يحمل تغيّر موازين القوى في المسرح الدولي فرصاً لدول وانتكاسات لأخرى، وفي وضع الهند، فإن حالة الاستقطاب المتزايد بين الولايات المتحدة والصين تحمل فرصة تاريخية لهذا البلد للاستفادة من الصراع القائم بين بكين وواشنطن، من أجل تحصيل مكاسب اقتصادية وسياسية، ما يضع الهند في موقع متقدم بين القوى الكبرى.
الهند... بين عدم الانحياز ومواجهة الصين
تحاول الهند اتّباع الحياد الذي مارسته الصين إبان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. حينها لم يكن النظام الشيوعي في الصين على وفاق مع شريكه الأيديولوجي، الاتحاد السوفييتي، ولذلك اختارت بكين منذ نهاية السبعينيات التركيز على بناء الاقتصاد والتقدم بخطى ثابتة في هذا المجال.
وفي الوقت الذي انشغلت فيه موسكو وواشنطن بحروب الوكالة والهيمنة على الساحة الدولية، كانت الصين تبني اقتصادها ليتحول في أقل من أربعة عقود إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويحقق أسرع معدل نمو قد يؤدي خلال عقد من الزمان إلى إزاحة الولايات المتحدة من عرش الصدارة على الصعيد الاقتصادي.
نمو سكّاني قياسي وتحالفات متناقضة
في خضم هذا الصدام وهذه المواجهة التي ستشمل مجالات عدة، تنظر الهند إلى نفسها على أنها مستفيد رئيسي من الوضع القائم، انطلاقاً من عدة عوامل:
أولاً، تتجه الهند نحو تخطي الصين بمعدل نموها السكّاني (صدرت توقعات عن الأمم المتحدة، في إبريل/نيسان الماضي، أكدت أن الهند ستتجاوز الصين لتصبح الدولة الأكثر سكاناً في العالم بحلول منتصف عام 2023).
تحاول الهند اتّباع الحياد الذي مارسته الصين إبان الحرب الباردة
وتكمن نقطة قوة الهند ليس في العدد، بل في النوعية العمرية، فالهند تتمتع بمتوسط أعمار أقل بكثير من الصين التي تعاني من شيخوخة متزايدة في نموها الديمغرافي. وأدّى ذلك في الصين إلى ارتفاع أجور وكلفة العمّال نتيجة النقص الحاصل في القوة العاملة، خصوصاً أن سنّ التقاعد في الصين هو 60 عاماً، وهو الأقل في الدول الصناعية الكبرى، بالإضافة إلى تأثير سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها الصين للسيطرة على نموها السكاني قبل أن تتخلى عنها لاحقاً.
وقادت هذه السياسة في الصين إلى نشوء جيل يهمين عليه الذكور مع فرص أقل للارتباط، وثقافة اجتماعية لا تحبذ تربية الأطفال جرّاء الكلفة المالية والاجتماعية، وهو ما أوجد خللاً ديمغرافياً يصعب تعديله. كما أن الصين لا تحاول تعويض النقص في العمالة الماهرة بفتح باب الهجرة، ونتيجة لذلك، ارتفعت أجور العمّال. وبذلك، تفقد الصين أهم ميزة عندها لماكينتها التصنيعية الهائلة المتمثلة بعمالة رخيصة مقارنة مع الدول الغربية، وتحولها إلى نقطة جذب للشركات متعددة الجنسيات، ولكن دخول دول أخرى على خط التصنيع وبعمالة رخيصة، مثل فيتنام والهند، شكّل بديلاً عن الصين.
ثانياً، تتمتع الهند بعلاقات وثيقة وشراكات اقتصادية مهمة مع الغرب، وتشكل العمالة الهندية الماهرة حجر الزاوية في العديد من الصناعات ذات التكنولوجيا العالية، وأصبح وجود رئيس تنفيذي ذي أصل هندي في إحدى شركات وادي السيليكون أمراً معتاداً وشائعاً.
وفي مقابل العلاقات الوثيقة مع الغرب، تحاول الهند إقامة توازن في هذا الخصوص، فهي تتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا، والتزمت موقفاً محايداً تجاه الحرب على أوكرانيا، ولم تنسق إلى حملة المقاطعة الغربية لموسكو، بل عزّزت العلاقات الاقتصادية معها، وأضحت الهند من أكبر مستوردي النفط والغاز الروسيين إلى جانب الصين.
