أعلن رئيس المرحلة الانتقالية في مالي، العقيد آسيمي غويتا، عن قرار تأميم الحوار الوطني، وتشكيل لجنة لتنظيم حوار على المستوى الوطني بين الأطراف المالية في انعطاف كبير بمسار عملية السلام في مالي، ما يعني بالنسبة للكثير من التقديرات السياسية أنه قد يمثل عملياً دفناً لـ "اتفاق السلم والمصالحة" (اتفاق الجزائر) لعام 2015، لكن أغلب هذه التقديرات تعتقد أنه سيكون من الصعب أن تنجح الحكومة المالية في فرض واقع سياسي يتجاوز إطار اتفاق الجزائر، خاصة بسبب غياب الثقة وتوسع الأزمة بين الحكومة والفرقاء في الساحة المالية، بما فيها حركات الطوارق .
وقال غويتا، خلال خطاب ألقاه بمناسبة العام الجديد 2024: "لقد اتخذت خيار تفضيل الملكية الوطنية لعملية السلام، وإعطاء كل فرصة لحوار مباشر بين الأطراف المالية من أجل السلام والمصالحة، كاستراتيجية تجعل من الممكن القضاء على جذور الصراعات المجتمعية وبين المجتمعات المحلية، وبالاستفادة من التقدم المحرز في إطار عملية السلام"، مشيراً إلى أن "الوحدة الوطنية والعيش المشترك وعلمانية الدولة ووحدة أراضيها لن تكون جزءاً من موضوعات المناقشة، على أن يتم تشكيل لجنة مسؤولة ". لكن تصريحات غويتا بشأن خيار الحوار تأتي في نفس سياق رهانه على خيار الحل العسكري في الشمال إزاء حركات الطوارق، خاصة مع استقوائه بقوات فاغنر الروسية بعد تحقيقه لبعض التقدم الميداني، حيث يؤكد أن القوات المسلحة المالية مصممة على تنفيذ عملية "دوغوكولو"، بعنوان "استعادة سلامة التراب الوطني"، وهو الخيار الذي تتوجس منه الجزائر، خشية أن يكون مقدمة لإشعال حرب جديدة في المنطقة من شأنها أن تؤزم الوضع.
ويقرأ مراقبون في تصريحات آسيمي غويتا أنها تحمل حزمة رسائل سياسية أكثر منها خطوات عملية لا يملك في الوقت الحالي الظروف المساعدة على تحقيقها، وقال مدير مركز الرؤية للدراسات الاستراتيجية في نواكشوط، سليمان ولد الشيخ حمدي، لـ" العربي الجديد"، إن "غويتا وجه رسائل ذات أبعاد متعددة، نحو الأطراف الأزوادية (حركات الطوارق) تفيد بأن اتفاق الجزائر نتج عن ضعف الدولة المالية في تلك الفترة، وكان الاتفاق أقصى ما يمكن الحصول عليه مع الضعف ووجود الإرهاب، لكن كل تلك الظروف تغيرت، والآن أصحبت الدولة المالية - بحسب اعتقاده - تمسك بزمام المبادرة ولديها حلفاء أقوياء، مثل روسيا وفاغنر وغيرهما، وتستطيع سحق كل المتمردين وبسط سلطتها بشكل عام".
وأضاف: "من هذا المنطلق يعتقد غويتا أنه تتوجب إعادة رسم اتفاق الجزائر بناء على حوار مالي مالي، وثمة رسالة إلى الداخل المالي، مفادها أن الحكومة المالية يمكن أن تقتحم كل المجالات وترغم الكل على الجلوس على طاولة المفاوضات، والرسالة الأهم موجهة إلى الجزائر وتفيد بأن باماكو لم تعد بحاجة إلى وسيط ثالث وأن الدولة المالية يمكنها إنجاز ذلك من دون الحاجة الى وساطة"، مردفاً: "هناك سؤال واقعي عما إذا كان غويتا يستطيع تحقيق ذلك، وأعتقد أنه من الصعب عليه أن ينجح، خاصة أنه يعيش في قطيعة، ولديه خصوم كثر في هذه المرحلة مثل فرنسا وحركات الأزواد والجماعات الإرهابية، ولذلك سيكون من الصعب أن يتمكن من بلورة منتج مالي يحل مشكلة بلاده".
من اللافت أن هذه التطورات تأتي متزامنة مع أزمة غير مسبوقة في العلاقات بين الجزائر وباماكو، وأن محاولة السلطة الانتقالية في مالي البحث عن اتفاق وطني وصياغات بديلة لاتفاق الجزائر 2015 هي جزء من مظاهر هذه الأزمة، حيث كانت كل من الجزائر وباماكو قد تبادلتا استدعاء السفراء للاحتجاج، ثم سحبهم للتشاور، وكان محل احتجاج الجانب المالي هو استقبال الجزائر لشخصيات مالية من معارضين وقادة حركات الطوارق الذين لم تعد السلطة الانتقالية ترى فيهم شركاء سلام، وباتت تصفهم بـ"الانفصاليين"، وهو ما يعني عدم وجود رغبة لدى باماكو للاستمرار في التعاطي مع الجزائر كوسيط وراعٍ للسلام، إضافة إلى أنه وعلى الصعيد الميداني، يمكن اعتبار أن الإنهاء العملي للاتفاق كان في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عقب زحف الجيش المالي على مدينة كيدال معقل الإطار الموحد لحركات الأزواد المعارضة بدعم من مجموعة فاغنر، وهو ما فهم منه تنصل عملي من قبل باماكو من التزاماتها التعاقدية مع حركات الشمال ومع الأمم المتحدة وبعثتها التي انسحبت بطلب منها.
