يبدو أنّ "قطاع غزّة" مفتاح بابٍ لصراعاتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ كثيرةٍ في الشرق الأوسط، فعلى الرغم من صغر مساحته إلّا أنّ واقع ومصير المنطقة برمّتها مرتبطٌ به. منذ اندلاع الحرب الحالية؛ التي تشنُّها إسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اختلطت الأوراق في المنطقة، ولم تعد، ولن تعود، إلى سابق عهدها. فمنذ الأسبوع الأوّل أعلنت أميركا عن موقفها الداعم لإسرائيل، بذريعة حقّها في الدفاع عن النفس، بعدماْ تعرّضت لهجومٍ إرهابيٍ (وفق ادّعائها) قامت به حركة حماس على منطقة غلاف غزّة (أعلنت الولايات المتّحدة عن إدراج "حماس" على لائحة المنظّمات الإرهابية)، ومباشرةً أرسلت أميركا حاملات طائراتٍ، وبوارج حربية لترسو قبالة السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
إنّ خطوة أميركا هذه رسالةٌ لكلّ دول المنطقة، بأنّ الحرب محصورةٌ في غزّة، وتمنع بذلك أيّ انتقالٍ للحرب إلى مناطق جغرافيةٍ ودولٍ أخرى. هذا يعني أنّ أميركا تريد أن تقطع الطريق على أيّ خطّةٍ، أو تفكيرٍ بتوسيع الحرب، وتصعيد القتال في مواقع أخرى، وأنْ تُشكّل ردعًا لهذه الدول أو المناطق، وأيضًا لتتيح المجال أمام إسرائيل للقضاء على حركة المقاومة في غزّة.
لكن، تحركت حركاتٌ عسكريةٌ وسياسيةٌ في محور المقاومة منذ اليوم الأوّل، وإنْ كان تحرُّكها بوتيرةٍ متأنيةٍ، ونقصد هنا حزب الله في الجنوب اللبناني، وأنصار الله الحوثيين في اليمن، وحركاتٌ مقاومةٌ في العراق وسورية. والقصد هنا قيام هذه الحركات بمساندة حركة المقاومة الفلسطينية، دون بلوغ مستوى تصعيد الاقتتال وتوسيعه. أي بقاء المواجهات محدودةً ومحصورةً في حدودٍ جغرافيةٍ ضيّقةٍ.
من الواضح أنّ نتنياهو يبحث عن أيّ طريقٍ ليُطيل الحرب، وبالتالي يُطيل عمر حكومته، والأهمّ يُطيل عمره السياسي
الواضح أنّ رسو الأساطيل الحربية الأميركية والغربية، منها البريطانية والفرنسية، في المتوسط قد تجاوز كونه رسالةً، إلى كونه تهديدًا مباشرًا لإيران راعية محور المقاومة. ومن جهة أخرى فإنّ تصريحات السياسيين الإسرائيليين؛ كوزير الحرب يوآف غالانت، نحو حزب الله، بأنّ جيشه سيُدمِّر بيروت، ويُعيدُها إلى العصر الحجري، على ما يبدو كان أحد المُحفّزات الدافعة برئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتي، إلى الإسراع والتفاهم مع حزب الله، والإدارة الأميركية، وبواسطتها مع إسرائيل، على حصر الاشتباكات على طول الشريط الحدودي بين إسرائيل ولبنان، تفاديًا لتطبيق التهديدات، وجر لبنان إلى الحرب. أيضًا، نعتقد أنّ إسرائيل غير معنيةٍ، في الظروف الراهنة، بالتورط في حربٍ مع حزب الله، على الرغم من التهديدات أعلاه. لكن استمرار تسخين وإشعال الجبهة بين إسرائيل ولبنان أدّى إلى إخلاء المنطقة الشمالية من إسرائيل، أسوةً بإخلاء غلاف غزّة. عمليتا الإخلاء هذه تؤثر كثيرًا على الوضع السياسي في إسرائيل، الآخذ بالتدحرج نحو مزيدٍ من الخلافات والانشقاقات بين الأحزاب، وحتّى داخل الحكومة المصغرة، التي تشرف على عمليات الحرب، وبالتالي تشير إلى تصدعاتٍ في جبهة إسرائيل الداخلية.