وتعكس عضوية الهند في مجموعات وتحالفات متضادة ومتناقضة نهج نيودلهي في محاولة اللعب على وتر الصراعات. فالهند عضو في مجموعة "بريكس" التي تضم كلاً من الصين وجنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا. "بريكس" نشأت أساساً كنوع من إيجاد بديل للهيمنة الأوروبية الأميركية على الهياكل والمنظمات الدولية. كما أن الهند جزء أساسي من تحالف "كواد" الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا واليابان، وهو أداة أساسية في محاولات تحجيم الصين، لكن التناقص هنا في اختيار نيودلهي للتحالفات يظهر بوضوح سعيها إلى محاولة شقّ طريق ثالث لها بعيداً عن الاستقطابات.
ويرى مدير معهد جنوب آسيا التابع لمركز "وودرو ويلسون" في واشنطن، مايكل كوغلمان، أن "الهند، على الرغم من التزامها بسياسة عدم الانحياز، إلا أنها تعمل كل ما في وسعها لمواجهة بكين. فلطالما كانتا تتنافسان استراتيجياً، وقد أدت الاستفزازات الصينية المتزايدة في السنوات الأخيرة، والوجود البحري الصيني في الروافد الغربية للمحيط الهندي، إلى زيادة القلق الهندي، لتتحول بكين إلى أكبر مصدر قلق أمني لنيودلهي".
كما ترى الهند أن الاهتمام الغربي بها نابع أساساً من نظرته لنيودلهي كشريك جيوسياسي قادر على موازنة وترويض التنين الصيني، انطلاقاً من عدد السكان إلى مساحة البلاد ومعدلات النمو الاقتصادي المرتفعة. وبما أن الهند قوة نووية، فهي يمكن أن تكون جاراً ذا وزن ثقيل، يخدم محاولات الولايات المتحدة لمنع سيطرة الصين على الفضاء الآسيوي والتمدد خارجه، وهي سياسة تركز على التحجيم الوقائي للصين ومحاصرتها.
ويقول كوغلمان، لـ"العربي الجديد"، إن "الولايات المتحدة وبعض حلفائها ذوي التفكير المماثل ينظرون إلى الهند، أكثر دول العالم اكتظاظاً بالسكان والأسرع نمواً اقتصادياً، باعتبارها شريكاً رئيسياً في المنافسة مع الصين". وهذا ما يفسر، برأيه، "الزيادة في مبيعات الأسلحة الأميركية للهند، فضلاً عن الجهود الأخيرة التي بذلتها الولايات المتحدة والعديد من الشركات الغربية الكبرى لوضع الهند كثقل اقتصادي مواز للصين، وهو ما أدى إلى نقل مراكز إنتاج شركات التصنيع والتكنولوجيا الكبرى إلى الهند، ومنح الهند دوراً أكثر بروزاً في تنويع سلاسل توريد أشباه الموصلات التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الصين".
تحديات داخلية وخارجية
لكن الفرص الكبيرة التي يحملها النظام العالمي للهند والصراع القائم تقابلها تحديات خارجية وداخلية قد تحد من قدرة الهند على استثمار هذه الفرص بشكل كبير. فعلى المستوى الداخلي، وخصوصاً الديمغرافي، وعلى الرغم من أنها تتمتع بمتوسط أعمار أقل من الصين، إلا أن ثلث سكان الهند على سبيل المثال يعانون من سوء تغذية، وهناك عشرات الملايين منهم محرومون من الرعاية الصحية والتعليم الجيّدين، ويظهر هناك تفاوت طبقي تنموي كبير بين ولايات الشمال والجنوب.
تكمن نقطة قوة الهند من حيث النمو السكّاني ليس في العدد، بل في النوعية العمرية
ولا تتمتع الهند ببنية تحتية قوية ومتقدمة كالتي تمتلكها الصين. ومن أجل استمرار عجلة النمو الاقتصادي وزيادة الثروة، على الهند أن توجد 30 مليون فرصة عمل سنوياً، وأن تستثمر المليارات في تطوير التعليم والصحة والبنى التحتية. وهي مهمة ضخمة تستلزم وقتاً وتخطيطاً وجهازاً إدارياً بيروقراطياً محترفاً قد لا تمتلكه الهند.
على الصعيد الداخلي أيضاً، تتحول الهند تدريجياً من أكبر ديمقراطية في العالم إلى أكبر ديمقراطية إثنية حصرية للهندوس مع تهميش المسلمين وباقي الأقليات الأخرى. وفي عهد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، تصاعد الخطاب الديني الهندوسي المحرّض على كل الأقليات، وخصوصاً المسلمين، وغدا أداة تجنيد وتحريض سياسية أساسية للحزب الحاكم "بهارتيا جاناتا". ونتيجة لذلك، تراجعت الحريات العامة إلى معدلات قياسية.
