هكذا تعثر مشروع الرصيف الأميركي العائم قبالة ساحل غزة

25 يوليو 2024
عطلت الأمواج عمل الرصيف العائم بشكل متكرر، غزة 27 مايو 2024 (داود أبو الكاس/الأناضول)
+ الخط -

عندما فكرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمرة الأولى في إصدار أمر للجيش بإنشاء الرصيف العائم قبالة ساحل قطاع غزة في أواخر عام 2023 لإيصال المساعدات، لم يجر التعامل مع الأمر على أنه أولوية. وكانت الولايات المتحدة وقتها تتعرض لضغوط لتخفيف الأزمة الإنسانية في القطاع الفلسطيني الذي تمزقه الحرب، وهي أزمة فاقمها إغلاق إسرائيل العديد من المعابر الحدودية البرية، وبالتالي اتجهت الأنظار إلى تسليم إمدادات الإغاثة الإنسانية بحراً باعتباره حلاً محتملاً.

وقال مسؤول أميركي سابق وآخر حالي إن الأميرال كريستوفر جرادي، نائب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة وصاحب الخبرة البحرية الطويلة، أبلغ اجتماعاً أنه يشعر بقلق بالغ من أن البحر قد يصبح هائجاً للغاية بحيث لا يتمكن أي رصيف عائم من توصيل المساعدات الإنسانية، وعرض أمام الاجتماع كل المخاطر التي يراها مرتبطة بالطقس. ولم تظهر الفكرة مرة أخرى إلا في أوائل 2024، عندما أصبح الوضع في قطاع غزة أكثر بؤساً ومع تحذير منظمات إغاثة من أن مجاعة واسعة النطاق بين المدنيين الفلسطينيين تلوح في الأفق.

وقال مسؤول كبير سابق في إدارة بايدن: "وصلنا إلى نقطة بدا فيها من المناسب تحمل مزيد من المخاطر لأن الاحتياج بات ضخماً للغاية"، لكن ما نتج عن تلك النقاشات والقرارات خلال تنفيذ مهمة الرصيف العائم المؤقت لم يسر على ما يرام. وجرى التنفيذ بمشاركة ألف جندي أميركي، لكن الرصيف لم يوصل إلا قسماً ضئيلاً من المساعدات التي تعهد بتسليمها رغم أنه كلف ما يقرب من 230 مليون دولار. كما تعرض الرصيف العائم المؤقت منذ بداية العمليات للحظ العاثر وسوء التقدير بما شمل نشوب حريق وسوء أحوال الطقس والمخاطر على البر من المعارك التي تدور بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس).

واعترف بايدن، بعد أن تعهد "بزيادة ضخمة" في المساعدات، بأن الرصيف العائم لم يرق إلى مستوى تطلعاته، وقال للصحافيين في 11 يوليو/تموز: "كنت آمل أن يكون ذلك أكثر نجاحاً". ولم ترد أنباء من قبل عن النقاشات الداخلية بشأن رصيف غزة، بما في ذلك الخيارات المستبعدة لنشر قوات في القطاع لفترة وجيزة.

وكانت مهمة الرصيف، التي انتهت رسمياً الأسبوع الماضي، الأكثر إثارة للجدل من بين محاولات الجيش الأميركي للمساعدة في احتواء تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، التي اندلعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأثارت انتقادات من معارضين لبايدن من الجمهوريين والعديد من موظفي الإغاثة الحاليين والسابقين.

وأحالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الإجابة عن الأسئلة ذات الصلة بالرصيف العائم إلى مضمون تصريحات أدلى بها نائب الأميرال براد كوبر، نائب قائد القيادة المركزية الأمريكية في إحاطة في 17 يوليو/تموز الحالي، وفي تلك الإحاطة، قال كوبر إن المهمة كانت ناجحة، حيث جرى تسليم أكبر كمية من المساعدات على الإطلاق إلى الشرق الأوسط. ووصف مايك روجرز، وهو النائب الجمهوري الذي يرأس لجنة الرقابة العسكرية في مجلس النواب الأميركي، الرصيف بأنه "مصدر إحراج"، وأضاف لرويترز: "الرصيف هو نتيجة حسابات سياسية سيئة ومغلوطة من إدارة بايدن".

