لطالما عمد النظام السوري لرسم حدود المناطق التي يريد الوصول إليها، لا سيما شمال غربي سورية، بالقصف الجوي، سواء من قبل طيرانه أو الطيران الروسي، وحتى بالقصف المدفعي والصاروخي، كما كان في السابق قبل اجتياحه لمدن وبلدات تقع في حدود "منطقة خفض التصعيد الرابعة" (محافظة إدلب وما حولها)، والتي سيطر النظام على مساحات واسعة منها قبل ربيع عام 2020، ولا يزال يهدد بمزيد من التقدم.
عمليات تصعيد في إدلب
المخاوف من تكرار هذا السيناريو تبرز اليوم مع عمليات التصعيد الأخيرة في محافظة إدلب، شمال غربي سورية، بعد القصف الروسي الذي استهدف مدينة جسر الشغور غربي المحافظة في 25 يونيو/حزيران الحالي (يوم الأحد الماضي)، وأحدث مجزرة في صفوف المدنيين راح ضحيتها 9 أشخاص والعديد من المصابين، ثم القصف الذي طاول مقار عسكرية، أول من أمس الثلاثاء في جبل الزاوية، ونجم عنه مقتل مقاتلين ينتمون لـ"هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً).
وشنّ الطيران الحربي الروسي الثلاثاء، غارات باستخدام صواريخ شديدة الانفجار، على مواقع في محيط بلدة سرجة بجبل الزاوية، جنوبي إدلب، أسفر عن مقتل 8 عناصر من مقاتلي "لواء الحمزة" المنضوي في صفوف "تحرير الشام".
ولم يستهدف القصف مواقع عسكرية فقط، بل طاول مناطق سكنية مدنية وأراضي زراعية ما أحدث أضراراً مادية بممتلكات المدنيين. وبالتزامن، كانت مدفعية النظام وراجماته تقصف مناطق قريبة من خطوط التماس في جبل الزاوية، فيما سقطت قذائف بالقرب من نقطة مراقبة عسكرية تركية. كما طاول القصف المدفعي ريف حلب الغربي من دون وقوع إصابات.
بكور: الظروف الدولية غير مناسبة لعملية عسكرية برّية
وردت الفصائل على القصف الذي طاول جسر الشغور، باستهداف معسكرات للنظام في كل من حماة وريف اللاذقية، فيما ردت "هيئة تحرير الشام" كذلك على القصف الذي طاول مقارها في جبل الزاوية. وأشارت مصادر في المعارضة السورية إلى أن القصف الذي طاول معسكري جورين والناعورة في ريف حماة، ومعسكر الجب الأحمر في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، أوقع قتلى في صفوف النظام والمليشيات التي تتمركز في المعسكر.
وفي حين ادعى النظام السوري أن القصف الذي استهدف جسر الشغور، طاول مواقع تنطلق منها الطائرات المسيّرة لاستهداف معسكراته، فإن المخاوف باتت أكبر لجهة استخدام النظام للذرائع للتقدم والتوغل أكثر في إدلب، بهدف السيطرة على الطريق الدولي حلب - اللاذقية "أم 4"، المار من إدلب، والقريب من المناطق التي يستهدفها القصف.
ويعيش نظام بشار الأسد حالياً في أجواء التقارب العربي معه وإعادته للجامعة العربية، وبالتالي يظن أن له حق استعادة كافة الأراضي السورية على اعتبار العودة التدريجية للاعتراف به. غير أن الإدانات الفورية للمجزرة وعمليات التصعيد الأخيرة من قبل حكومات غربية أوضحت أن التعامل مع الملف السوري من وجهة النظر الغربية لم يختلف بعد عمليات التطبيع عما سبقها. ودانت كل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، التصعيد والقصف الذي أوقع مدنيين، في حين لم تخرج إدانات عربية واضحة للتصعيد، أو حتى أي تعليق حياله.
تعقيدات العملية البرّية
ورأى القيادي في المعارضة العسكرية السورية، العقيد مصطفى بكور، أن "التصعيد الأخير يأتي في سياق الفعل ورد الفعل بين النظام والروس من جهة، والفصائل من جهة أخرى". وأضاف بكور في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "في الفترة الأخيرة حصل الكثير من المناوشات وتبادل القصف"، معرباً عن عدم اعتقاده بأن يلجأ النظام لعمليات عسكرية على الأرض. وهذا الأمر ينسحب على المعارضة برأي بكور، لكون الظروف الدولية المناسبة غير متوفرة لكلا الطرفين، بحسبه.