هذا المناخ الداخلي يحمل مخاطر واضطرابات داخلية كبيرة، وخصوصاً أن المسلمين عددهم لا يقل عن 200 مليون من أصل 1.4 مليار نسمة. ومع استمرار الخطاب الإقصائي التحريضي الساعي إلى حصر السلطة والمشاركة السياسية على إثنية واحدة ودين واحد دون سائر الأديان، تفقد الهند تنوعها الحضاري والديني التاريخي، الذي ميّز ثقافتها وساهم في بناء قوتها الناعمة.
ويرى كوغلمان أن "الولايات المتحدة والغرب ينظران على نطاق أوسع إلى الهند باعتبارها لاعباً استراتيجياً مهماً، ما يدفعهما إلى التغاضي عن سياسة نيودلهي المحلية، والتي يعتقد العديد من المراقبين أنها تعكس تراجعاً ديمقراطياً". ويلفت مدير معهد جنوب آسيا التابع لمركز وودرو ويلسون إلى أنه "من خلال انخراط الهند في حملة مواجهة الصين، أصبحت نيودلهي محمية من الانتقادات الغربية، خصوصاً ما يتعلق بسجلها في الحريات والديمقراطية".
هامش ضيّق للمناورة
على الصعيد الدولي، تبدو محاولات الهند للتوازن محفوفة بالمخاطر. وعلى الرغم من أن مودي التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ ما لا يقل عن 18 مرة، إلا أن خطر تفاقم الخلاف بين الصين والهند مستمر. وعلاوة على الخلافات الحدودية القديمة بين البلدين، تضغط الولايات المتحدة على الهند لممارسة دور أكبر في سياسة تحجيم الصين، وهو أمر يضيّق هامش المناورة والتحرك للهند ويدخلها في أتون صراع قد يبطئ عجلة النمو الاقتصادي ويفرض مخاطر استراتيجية على خطط التنمية وتوسعة النفوذ.
علاوة على ذلك، لا يبدو أن الهند تقدم أي مبادرات سياسية لتهدئة علاقاتها المتوترة مع بعض جيرانها. فبالإضافة إلى الصين، هناك مشاكل لا تنتهي مع باكستان، وخصوصاً في شأن إقليم كشمير، ويحمل المستقبل مخاطر تجدد النزاع بين البلدين، ويكمن الخطر في أن الجارين يمتلكان أسلحة نووية.
وبحسب مايكل كوغلمان، فإن الهند حافظت على موقف الحياد المدروس في العديد من قضايا السياسة الخارجية المعقدة منذ الاستقلال، وهذا هو سبب نجاحها في تحقيق التوازن. فلقد وازنت علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا وإيران والسعودية على سبيل المثال.
ويستدرك المتخصص في الشأن الآسيوي بالقول إن "قضية الصين مختلفة، لأنها تمثل تحدياً استراتيجياً وأمنياً أساسياً لنيودلهي. لذا فقد كانت الهند مستعدة لوضع نفسها بشكل منفتح تماماً مع الولايات المتحدة ودول الرباعية الأخرى والدول الأخرى في أوروبا وآسيا التي تحرص على مواجهة القوة الصينية".
لكن إصرار الهند على البقاء خارج نظام التحالف التام، يُقصد به، برأيه، "أن يكون بمثابة تذكير بأنه على الرغم من أنه الهند ليست محايدة بشأن قضية الصين، إلا أنها لا تزال حذرة. فالفكرة هنا هي الحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي والقدرة على الاحتفاظ بالمرونة في سياستها الخارجية".
تعكس عضوية الهند في مجموعات وتحالفات متضادة نهجها في محاولة اللعب على وتر الصراعات
ويضيف كوغلمان أنه "مثل العديد من الدول التي تنظر إلى الصين على أنها تهديد استراتيجي، لا ترغب الهند في الانفصال اقتصادياً عن الصين". ويشرح أن "الاستثمارات الصينية في الصناعات الهندية الرئيسية، السيارات والتصنيع، تعني أن نيودلهي لا تستطيع إنهاء العلاقات التجارية مع بكين على الرغم من أن التجارة الثنائية كانت في تراجع خلال السنوات الأخيرة".
