هكذا استطاع بوتين بناء لوبي سياسي مؤيد في أوروبا

15 فبراير 2022
علاقة قوية تجمع شرودر وبوتين (Getty)
+ الخط -

منذ سنوات تتبنّى روسيا استراتيجية اختراق النخب الأوروبية، كسبيل لتحقيق المصالح وللتأثير على وحدة موقف دول الاتحاد الأوروبي. استراتيجية تبدو بصماتها واضحة في أسماء من الوزن الثقيل، جرّتها مصالح متشعبة إلى أن تكون تقريباً "في جيب الكرملين".

المحاولات الروسية لتوسيع بناء قاعدة من جماعات الضغط لصالحها، تتخطى الحدود الأيديولوجية، وباتت اليوم تسترعي انتباهاً في أوساط أوروبية، بعد أن تبيّن تشتت المواقف في مواجهة روسيا. علماً أن موسكو عملت أيضاً لسنوات في مد شوارع أوروبية متشنجة، بأخبار بعضها مزيف، لتوسيع تأييد معسكر الشعبويين، والمتشككين بعضوية دولهم في الاتحاد الأوروبي.

من ألمانيا إلى فنلندا وفرنسا والنمسا وإيطاليا، وغيرها من الدول، يمكن تتبّع الحجم الكبير لاستثمار طبقة الأوليغارشية المرتبطة بالكرملين، في رؤساء حكومات ووزراء وسياسيين أوروبيين حوّلهم المال إلى "مستشارين" لروسيا، مع ما يحمله ذلك من نفوذ وتأثير على صنّاع القرار في دولهم.

التعاون الوثيق بين الكرملين ومستشار ألمانيا الأسبق، غيرهارد شرودر، ورئيسي الحكومة والجمهورية الفرنسيين الأسبقين، فرانسوا فيون ونيكولا ساركوزي، ورئيس فنلندا الأسبق بافو ليبونين، ووزيرة خارجية النمسا السابقة كارين كنايسل، وغيرهم في القارة، بات يثير قلقاً أوروبياً بسبب عمق اختراق النخبة الروسية لقارتهم العجوز. وذلك يدفع، بحسب ما يقول مصدر خاص في البرلمان الأوروبي لـ"العربي الجديد"، نحو مطالب بـ"إعادة النظر بما يجري، وتعجيل فتح تحقيق عن عمق الاختراق".

يدفع برلمانيون أوروبيون لتبني قوانين تمنع الساسة السابقين من تولي مهام استشارية خلال سنوات معينة بعد ترك مناصبهم


ويسعى حالياً بعض البرلمانيين الأوروبيين، وفقاً لمصادر خاصة بـ"العربي الجديد" من كتلة اليسار، إلى الدفع نحو تبني دول الاتحاد الأوروبي قوانين تمنع الساسة السابقين، خلال سنوات معينة بعد خروجهم من مناصبهم الرسمية، من تولي مناصب أو قبول مهام استشارية للشركات أو تأسيس جماعات ضغط من أجل مصالح دول أخرى.

غيرهارد شرودر... من مستشار ألمانيا إلى مستشار بوتين

على الرغم من أن أوروبا فرضت عقوبات على موسكو، بسبب ضم القرم (عام 2014) واستهداف معارضين على أراضيها، بقيت علاقة كبار السياسيين الأوروبيين السابقين، وبرلمانيين حاليين، راسخة مع الكرملين، حتى في ظل الأزمة الراهنة مع أوكرانيا والمخاوف من "غزو محتمل". وذلك، مع غيره، يثير سجالاً وشكوكاً حول تأثيره السلبي المحتمل على وحدة مواقف القارة.

وإن كانت القوانين الأوروبية لا تمنع الساسة السابقين من الحصول على مثل تلك الوظائف، إلا أن وزير الخارجية البولندي (حتى 2018)، ونائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي حالياً، ويتولد يان وازكوفيسكي، وجّه أسئلة حولها للمفوضية الأوروبية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد أن عدد أسماء المتعاونين مع موسكو ومخاطر عدم التصدي للظاهرة على أوروبا.