ومع تصاعد المخاوف في 2023 إزاء الأزمة الإنسانية بغزة، كُلِّف كورتيس ريد كبير، موظفي مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض وقتها، بتكوين مجموعة عمل مع أجهزة ووكالات حكومية مختلفة لبحث سبل زيادة المساعدات إلى القطاع. وقال المسؤول السابق الكبير: "كان طلباً من كل الأجهزة والوكالات بأن تضع كل ما لديها على الطاولة"، ثم بدأ البنتاغون بحث الخيارات. ورداً على طلب للتعليق، أقر مجلس الأمن القومي بوجود نقاشات بين الأجهزة والوكالات الحكومية بشأن خيارات محتملة للسياسة حيال الأمر. وقالت أدريان واتسون، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي: "بفضل هذا العمل، تمكنا من تعزيز تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة مستخدمين كل أداة ممكنة".

وذكر ريد أن الجنرال مايكل "إريك" كوريلا، قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي، اقترح في البداية، عندما أَطلع وزير الدفاع لويد أوستن على تفاصيل تنفيذ مهمة الرصيف العائم، أن يتضمن الأمر إرسال عدد محدود من القوات الأميركية للوجود على الأرض بشكل مؤقت لربط الرصيف بالشاطئ. وقال ريد ومسؤول أميركي حالي إن أوستن كان على علم بأن البيت الأبيض يعارض نشر قوات أميركية في قطاع غزة وإنه طلب من كوريلا إعادة صياغة تفاصيل تنفيذ المهمة. وأضاف ريد أن كوريلا وضع خطة لتدريب القوات الإسرائيلية على تركيب الرصيف على الشاطئ، ونفذت القوات الإسرائيلية الخطة في وقت لاحق.

ونفى مسؤول دفاع أميركي، طلب عدم ذكر اسمه، الرواية وقال: "نشر قوات على الأرض لم يكن أمرا مطروحا على الإطلاق"، وقال مسؤولون حاليون وسابقون إن القيادة المركزية كانت واثقة جداً من نجاح مشروع الرصيف. وتابع ريد قائلاً: "كانت القيادة المركزية الأميركية والجنرال كوريلا يقولان منذ اليوم الأول وباستمرار: نستطيع أن نفعل هذا".

حظ عاثر واجه الرصيف العائم

وواجه الرصيف العائم أول حظ عاثر في 11 إبريل/نيسان الماضي، عندما اندلع حريق في غرفة محركات سفينة حربية تابعة للبحرية كانت تنقل جزءاً من منظومة الرصيف إلى البحر المتوسط. وتمكن الطاقم من إخماد الحريق لكن اضطرت السفينة إلى العودة إلى الولايات المتحدة، أما الطقس فقد كان هو المشكلة الأصعب.

جاءت تحذيرات مبكرة من الصعوبات التي قد تواجهها القوات الأميركية بسبب هياج البحر في الصيف الماضي، عندما حاولت القوات الأميركية تركيب رصيف على شاطئ أسترالي خلال تدريب عسكري. وقال ضابط عمل بشكل مباشر في ذلك التدريب العسكري على تركيب الرصيف لرويترز إن البحر كان هائجاً للغاية، وفي نهاية المطاف، لم يتمكن الجنود من ربط الرصيف مباشرة بالشاطئ واضطروا إلى استخدام قوارب لنقل الإمدادات من نهاية الرصيف العائم إلى الشاطئ.

ويقر مسؤولون أميركيون بأن أحوال الطقس في البحر المتوسط شكلت مصدر قلق لهم، لكنهم لم يكونوا مستعدين لمدى اضطراب الظروف البحرية التي اتضح أنها أسوأ من المتوقع. وقال مسؤول دفاع أميركي بارز: "التوقعات التي كانت لديهم هي أن حالة البحر ستكون هادئة نسبياً حتى شهر سبتمبر/أيلول"، لكن الأمواج كانت عاتية لدرجة أنها كسرت الرصيف بعد تسعة أيام فقط من بدء تشغيله في 16 مايو/أيار، والضرر كان بالغاً لدرجة أن الرصيف كان يجب أن يُنقل إلى ميناء أسدود الإسرائيلي لإصلاحه.