ويعتبر كوغلمان أنه "لا يزال بإمكان الهند الاستفادة من اتخاذ موقف يمكن وصفه بالشراكة دون تحالف"، مضيفاً أن "رغبة الهند في الشراكة مع الولايات المتحدة وحلفائها تعني أن لديها فرصاً ليس فقط لتلقي المزيد من الأسلحة، ولكن أيضاً لتصبح شريكاً استراتيجياً رئيسياً وشريكاً تجارياً".
ووفق كوغلمان، فإن الهند رفضت اقتراحات أميركية معينة للعمل ضد الصين. ويضيف أن "الهند تحاول البقاء خارج نظام التحالف المناهض للصين الذي تقوده الولايات المتحدة، وهذا يستبعد أي نوع من التعاون العملياتي (بالمعنى العسكري) مع الولايات المتحدة وحلفائها لمواجهة الصين". ويلفت إلى أن "الهند هي نصير قوي لاستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ ومجموعة الرباعية، وكليهما يهدف إلى مواجهة الصين، لكن تبني هذه المبادرات المضادة للصين لا يعني التحالف رسمياً مع الولايات المتحدة والانخراط التام والكامل في مبادراتها".
اطمئنان إلى الدعم الأميركي
وفي دراسة لمركز "الأمن الأميركي الجديد" أنجزها كل من ليزا كورتس وديرك كروزمان، فإن المسؤولين الهنود يعتقدون أن الصين تحاول احتواء الهند، من خلال إجبارها على تحويل المزيد من الموارد الاقتصادية لغايات الدفاع عن كل من حدودها الغربية مع باكستان والجانب الشرقي مع الصين، ومن خلال إضعاف رغبتها وقدرتها على تحدي الطموحات الصينية للهيمنة على المنطقة.
وبحسب الدراسة، فإن الهند تسعى إلى التدخل الأميركي المباشر في النزاع الحدودي بين الهند والصين أو أي أزمة قد تنشأ، ونيودلهي واثقة من أنها تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة للحصول على بعض أشكال الدعم إذا طلبت ذلك. ففي إحدى جولات النزاع الحدودي، وخصوصاً تلك التي اندلعت في عام 2020، استجابت الولايات المتحدة للأزمة من خلال تقديم الدعم الدبلوماسي والمادي الكامل للهند. وقدمت واشنطن معلومات استخبارية، ومعدات عسكرية، بما في ذلك طائرتان من دون طيار من طراز "أم كيو 9 بي" ومعدات متخصصة تستطيع العمل في ظروف الطقس شديد البرودة التي تناسب مناخ مناطق النزاع الحدودي بين البلدين.
وبحسب الدراسة، فإنه عقب النزاع الحدودي في 2020، تعمّقت العلاقات بين الولايات المتحدة والهند نتيجة لرد الولايات المتحدة، ولاحظ كبار المسؤولين الهنود بشكل خاص أن الدعم الأميركي للهند خلال الأزمة كان له تأثير إيجابي عميق على قدرة الهند على الدفاع عن حدودها.
ولفتت الدراسة إلى أن "الصين تحاول إقناع الهند، من خلال حملات التضليل المعقدة، بأن الولايات المتحدة ليست شريكاً موثوقاً به للهند، وأنها سبب المشكلات بين الصين والهند. لكن المسؤولين الهنود يعتقدون أنهم على الأرجح سيكونون قادرين على التواصل والحصول على دعم كبير من الولايات المتحدة في حال حدوث أزمة حدودية محتملة أخرى".
لا أحد يعلم بالضبط ما ستؤول إليه الأوضاع في جنوب آسيا، فالهند أصبحت شريكاً دفاعياً للولايات المتحدة، وقوة ديمغرافية اقتصادية نامية بمعدلات قياسية، في وقت تنتهج الولايات المتحدة سياسة لاحتواء الصين، وتريد بقوة أن تدفع نيودلهي للانخراط فيها. فإلى أي حد تمتلك الهند القدرة على المناورة وعدم الانجرار إلى صدام مباشر مع الصين؟ وهل تستطيع أن توائم بين طموحاتها لتكون بديلاً اقتصادياً عن الصين أو منافساً لها على الأقل من دون كلفة سياسية عالية؟ معادلة دقيقة تستدعي نمواً اقتصادياً متسارعاً يترافق مع إصلاحات هائلة وبنية تحتية ضخمة، إضافة إلى قراءة دقيقة للواقع الدولي والاستثمار الأمثل للاستقطاب الحاد الذي يتجه إليه العالم بشكل متسارع.