كان التسريع في توسيع مساحة الحرب ممكنًا في أعقاب اغتيال إسرائيل قياداتٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ من حركة حماس (صالح العاروري)، ومن حزب الله (وسام الطويل)، مرسلةً بها رسالةً أخرى إلى المنظمتين بعدم جرّ المنطقة إلى حربٍ واسعةٍ، وتصعيد حالة التوتر. في الوقت ذاته، وقعت تفجيرات كرمان في إيران، وكانت هذه، وإنْ نفذتها داعش، ومن يقف وراء تحريكها مجهولٌ إلى الآن، رسالةٌ إلى حكام طهران بعدم الإقدام على أيّ محاولةٍ لتصعيد التوتّر، وجرّ المنطقة إلى مواجهاتٍ حربيةٍ في مواقع متفرّقةٍ منها. ونعتقد أنّ قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تُدرك أنّ المواجهة المباشرة لها أثمانٌ كبيرةٌ على كلّ إيران، وأيضًا على الشارع الإيراني، المُعَرّض لاندلاع عددٍ من الاحتجاجات، على خلفياتٍ متنوعةٍ، أبرزها الحالة الاقتصادية الركيكة لدى شرائح واسعةٍ من المجتمع الإيراني. تستند الإدارة الأميركية وإسرائيل إلى الاطمئنان الحذر مع إيران، من خلال تصريح المرشد الإيراني خامنئي بقوله: أدعو إلى التحلّي بـ"الصبر الاستراتيجي". فما القصد من هذا؟ سوى الإبقاء على قواعد الاشتباك في محوري الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، واستهداف القواعد الأميركية في العراق وسورية، التي تعرّضت لسلسلةٍ من الهجمات، إلّا أنّ الرّد الأميركي باغتيال قياداتٍ كان سريعًا. فهل من اتّفاقٍ أو توافقٍ بين أميركا وإسرائيل على منع التصعيد عبر اللجوء إلى ضرباتٍ استباقيةٍ واغتيالاتٍ؟ هكذا شهدنا إلى الآن، تمسُّك طرفي الاقتتال على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية بقواعد الاشتباك المتفق عليها اتّفاقًا غير رسميٍ، بل ميدانيٍّ.
أمّا في البحر الأحمر فالمسألة ذات ارتباطٍ بما يجري في قطاع غزّة. إذ وجه "أنصار الله الحوثيين" مع بدايات الحرب على غزّة بعض الصواريخ والطائرات المُسيّرة صوب جنوب إسرائيل، وتحديدًا نحو مدينة إيلات (أم الرشراش). لم تؤدِ هذه المقذوفات، على أنواعها، إلى إصاباتٍ بشريةٍ، أو إلى أضرارٍ ماديةٍ ملحوظةً، سوى أنّها نبّهت إسرائيل، وحليفاتها، إلى أنّها غير مُحصّنةٍ، وأنّها على مرمى عين البندقية. لكن ذهب الحوثيون، الراغبون في إسناد الفلسطينيين وحركة المقاومة في قطاع غزة، إلى أبعد من ذلك. إذ اعترضوا سفنًا تجاريةً بالأساس، سواء المملوكة لإسرائيل، أو التي كانت متجهةً إلى ميناء إيلات في جنوب إسرائيل. تطور الاعتراض من حجز سفنٍ وجرّها إلى موانئ في اليمن، أو إطلاق مسيراتٍ، وصواريخ من الأراضي اليمنية باتجاه هذه السفن. أدّت هذه العمليات إلى عرقلةٍ جديةٍ ومستمرةٍ لحركة النقل البحري في البحر الأحمر وحواليه، وبالتّالي اضطرّت شركات الملاحة الدولية إلى تغيير مسارات سفنها، للدوران حول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا، وصولاً إلى أوروبا، أو إلى موانئ في البحر المتوسط. وبالتالي تراجعت حركة النقل البحري في مسار البحر الأحمر، وقناة السويس حتّى 20% فقط. مِن الواضح أنّ استمرار الحوثيين في استهداف السفن التجارية، وناقلات النفط إلى إسرائيل، قد أدّى إلى ارتفاع تكاليف النقل، وتأخر سلسلة التوريد التجاري بين المصدر وهدفه. كان واضحًا لأميركا وبريطانيا، ودولٌ أوروبيةٌ وخليجيةٌ، أنّ استمرار هذه الحالة على ما هي عليه تحمل في طياته خطرًا اقتصاديًا كبيرًا غير محصورٍ في تكاليف النقل، إنّما في نقص بضائع كثيرةً، من موادٍ غذائيةٍ إلى مستهلكاتٍ أخرى. يدرك الحوثيون أهمّية النقل البحري بالنسبة لمستويات الاستهلاك الكبيرة في إسرائيل، لبضائع متنوعةً وافدةً من الشرق الأقصى إلى موانئها. وفي الوقت الذي يتعرّض فيه فلسطينيو غزّة إلى تجويعٍ وتعطيشٍ وحرمانٍ من مواد غذائيةٍ، وخدماتٍ صحيةٍ، جرّاء الحرب التي تشنُّها إسرائيل على قطاع غزّة، تهنأ إسرائيل وتستفيد من حرية وصول احتياجاتها عبر البحار. من هنا تحرّك الحوثيون نصرةً لغزّة، من موقفٍ سياسيٍ، وحتّى عقائديٍ، وضغطوا لوقف الحرب وإدخال المساعدات الغذائية والإنسانية إلى القطاع.