غيرهارد شرودر من بين الأسماء الثقيلة التي طرحها وازكوفيسكي. وشرودر المنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي برئاسة المستشار الحالي أولاف شولتز، يثير منذ سنوات الكثير من الجدل بسبب إفلاته من دعوات فرض عقوبات عليه، وهو ما ظلت تنادي به أوكرانيا منذ 2018 لتمسكه بتلك العلاقة مع روسيا، على الرغم من توتر علاقة أوروبا مع موسكو، في مناسبات عدة.

وطرحت "وول ستريت جورنال" الأميركية، في 2018، أسئلة حول دور شرودر في تجنيب موسكو عقوبات تطاول شركات نفطية أو مشاريع الغاز، وخصوصاً "خط سيل الشمال 2" (نورد ستريم 2).

العلاقة الشخصية القوية بين شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدأت تظهر إلى السطح فور خروجه من المستشارية في 2005. فبعد أسابيع قليلة توجه إلى موسكو، وسرعان ما حصل على منصب رفيع في مجلس إدارة "نورد ستريم 2"، إضافة إلى صفات استشارية في شركات غاز ونفط يديرها الكرملين. وأصبح شرودر ضيفاً شخصياً على بوتين، وفي المنتجعات الخاصة، بمشاركة الرئيس التنفيذي لشركة "غازبروم"، أليكسي ميلر.


دفاع شرودر عن روسيا، وضعه أخيراً في موقف متصادم مع الأوكرانيين وغيرهم في القارة


دفاع شرودر بعناد عن روسيا، وضعه أخيراً في موقف متصادم مع الأوكرانيين وغيرهم في القارة. فقد اعتبر انتقاد كييف لـ"فيتو" برلين مدها بالسلاح "انتقادات بشعة". وفي أحد برامجه الإذاعية الأسبوعية، التي يطل من خلالها على الجمهور الألماني، أعاد تأكيد ضرورة تقديم حلف شمال الأطلسي ضماناً لاستبعاد عضوية أوكرانيا فيه، داعياً إلى ما سماه "إيجاد طرق تأخذ بالاعتبار المصالح الأمنية للجميع".

أهمية شرودر لنخبة موسكو أنه صاحب صلات وثيقة بمجمع الصناعات الثقيلة والطبقة السياسية في بلده، إلى جانب كونه رئيساً لمساهمي شركة "نورد ستريم 2" وفي مجلس إدارة شركة "روسنفت" الروسية. وذلك ما وسع شكوك أوروبيين آخرين حول دوره في تليين مواقف حكومة المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، واستثناء "نورد ستريم 2" من العقوبات بحجة أنه "مجرد مشروع تجاري".

دفع السجال حول شرودر، في بداية فبراير/شباط الحالي، بالمستشار الحالي أولاف شولتز، إلى النأي بنفسه عنه، معتبراً أنه لا يعبّر عن موقف الحكومة الألمانية. وشدد شولتز، بحسب وسائل إعلام محلية، على أنه لم يطلب من شرودر "ولا نصيحة واحدة، والحزب (الاشتراكي الديمقراطي) يقف موحداً وداعماً للسياسة التي تنتهجها الحكومة".

وعلى ما يبدو فإن شهية الروس لاستقطاب كبار السياسيين تتجاوز شرودر. وتحدث تقرير لـ"دويتشه فيله"، إلى أن الاختراق يصل إلى مستويات كانت تعمل في أجهزة أمن ألمانيا سابقاً.
وبحسب ما كشفت صحيفة "دي تسايت" الألمانية يوم 27 يناير/كانون الثاني الماضي، صدر قرار حكومي، بعد تشكيل لجنة تحقيق، يمنع الموظف في الخارجية الألمانية، سفيرها السابق في الرياض، ديتر فالتر هالر، من تولي منصبه كرئيس مجلس إدارة شركة "الغاز لأوروبا" (Gas for Europe)، وهي شركة أنشأتها "نورد ستريم 2".

ومن الواضح أن روسيا استغلت المبدأ الذي قامت عليه السياسة الخارجية الألمانية مع الاتحاد السوفييتي منذ أواسط الستينيات، القائم على نهج "التغيير بالتبادل التجاري"، وهو ما تبنّته ميركل خلال سنوات حكمها و16 زيارة إلى موسكو.

