مرّ نحو شهرين ونصف على أداء حكومة فتحي باشاغا، المكلفة من مجلس النواب في طبرق، اليمين القانونية أمامه، دون أن تتمكن من دخول العاصمة الليبية طرابلس، وتسلُّم مهامها من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، الذي يتمسك بعدم تسليم مهامه إلا لجهة منتخبة.
ومع عدم اتضاح الرؤية حول إمكانية تحديد موعد قريب لإجراء الانتخابات لغياب التفاهم على آلياتها وتوقيتها بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، يسعى الأخير بكل السبل لتمكين الحكومة المكلفة منه من السلطة.
وأحال المجلس قبل أيام مشروع قانون ميزانية هذا العام الذي أعدته حكومة باشاغا على لجنة التخطيط والمالية والموازنة العامة، ومن المتوقع أن يبتّ بأمرها قريباً. وفي خطوة أخرى توقعها كثيرون، أعلن المجلس عزمه على عقد جلسته القادمة في مدينة سرت، التي تبعد عن طرابلس بنحو 450 كيلو متراً، وإن لم يحدد موعدها، وذلك بهدف "دعم الحكومة في مباشرة عملها من المدينة"، بحسب بيان صحافي للمتحدث الرسمي باسم المجلس، عبد الله بليحق، الثلاثاء الماضي.
وكان باشاغا قد أعلن من سرت، خلال لقاء مع أهالي المدينة مطلع هذا الشهر، نيته ممارسة مهام حكومته منها، في حال وجود احتمال لوقوع قتال عند دخول طرابلس، بحسب تعبيره.
وكانت قوات مؤيدة لباشاغا قد حاولت دخول طرابلس، بعد أيام من أدائها اليمين القانونية أمام مجلس النواب بطبرق، إلا أن أخرى داعمة للدبيبة حالت دون ذلك، ما أدى إلى انسحاب الأولى، دون قتال.
ويرى الباحث الليبي في الشأن السياسي، بلقاسم كشادة، في حديث مع "العربي الجديد" أنه "في ظل إصرار الدبيبة والمجموعات المسلحة المؤيدة له والمستفيدة منه على منع باشاغا من دخول المدينة، وكذلك تشبث باشاغا بعدم اللجوء إلى العنف في تمكينه من ذلك، لم يبقّ من خيارات إلا عاصمة جديدة، وسرت هي الأقرب".
ويعتقد كشادة أن الحديث عن اتخاذ حكومة باشاغا لسرت مقراً لها مجرد ورقة للضغط في الوقت الحالي، معتبراً أنه لو استمر الدبيبة في التمسك بموقفه، فقد يقدم باشاغا بدعم من مجلس النواب على اتخاذها فعلياً مقراً لحكومته، ولو مؤقتاً.
ويفسر بذلك بالقول إنّ "باشاغا يريد كسب الجميع، والملاحظ من المنحنى الذي يسير فيه أن الخطوة القادمة ستكون في الغرب، فقد عقد أول اجتماع لمجلس الوزراء في سبها عاصمة الجنوب، ثم نظم الثاني في شرق البلاد، والوجهة الجديدة لا بد أن تكون في غرب البلاد، حتى تكتمل الدائرة".
وتابع كشادة قائلاً: "الوجهة المفضلة في الغرب هي طرابلس طبعاً، ولكنها استعصت بالشكل السلمي الذي يتبناه باشاغا، ويسانده في هذا التبني كثيرون ويعارضه آخرون، وكان مفترضاً أن يتوجه إلى مصراتة أيضاً، لكن يبدو أنها ليست مستعدة بعد لذلك، ولا ترغب قياداتها في دخولها في انشقاقات عميقة بسبب انتماء باشاغا والدبيبة إليها".
وأردف بالقول: "ولهذا، فالرهان الأفضل هو سرت، فهي تتوسط شمال البلاد، وقريبة من الهلال النفطي مصدر إيرادات البلاد الرئيسي، وتتوافر فيها المقرات المؤسساتية المناسبة، كذلك فإنها بعيدة عن سيطرة المجموعات المسلحة، ولا تدعم أي فريق مباشرةً، ولن تكون موطن اختلاف، وسترضي جميع أطراف النزاع، حتى مؤيدي نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، فهي مدينته ومسقط رأسه وموطن قبيلته".
من جهة أخرى، يرى المحلل السياسي، مالك هراسة، أن اختيار باشاغا لسرت أو أي مدينة أخرى غير طرابلس يعكس ضعفه وعدم قدرته على تسلّم سلطته في عاصمة البلاد ككل الحكومات.
وقال هراسة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "اختيار أي مدينة غير طرابلس لن يغير من الأمر شيئاً، ولنا في الحكومة المؤقتة السابقة التي ترأسها، عبد الله الثني، واتخذ مدينة البيضاء شرقيّ البلاد مقراً لها، ودعمها البرلمان بقوة، فقد مارست مهامها لسبع سنين دون أن تنجز شيئاً أو يعترف بها أحد".
وتابع هراسة قائلاً: "السر ليس في طرابلس كمدينة، مع أنها عاصمة الدولة منذ تأسيسها، والمدينة الأكبر، والأكثر كثافة، وسكانها ذوو طابع مدني غير متعصب، ولكن العبرة بالسيطرة على مؤسسات الدولة، وخاصة المالية منها، ولهذا لن يفيد باشاغا اختيار سرت ما دام المصرف المركزي، ومؤسسة النفط، ومؤسسات الدولة السيادية الأخرى موجودة في طرابلس، حيث توجد حكومة الدبيبة".
وبسبب وجود هذه المؤسسات في طرابلس، يستبعد هراسة أن يدفع اختيار باشاغا سرت مقراً لحكومته في اتجاه تغيير الموقف الدولي، معتبراً أن تحكّم الدبيبة في هذه المؤسسات هو ما يمنحه الاعتراف الدولي.
ويرى كذلك أن أزمة إغلاق أنابيب النفط، الأيام الماضية، من طرف مؤيدي مجلس النواب وحكومة باشاغا زادت من تحفظ المجتمع الدولي عن هذه الحكومة، وخصوصاً مع عدم قدرتها على إعادة فتح مواقع النفط بعد إعلانها الرسمي عن فتحها.
ويعبّر هراسة عن خشيته من أن يؤسس اختيار مقر آخر للحكومة غير طرابلس لــ "انقسام سياسي جديد كالذي شهدته البلاد بين عامي 2014 و2020".
ووفقاً لرأيه، "لا مناص من التوجه بأقصى سرعة ممكنة لانتخاب برلمان جديد يوحّد السلطات، ويحمي البلاد من شبح التقسيم أو العودة للحروب والأزمات الاقتصادية، ويؤسس لإنهاء المرحلة الانتقالية بدستور دائم ورئيس منتخب".