وفي السياق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر، توفيق بوقاعدة لـ"العربي الجديد": "أعتقد أن خطاب رئيس المرحلة الانتقالية في مالي العقيد آسيمي غويتا بمثابة الإعلان السياسي عن انتهاء اتفاق الجزائر ودور لجنة الوساطة الدولية لتطبيقه، واستباقاً لقرارها الأخير عملت السلطة الانتقالية على إنهاء أي اتصال دبلوماسي مع الراعي الاول لهذا الاتفاق (الجزائر) من خلال الاحتجاج وسحب سفيرها من الجزائر". مضيفاً أن "قرار غويتا بتملك عملية السلام على المستوى الوطني يفيد بأنه يرفض كل الوساطات الدولية، سواء السابقة أو اللاحقة، وهذا القرار ليس مفاجئاً، فقد مهّدت له السلطة الحاكمة في مالي من خلال تصريحات لعدد من مسؤوليها السياسيين والعسكريين، بأن الواقع الجديد في مالي تجاوز ظروف توقيع اتفاق الجزائر، وأن السلطة عازمة على إخضاع كل مناطق البلاد تحت سلطتها المركزية لتسهيل عملية محاربة الإرهاب، بما في ذلك الحركات المسلحة التي ستواجه قوات الجيش المالي".
وأشار بوقاعدة إلى أن "هذا التحول في خطاب وممارسات المجلس الانتقالي الحاكم مع شركاء (اتفاق الجزائر) يستند إلى محاولة استثمار في ارتفاع الروح القومية في مالي بعد نجاح السلطة الانقلابية في طرد وإنهاء الوجود الفرنسي وإلغاء كل الاتفاقيات الموقعة معه، وهو ما أكسبها شرعية شعبية تتكئ عليها في قرارتها اللاحقة، علاوة على تحالفاتها الجديدة مع دول مناهضة للوجود الغربي من دول الساحل كروسيا، ولذلك ترى في نفسها قوة قادرة على فرض أمر الواقع".
لكن تقديرات سياسية تعتبر أنه سيكون من الصعب بالنسبة للسلطة الانتقالية في باماكو تجاوز اتفاق الجزائر، لعدة اعتبارات سياسية ولوجيستية، ترتبط بكون اتفاق الجزائر ذا بعد دولي ويحظى بتقدير إقليمي، خاصة أن السلطة القائمة انتقالية ولا تملك الصفة الدستورية التي تسمح لها بتركيز حوار وتفاهمات ثابتة، والأهم من كل ذلك أن عامل الثقة غائب تماماً بين الحكومة في باماكو وحركات الأزواد، خاصة بعد المواجهات الأخيرة بين الطرفين في مناطق الشمال القريبة من الجزائر، ومع باقي الأطراف المالية الفاعلة، بما فيها تحالف (5 يونيو) الذي يقوده الإمام محمود ديكو، الذي قاد الحراك الشعبي الذي أطاح الرئيس أبو بكر كايتا، ومهد الطريق للسلطة الانتقالية الحالية، وهذا يعني بالأساس أن الحوار المالي بحاجة إلى طرف ثالث لإعادة بناء الثقة أولاً، ولتقريب وجهات النظر وصياغة التوافقات اللازمة.
ويؤكد الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية المتخصص في منطقة الساحل، مبروك كاهي، أنه من الصعب على الحكومة المالية تجاوز أو إلغاء اتفاق الجزائر للسلام، ويشير إلى أن غياب عامل الثقة بين الأطراف المالية نفسها التي يريد غويتا إجراء حوار معها لن يتيح له إقامة حوار بديل لاتفاق الجزائر وسيكون في النهاية مضطراً إلى البقاء في مربع اتفاق عام 2015، حيث قال في تصريح لـ"العربي الجديد": "لا يمكن دفن اتفاق الجزائر، وغويتا لم يجرؤ على ذكر ذلك في خطابه، فالسلطات الانتقالية هناك لا تزال في وضع غير دستوري، والأهم من ذلك تفاقم الخلاف مع الفرقاء في شمال مالي، إذ إن قيادات شمال مالي (حركات الطوارق) لا يثقون في السلطة الانتقالية، وعلاقة السلطة الانتقالية الحالية هي الأسوأ مع الدولة الاستعمارية السابقة -فرنسا-، إضافة إلى تمدد نشاط الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة، وكلها عوامل لا تُساعد على أي استقرار، والسلطة المالية ليس من مصلحتها الدخول في عداء ضمني مع الجارة الشمالية الجزائر".
وأضاف أن "ما يقوم به غويتا هو مناورة ومحاولة للبحث عن بديل دون التخلي عن اتفاق الجزائر، ففي حال الفشل (وهو مؤكد) سيعود للاتفاق، يضاف إلى ذلك اعتقاده الخاطئ بأن تحالفه الثلاثي مع النيجر وبوركينافاسو سوف يعطيه قوة وزمام المبادرة، وهي مقاربة خاطئة تماماً، فكل من الدول الثلاث غير قادرة على حل مشاكلها بنفسها".