وتشدد عمليات التقارب بين الدول العربية والنظام على التهدئة، وتطبيق خطوات عملية من قبله للحل، وربما هذه هي تلك الظروف التي أشار إليها العقيد بكور والتي لا يستطيع النظام تجاوزها، كي لا يعرقل عمليات التقارب مع الإقليم والعرب، في ظل عدم الرضى الغربي عن كل ذلك.
معراوي: القرار التركي صدر بمنع الانسحاب من أي متر
من جهته، أشار المحلل السياسي، باسل معراوي، إلى "الفشل الذريع للجولة 20 من محادثات أستانة، لا سيما بعدما أعلنت كازاخستان انتهاء المسار وعدم الرغبة باستضافة جولات لاجتماعات مقبلة". وقال معراوي حول ذلك: "لم تكن الاجتماعات إيجابية، وإذا كان التصعيد قبل الاجتماع متوقعاً بحكم العادة، فإن التصعيد بعد الجولة زادت وتيرته خصوصاً بقيام الطيران الروسي بنفسه بالقصف مرتكباً مجزرة جسر الشغور".
وحمّل معراوي في حديث لـ"العربي الجديد"، التصعيد أبعاداً أخرى، بالقول: "يبدو أن الخطة الروسية تشي باستبدال أستانة بالمسار الرباعي الجديد (روسيا، إيران، تركيا والنظام)، إذ أعلنت روسيا مراراً عن جهوزية مسودة لخريطة تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، وأن تلك المسودة سيتم عرضها لإجراء مباحثات بشأنها والبدء بتطبيقها". ورأى أنه "على ما يبدو فإن الروس كانوا ينوون إغلاق ملفات أستانة نهائياً للبدء بالمرحلة الجديدة".
ورأى معراوي أن "من الملفات المتنازع عليها بين أنقرة وموسكو، اتفاق 5 مارس/آذار 2020 الذي تم توقيعه بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وأوقف القتال وقتها عند الخطوط الحالية". واعتبر أنه "تمّ الوصول بعجلة لذلك الاتفاق لأن نُذر مواجهة تركية روسية بدت واردة حينها، وحدث تماس عسكري مباشر بين الطرفين"، مشيراً إلى أنه "توجد قراءتان روسية وتركية لبنود التفاهمات تلك، ومن يفرض قراءته هو الطرف الأقوى".
وأعرب المحلل السياسي عن اعتقاده بأن "موسكو (وفقاً لقراءتها) تريد انسحاب القوات التركية وقوات المعارضة السورية 6 كيلومترات شمال وجنوب طريق (أم 4) لفتحه أمام الحركة التجارية، وهنا توجد مصلحة مباشرة لإيران بذلك، ففتح الطريق الذي يصل حلب والمنطقة الشرقية بميناء اللاذقية خطوة مهمة بالنسبة لطهران، طالما أنها تسيطر على الميناء بشكل كامل".
ورأى معراوي أنه "استناداً لتوازن القوى العسكرية، لن يكون بمقدور موسكو وحلفائها الاحتكام للميدان، لأن الكفة أرجح لقوى المعارضة والجيش التركي الموجود بكثافة على خطوط التماس الأولى، والتي تنتشر بشكل دفاعي ومجهزة بكل الآليات والأسلحة اللازمة لإفشال أي هجوم". وبرأيه، فإنه "يبدو أن القرار السياسي التركي صدر بمنع الانسحاب من أي متر إلى الخلف والقتال إذا لزم الأمر، حيث ارتاحت القيادة التركية من ضغط الانتخابات ولا ترغب بتدفق المزيد من اللاجئين إلى الجيب المتبقي من الشمال المحرر، بل وصول أعداد كبيرة من اللاجئين إلى داخل تركيا نفسها".
أما بالنسبة للمليشيات الإيرانية، فأشار معراوي إلى أنها لا تستطيع الزجّ بعناصر كثيرة بمعركة مفترضة في إدلب بسبب اهتمامها الرئيسي بالمنطقة الشرقية والجنوبية من سورية، إضافة إلى تأمين المنطقة الحدودية مع لبنان، في حين لا تملك القوات الروسية إمكانية حماية قواتها حتى في أوكرانيا، بل وصل التوتر إلى جوار موسكو نفسها". وقال إن "روسيا لا تملك رفاهية صرف الموارد والجهود بمعركة خاسرة في إدلب، هي التي تستعين في أوكرانيا بأسلحة من إيران وكوريا الشمالية". وختم بالقول: "ستكتفي موسكو بالضغط بالقصف من دون القيام بأي اختراق برّي وسيتوقف ذلك التصعيد عند أول موقف حازم تركي".