتواجه "أونروا" حالياً أزمة مالية خانقة تهدد سبل عيش ورزق أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني. ومن المتوقع أن يعيد بايدن الدعم للمنظمة، لكن من غير الواضح مستوى الدعم الذي سيقدمه.
بالإضافة إلى كل هذا، فإن الولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، رفضت الانضمام للميثاق العالمي للهجرة الآمنة واللجوء، أو حتى الانخراط بشكل جدي في المفاوضات التي جرت عامي 2017 و2018. ويهدف الاتفاق، غير الملزم بين الدول، لوضع معايير وأسس لكيفية تعامل الدول مع الهجرة الدولية. وتطالب منظمات حقوقية معنية بالهجرة إدارة بايدن بالانضمام إلى الاتفاق.
هي ملفات كثيرة في انتظار بايدن، وقد يأخذ سنوات لتصليح ما أتلفه ترامب وإدارته، ولعل أهمها الثقة.