علاقات مشبوهة في فرنسا

فرنسا أيضاً لم تكن بعيدة عن استراتيجية الاختراق الروسي. ففي عهد بوتين انطلق العمل على قاعدة أهمية دور برلين وباريس في تشكيل السياسات الأوروبية، اللتين نظرتا إلى تقارب ساسة سابقين مع موسكو في سياق اعتبار أن روسيا "شريك كبير محتمل"، باستخدام الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية.


الجناح القومي المتشدد في باريس شكّل لسنوات بوابة لعلاقات مميزة مع الكرملين، وخصوصاً مع لوبان


الجناح القومي المتشدد في باريس شكّل لسنوات بوابة لعلاقات مميزة مع الكرملين، وخصوصاً مع زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان. وعلى الرغم من ذلك، تبدو العلاقات أعمق وأرفع، وأدت الاختراقات في ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى تعيين رئيس الوزراء الفرنسي السابق فرانسوا فيون، في مجلس إدارة عملاق البتروكيميائيات، "سيبور" (Sibur). ويمتلك الأوليغارشيان ليونيد ميخلسون وغينادي تيمشينكو غالبية أصول الشركة، بحسب تقارير فرنسية.

كان فيون حتى 2012 رئيساً للوزراء، وترشح للرئاسة في 2017. حُكم عليه في 2020 بالسجن خمس سنوات، ثلاث منها مع وقف التنفيذ، إثر إدانته في قضية وظائف برلمانية وهمية استفادت منها زوجته واثنان من أبنائه.

توثقت علاقة فيون ببوتين أثناء منصبه وتوالي زياراته إلى موسكو، وظل مدافعاً قوياً عن علاقات اقتصادية وثيقة بين أوروبا وروسيا. بل تعهد في حملته الانتخابية للرئاسة (في 2017) بالعمل لإزالة العقوبات الأوروبية على روسيا، بعد ضمها شبه جزيرة القرم.

كان لفيون علاقات قوية مع المسؤولين الروس (Getty)
كان لفيون علاقات قوية مع المسؤولين الروس (Getty)

وأفاد تقرير لصحيفة "لوموند" في مايو/أيار 2021، بأن نخبة الكرملين استطاعت نسج علاقات مع برلمانيين فرنسيين. وغير بعيد عن ذلك، دعت موسكو عدداً من السياسيين والبرلمانيين الأوروبيين المختارين بعناية، كـ"ضيوف خبراء" لا كمراقبين، أثناء استفتاء 2020 حول تعديل الدستور لصالح إعادة انتخاب بوتين رئيساً.

وعلى الرغم من احتجاج كييف على وصول برلمانيين فرنسيين إلى القرم، إلا أن باريس لم تتخذ أي إجراء، وفقاً لما ذكرت صحيفة "لوفيغارو" صيف 2020. وبحسب مصادر خاصة بـ"العربي الجديد"، لم تفلح حتى اليوم جهود يساريي البرلمان الأوروبي في كشف تمويل زيارة القرم والإقامة في فنادق فاخرة، وإن بقي الملف مفتوحاً، بانتظار خطوة ما من المفوضية الأوروبية.

ومن بين أعضاء البرلمان الأوروبي عن اليمين المتطرف الفرنسي، برز اسم السياسي المتشدد تييري مارياني، صاحب العلاقة المثيرة للجدل أيضاً برئيس النظام السوري بشار الأسد. وبحفاوة سوّقت موسكو "إشادة" هؤلاء بالاستفتاء باعتباره "ديمقراطياً للغاية وتاريخياً"، بحسب تقرير لصحيفة "نوفيا غازيت" الروسية.

الإشادة بالعملية الانتخابية تعارض تصنيف منظمة التعاون والأمن في أوروبا لها، والتي اعتبرتها "لا تمت للديمقراطية"، منتقدة ما سمته "المراقبين الزائفين"، وفقاً لتقرير "لوموند". مارياني ذهب في دفاعه عن بوتين حد اتهام "التعاون والأمن الأوروبي" بأنها "تحت سيطرة واشنطن، وتقاريرها مكتوبة سلفاً".