لأن الدول الغربية مؤسّسةٌ على فكرة الرأسمالية المهيمنة، تحرّكت أميركا لبناء تحالفٍ دوليٍ، يُشكل غطاءً لها في فكّ الحصار عن الملاحة في البحر الأحمر، وردع الحوثيين عن الاستمرار في التعرُّض للسفن التجارية. لهذا، تشاركت أميركا وبريطانيا في تسديد ضرباتٍ متتاليةٍ على مواقع تابعةٍ للحوثيين، لتُشكل رسالةً واضحةً بعدم الإقدام على توسيع مساحة الحرب، والتراجع عن عملية استهداف السفن الإسرائيلية، استنادًا إلى القوانين الدولية المتعلقة بحرية الملاحة والإبحار، وأن اليمن لا علاقة له بما يجري بين إسرائيل وحركة حماس، على حدّ ادعاء التحالف الغربي.
هذا يعني أنّ أميركا تريد أن تقطع الطريق على أيّ خطّةٍ، أو تفكيرٍ بتوسيع الحرب، وتصعيد القتال في مواقع أخرى
تسديد الضربات نحو الحوثيين هي رسالةٌ إلى إيران بأنّ أيّ تصعيدٍ سيكون باهظ الثمن، إلّا أنّ إيران تدرك أنّ جرّها إلى حربٍ ومواجهةٍ مع أميركا وحليفاتها ليس في صالحها، لذلك، تدير إيران حربًا محددة الأماكن الجغرافية، عن طريق وكلائها في محور المقاومة، و"تُفرمل" شركاءها. مع هذا كلّه، حقّقت إيران، حتّى الآن، ارتفاعًا في نسبة نفوذها في المنطقة، من خلال دعمها، بالمستويات كافّة، لأطراف محور المقاومة، دون تدخلٍ مباشر، وبقدرتها على امتصاص أيّ ضربةٍ في ظلّ الظروف الراهنة التي فرضت عليها.
من جهةٍ أخرى؛ إنّ استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وعدم تحقيق الجيش الإسرائيلي أيًّا من هدفيه الكبيرين، إطلاق سراح الرهائن لدى المقاومة، والقضاء على حركة حماس، ساهم في تحريك الضفّة الغربية، التي هي مشتعلةٌ أصلاً. لكن اشتعالها الآن على خلفية صمود المقاومة في غزّة، وازدياد شعبية حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفّة من جهةٍ، وارتفاع وتيرة اقتحامات جيش الاحتلال هناك للمدن والمخيّمات الفلسطينية من جهةٍ أخرى، هذا كلّه يشير إلى نيّة إسرائيل توسيع الحرب، وتصعيدها في الضفّة. عِلمًا أنّ زيارة وزير الخارجية الأميركي بلينكن الأخيرة، كانت تهدف إلى منع إسرائيل من التصعيد، وإلى إحداث تغييرٍ في أهداف حربها على القطاع، مساهمةً منها في الحيلولة دون اتساعها، وتقليل عدد الضحايا المدنيين، والحدّ من التصعيد في الشرق الأوسط.
يبقى سؤالٌ محوريٌ مرتبطٌ بإصرار رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو على الاستمرار في الحرب، والإعلان بين الفينة والأخرى أنّ الحرب ستطول حتّى القضاء الكامل على حركة حماس، وإطلاق سراح الرهائن. حتّى الولايات المتّحدة تُدرك جيّدًا أنّه لا يُمكن القضاء على حماس، التي تجهزت جيدًا، وأنّ إسرائيل لم تحسب هذه الحسابات مُسبقًا، ما أدّى إلى إخفاق السابع من أكتوبر. فمن الواضح أنّ نتنياهو يبحث عن أيّ طريقٍ ليُطيل الحرب، وبالتالي يُطيل عمر حكومته، والأهمّ يُطيل عمره السياسي، ويؤجّل التداول في ملفات فساده المطروحة في المحاكم الإسرائيلية. لهذا، فإنّ إطالة عمر الحرب في غزّة، وعدم تحريك ملف صفقات تبادل المحتجزين والأسرى من طرفه، يتماشى مع فرضية رغبته المُبيّتة بتصعيد الحرب إقليميًا وتوسيع دائرتها، ما يتيح له ولحكومته المزيد من الوقت بغية الوصول إلى إنجازٍ عسكريٍ للتلويح به في شوارع تل أبيب بأنّه نصرٌ حقّقه جيش الشعب.
نستطيع أنْ نقول إنّ أميركا تسعى إلى منع التصعيد في المنطقة، والضربات التي تقوم بها مع حليفاتها تهدف إلى ردع أيّ طرفٍ مرشح للمساهمة في توسيع دائرتها، بالركون حيث هو. إذ أنّه في حالة توسّع دائرة الحرب فإنّ ذلك سيؤدّي حتمًا إلى انفجار الشارع العربي، المحتقِن أصلاً جرّاء الحرب الوحشية التي تقودها إسرائيل بدعمٍ أميركيٍ، وهذا ما تخشاه أميركا في الأساس.
لهذا يرى الكاتب أنّ التوتر سيبقى سيد الموقف وأنّ التصعيد سيخضع للمجهر الأميركي الغربي، باستخدام أدوات ردعٍ عنيفةٍ جدًّا، حفاظًا على بقاء الحرب محصورةً بين إسرائيل وحماس، وبالتالي تضمن أميركا مسألة الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.