ولم تكن هذه الواقعة استثناءً بل كانت الوضع الطبيعي تقريباً نظراً لأن الأحوال الجوية السيئة عطلت تشغيل الرصيف العائم وقلصت مدة عمله لتقتصر على 20 يوماً فقط، وهي نصف المدة التي استغرقها نقل الرصيف بأكمله عبر البحر إلى قبالة قطاع غزة. ورغم عدم وقوع أي وفيات أو هجمات مباشرة معروفة على الرصيف، أصيب ثلاثة جنود أميركيين أثناء دعمهم العمليات في وقائع غير قتالية، واستدعت حالة أحدهم نقله للعلاج وهو في حالة حرجة.

مبالغة في تقدير قدرة التوزيع

كما ثبت أيضاً أن توصيل الطعام ومستلزمات المأوى والرعاية الطبية التي جرى جلبها إلى الشاطئ عبر الرصيف كان أصعب من المتوقع. وسعى الجيش الأميركي إلى إرسال ما يصل إلى 150 شاحنة يومياً من المساعدات القادمة. ولكن نظرا لأن الرصيف العائم عمل مدة 20 يوماً فقط، يقول الجيش إنه نقل ما مجموعه 19.4 مليون رطل فقط من المساعدات إلى قطاع غزة ويعادل ذلك نحو 480 شاحنة من المساعدات جرى تسلمها إجمالاً من الرصيف، بناء على تقديرات برنامج الأغذية العالمي في وقت سابق من هذا العام للوزن الذي يمكن أن تحمله شاحنة.

وتقول الأمم المتحدة إن هناك حاجة لدخول نحو 500 شاحنة محملة بالمساعدات يومياً لتلبية احتياجات الفلسطينيين في القطاع. وبعد أيام فقط من وصول أولى شحنات المساعدات من الرصيف في قطاع غزة، تزاحمت وتدافعت حشود على شاحنات واستولت على بعض ما تحمله.

وأدى قتل إسرائيل سبعة من موظفي وورلد سنترال كيتشن في إبريل/ نيسان واستخدامها منطقة قريبة من الرصيف لتطلق منها مهمة إنقاذ رهائن في يونيو/حزيران إلى إضعاف ثقة منظمات الإغاثة بعمليات الرصيف. واعتمدت الولايات المتحدة على تلك المنظمات لتتسلم الإمدادات من الشاطئ وتوزعها على السكان.

واعترف مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية بأن تسليم المساعدات "اتضح أنه ربما يكون أكثر صعوبة مما توقعه المنظمون"، وقال أحد المسؤولين السابقين إن كوريلا أثار مسألة التوزيع باعتبارها مصدر قلق في وقت مبكر. وذكر المسؤول السابق: "كان الجنرال كوريلا واضحاً جداً أيضاً بشأن ذلك: يمكنني القيام بدوري من هذا، ويمكنني القيام بالتوزيع إذا كلفت بذلك"، وأضاف: "لكن تم تحديد أن ذلك خارج نطاق المهمة بشكل واضح. ولذلك كنا نعتمد على هذه المنظمات الدولية".

وقال مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون لرويترز إن الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة لم تكن أبداً متحمسة بشأن الرصيف العائم. وفي اجتماع مغلق للمسؤولين الأميركيين ومنظمات الإغاثة في قبرص في شهر مارس/آذار، أعلنت سيغريد كاج، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، دعماً ضمنياً لمشروع الرصيف العائم الذي اقترحه بايدن. لكن كاج شددت مراراً على أن الأمم المتحدة تفضل إيصال المساعدات عبر "البر.. البر.. البر"، وفقاً لمصدرين مطلعين على المناقشات.

وجاء قلق منظمات الإغاثة الضمني في الخلفية من أن بايدن، وبسبب تعرضه لضغط من ديمقراطيين بسبب قتل إسرائيل مدنيين في قطاع غزة، كان يدفع لحل من شأنه أن يكون في أفضل الأحوال حلاً مؤقتاً، وفي أسوأ الأحوال سيخفف الضغط عن حكومة نتنياهو من أجل فتح طرق برية إلى القطاع. ووصف ديف هاردن، المدير السابق لبعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مشروع الرصيف بأنه "مسرح إنساني". وأضاف: "خفف هذا للأسف الضغط عن إتاحة عمل المعابر (البرية) بشكل أكثر فعالية".

(رويترز، العربي الجديد)