وفي الساحة الفرنسية أيضاً، وصلت مساعي الكرملين إلى الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي. وهو عرضة لتحقيق مكتب المدعي العام في الجرائم الاقتصادية منذ بداية 2021، ومستمر حتى اليوم، وبالأخص عن علاقته بشركة التأمين الروسية "ريسو غارانتيا" (Reso-Garantia)، وإبرامه عقداً معها في عام 2019 بقيمة ثلاثة ملايين يورو. وشركة "ريسو غارانتيا" مملوكة من سيرغي ونيكولاي سركيسوف، وفقا لشبكة الإعلام "ميديا بارت"، التي قالت إن ساركوزي متهم بأنه "ربما شارك في أنشطة ضغط إجرامية نيابة عن الأوليغارشية الروسية".

النمسا مثال آخر على الاختراق

وفي النمسا نسج بوتين علاقة وثيقة بوزيرة خارجيتها السابقة، كارين كنايسل، من حزب الحرية القومي المتشدد. وتوّجت العلاقة، بعد حضور بوتين شخصياً حفل زفاف كنايسل في 2018، وتعيينها عام 2019 في منصب رفيع في إدارة شركة "روسنفت" المملوكة للدولة الروسية.

كشفت فضيحة "إبيزا" في النمسا محاولة موسكو زيادة نفوذها في البلاد


وكانت فضيحة "إبيزا" أدت إلى انفراط عقد الحكومة، بعد أن ظهر نائب المستشار السابق، عن حزب الحرية، كريستيان شتراخه، في فيديو صُور سراً يناقش عرض امرأة ادعت أنها ابنة أخت عضو في الأوليغارشية الروسية، بدفع أموال لحزبه لقاء نفوذ لموسكو يمكّنها من شراء أشهر صحف البلاد، "كرونن تسايتونغ". وحكم في العام الماضي على شتراخه بالسجن 15 شهراً مع وقف التنفيذ، وذلك عن قضايا فساد، مثلما أطاحت تلك القضايا بالمستشار السابق، سيباستيان كورتز.

تورط شتراخه في فضيحة مع امرأة روسية (Getty)

وكان المستشار الأسبق من حزب الشعب اليميني، حتى 2007، فولفغانغ شوسل، حصل أيضاً على منصب في مجلس إدارة شركة أكبر منتج نفط روسية مملوكة للدولة "لوك أويل"، وفي مجلس إدارة شركة هواتف الخليوي الروسية "أم تي أس".

اختراقات روسية على المستويات الحزبية

محاولات النخبة الروسية خلق قاعدة أشبه بجماعات ضغط (لوبيات)، تتشعب باختراق المستويات الحزبية والجماعات الفاعلة في مجتمعات القارة العجوز، على الأقل منذ 2014. وينعكس ذلك بصورة أوضح في علاقة زعيمة التجمع الوطني في فرنسا مارين لوبان، وزعيم حزب الرابطة القومي المتشدد في إيطاليا ماتيو سالفيني، بنخبة محيطة بالكرملين. ومن بين الاختراقات، تسهيلات مالية على شكل قروض كُشف النقاب عنها في السنوات الأخيرة وتتعلق بمارين لوبان. هذا عدا عن العلاقة الوثيقة، بما فيها شكوك تمويل، لقيادات في حزب سالفيني.

وغير بعيد عن روسيا، وجدت سياسة الإغراء بالمال والمناصب طريقها إلى هلسنكي. فرئيس وزراء فنلندا الأسبق، بافو ليبونين (بين 1995 و2003)، تحوّل في 2008 إلى "مستشار" لمشروعي خط الغاز "نورد ستريم"، بنسختيه الأولى والثانية. ولولا الاعتراض البولندي في 2009، لأصبح ليبونين مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي. ومنذ 2019 بات ليبونين محط اهتمام وسائل الإعلام الفنلندية، مع انكشاف دوره الضاغط لمصلحة تمرير خط الغاز الروسي نحو ألمانيا.